مقالات وبحوث مميزة

 

 

مآخِذُ على ما يفعلُه بعضُ الأئمَّة في دعاء القُنوتِ

علوي بن عبد القادر السَّقَّاف

 

الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خير خَلْقِ الله مُحمَّدِ بنِ عبد الله، وعلى آلِه وصَحْبِه ومَنِ اتَّبَع هداه إلى يومِ الدِّينِ.

أمَّا بعدُ

فإنَّ مما يُفرِح قلوبَ المؤمنين ويُثْلِج صدورَهم ويغيظُ قلوبَ أعدائِهم ما نراه اليومَ مِن كثرةِ المساجِدِ التي تُقام فيها صلاةُ التَّراويحِ مع أئمَّةٍ نَحْسَبُهم- واللهُ حسيبُهم- مِن خيرةِ شَبابِ الأمَّةِ حِرصًا ونصحًا لها، وتزدادُ هذه الفرحةُ حينما يَرَوْن أنَّ كثيرًا من هؤلاءِ الأئمَّةِ مِن حَمَلَة المنهجِ السَّلفيِّ الصحيحِ علمًا وعملًا، لكِنْ مِمَّا يُؤْسَفُ له أنَّ البعضَ منهم لا يَسْلَمُ من أخطاءٍ يرتكِبُها أثناءَ صَلاتِه، ومِن هذه الأخطاءِ ما هو متعلِّقٌ بقنوتِ الوِتْرِ في صلاة التراويحِ، الأمرُ الذي يُوجِبُ التَّنبيهَ عليها؛ لكثرةِ الوقوعِ فيها، وقِلَّةِ المُنَبِّهينَ عليها، حتَّى أصبحَتْ تلك الأخطاءُ سُنَّةً مُتَّبعةً، مع أنها مِمَّا لا أعلمُ فيه خلافًا بين السَّلَفِ في النَّهيِ عنه وكراهَتِه، أمَّا ما فيه خلافٌ قديمٌ؛ مثل: كون دعاءِ القنوتِ في رمضانَ كُلِّه أم في النِّصْفِ الأخيرِ منه، وهل يكون قبل الرُّكوعِ أم بعده، ونحو هذا؛ فلن أتعرَّضَ إليه هنا.


فمن هذه الأخطاء:

1- المبالغةُ في رَفْعِ الإمامِ صَوْتَه في الدعاء؛ حتى يَصِلَ- أحيانًا- إلى حَدِّ الصِّياحِ والصُّراخِ.
هذا يحدُثُ مع أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول:  {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}  [الأعراف : 55] فسمَّى اللهُ سبحانه وتعالى رَفْعَ الصَّوْتِ في الدُّعاءِ اعتداءً، ويقولُ سبحانه:  {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء : 110] وفي الحديثِ الذي رواه البخاريُّ ومسلمٌ:  ((ارْبَعُوا على أنفُسِكم؛ إنَّكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائبًا، إنَّكُم تدعونَ سميعًا بصيرًا...))، ورَفْعُ الصَّوتِ بالدُّعاءِ بالإضافةِ إلى مخالفَتِه للسُّنَّة، مُذهِبٌ للخشوعِ، جالِبٌ للرِّياءِ، والعياذُ بالله.

2- المبالغةُ في رَفْعِ الصَّوتِ بالبُكاءِ.
ينبغي للإمامِ إذا تأثَّرَ بالقرآنِ أو بالدُّعاءِ أن يُدافِعَ البُكاءَ، فلم يكُنْ مِن هَدْيِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يبكِيَ في الصَّلاةِ بصوتٍ عالٍ ليُبْكِيَ مَن خَلْفَه؛ كما يفعله بعضُ الأئمَّةِ اليومَ- هداهمُ اللهُ- فيَسْتَدْعونَ ببكائِهم بُكاءَ غَيْرِهم، ناهيك أنَّهم يبكونَ بِنَحيبٍ وعَويلٍ وشَهيقٍ، بل كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يكتُم بكاءَه في صدْرِه؛ حتى يُصْبِحَ له أزيزٌ كأزيزِ المِرْجَلِ- أي: كَغَلْيِ القِدْرِ-؛ قال ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ عن هَدْيِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم في البُكاءِ: (وأمَّا بكاؤُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكانَ مِن جِنْسِ ضَحِكِه؛ لم يكُنْ بشَهيقٍ ورَفْعِ صَوْتٍ)، ولم يشعرْ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ الله عنه ببكاءِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا قرأ عليه طَرَفًا من سورةِ النِّساءِ، إلَّا بعد أنْ نَظَرَ إليه، فوجد عينَيهِ تَذْرِفانِ، والقِصَّةُ في صحيحِ البُخاريِّ؛ فمدافعةُ البُكاءِ اتِّباعٌ للسُّنَّة، ومدعاةٌ للإخلاصِ.

3- الإطالةُ المُفْرِطَةُ في الدُّعاء.
بعضُ الأئمَّة ربَّما جعل دعاءَ قُنوتِه أطوَلَ مِن صلاتِه، وهذا خلافُ هَدْيِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ إذ كان يدعو بجوامِعِ الكَلِمِ، بخلاف ما عليه كثيرٌ من الأئمَّةِ في هذه الأيَّام؛ فمنهم من يجعلُ الدُّعاءَ مَوعِظَةً يَذْكُرُ فيها الجنَّة وصِفاتِها، والنَّارَ وما فيها من أهوالٍ، وعذابَ القَبْرِ وما فيه مِن وَحْشةٍ وظُلْمَةٍ، في سَجْعٍ متكَلَّفٍ يستثيرُ به عواطِفَ النَّاسِ، ويستدعي بكاءَهم؛ لا تجدُ مِعشارَه أثناءَ قراءةِ القُرآنَ، كلُّ هذا مع أنَّه لم يُرْوَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في دعاءِ القُنوتِ إلَّا حديثُ الحَسَن بن عليٍّ رَضِيَ الله عنهما :  ((اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ...))  على خلافٍ في صِحَّةِ ثبوتِ ذِكْرِ الوِتْرِ فيه، وقد ورد الدُّعاءُ على الكَفَرةِ بعد النِّصْفِ من رمضانَ مِن فِعْلِ أُبَيِّ بن كعبٍ في عهد عُمَرَ رضي الله عنهما، ولسْتُ بِمُحَرِّجٍ على مَن دعا بغيرِ ذلك، لكنَّ الكلامَ هنا في الإطالةِ المُفْرِطَةِ في الدُّعاء بصورةِ تَشُقُّ على كثيرٍ من المُصَلِّينَ مع أنَّ الغالِبَ أنَّ فيهم المريضَ والكبيرَ والمرأةَ.

4- الاعتداءُ في الدُّعاءِ وتكلُّف السَّجْع فيه.
من الآثارِ السِّيئةِ لِتَرْكِ السُّنَّةِ والاكتفاءِ بالدُّعاءِ بالمأثورِ، والعدولِ عن ذلك باستعمالِ غرائِبِ الأدعيَةِ المسجوعةِ والمتَكَلَّفَةِ؛ ما يَقَعُ فيه بعضُ الأئمَّةِ من عباراتٍ تُعَدُّ اعتداءً في الدُّعاءِ، فمِنْ ذلك قولُ بَعْضِهم: (يا مَنْ لا تراهُ العيون، ولا يَصِفُه الواصفون) وإن كان هذا اللَّفْظُ قد وَرَدَ عند الطَّبَرانيِّ في الأوسط، إلَّا أنَّ إسنادَه ضعيفٌ، وهو مخالِفٌ لِمَا أَجْمَعَتْ عليه الأمَّةُ مِن وَصْفِ اللهِ جلَّ وعلا بما وَصَفَ به نفسه، ووَصَفَه به رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن ذلك أيضًا قولُ بَعْضِهم: (اللَّهُمَّ إنِّي لا أسألُكَ رَدَّ القضاءِ، ولكِنْ أسألُك اللُّطْفَ فيه)، فهذا معارِضٌ لِمَا في الحديث الحَسَن:  ((لا يَرُدُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ))  فكيف لا ندعو اللهَ بِرَدِّ القضاءِ؟! وفي صحيحِ البخاريِّ عن ابن عباسٍ رَضِيَ الله عنهما (فانظُرِ السَّجْعَ من الدُّعاءِ، فاجتَنِبْه؛ فإنِّي عَهِدْتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابَه لا يفعلونَ إلا ذلك الاجتنابَ).

وقد يدخُلُ التَّشقيقُ والتَّفصيلُ في الدُّعاءِ، والذي يفعلُه كثيرٌ من الأئمَّةِ في هذه الأيَّامِ مِنْ هذا الاعتداءِ؛ ففي سُنَنِ أبي داودَ أنَّ ابنًا لسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ الله عنه كان يدعو، فسَمِعَه سعدٌ، وهو يقول :  ((اللهمَّ إني أسألُكَ الجنَّةَ ونعيمَها وبَهْجَتَها وكذا وكذا، وأعوذُ بك من النَّارِ وسلاسِلِها وأغلالِها، فقال: يا بُنيَّ، إنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكونُ قومٌ يعْتَدونَ في الدُّعاءِ))؛ فإيَّاك أن تكون منهم، وإنَّك إنْ دَخَلْتَ الجنَّةَ نِلْتَ ما فيها من الخيرِ، وإن أُعِذْتَ من النَّارِ نَجَوْتَ مِمَّا فيها من الشَّرِّ))
  حسَّنَه الحافظُ ابنُ حجرٍ، والألبانيُّ، فسَمَّى التفصيلَ في الدُّعاءِ اعتداءً.

5- المبالغةُ في التَّلحينِ والتَّطريبِ والتغنِّي في الدُّعاءِ.
إنَّ مِمَّا يبعثُ على الأسى والحُزْنِ لجوءَ كثيرٍ ممَّنْ يُظَنُّ أنَّهم من مقتفي الأثَرِ إلى المبالَغةِ في الترنيمِ والتَّلحينِ والتطريبِ، بل والتجويد أحيانًا؛ حتى كأنَّ أحَدَهم يقرأُ السورةَ من القرآنِ، فتَجِدُه يُطَبِّقُ أحكامَ التجويدِ؛ كالإدغامِ والإخفاءِ والمدِّ، حتى يظُنَّ الظَّانُّ أنَّه يتلو آياتٍ من الكتابِ العزيزِ، وما هو مِنَ الكتابِ، ويزدادُ الطِّينُ بلَّةً إذا ضَمَّنَ دعاءَه آياتٍ من كلامِ اللهِ بحيث يَعْسُرُ على العوامِّ التَّفريقُ بينهما؛ ونتيجةً لذلك فإنَّ بعضَ النَّاسِ يتأثَّرُ بتلحينِ الإمامِ أكثَرَ من تأثُّرِه بالدُّعاء نَفْسِه، ولا يُفْهَمُ من هذا ألَّا يُحَسِّنَ الداعي صوتَه؛ فهذا لا بأسَ به، لكنَّ المذمومَ مِن ذلك هو ما يُذكِّرُ بدُعاءِ بعضِ أهلِ البِدَعِ في مُناسباتِهم، وهو ما نراه اليوم من كثيرٍ من الأئمَّةِ من المبالغةِ  في التلحين والتَّطريبِ، خصوصًا إذا جُمِعَ معها رَفْعُ الصَّوْتِ وخَفْضُه، واعتداءٌ مذمومٌ، ثم أخطاءٌ قد تكون عَقَديَّة.

6- مواظبة بعض الأئمَّةِ على دعاءٍ مُعَيَّن في كل قنوتٍ.
ومن ذلك تجدُ أن َّكثيرًا منهم يُلْحِقُ دعاءَ  ((اللهمَّ اهْدِنا فيمن هَدَيتَ ...))  بدعاء  ((اللهمَّ اقسِمْ لنا مِن خَشْيَتِك..))  لا يكادُ يتركُ ذلك ليلةً واحدةً، ولا يختم دعاءَه إلا بقولِه:  ((اللهمَّ إنَّا نعوذُ برضاك مِن سَخَطِك، وبمعافاتِك من عقوبَتِك ....))  حتى ظنَّ كثيرٌ من العامَّة-بل من الأخيارِ- أنَّ هذا من السُّنَّة، وهذا البدء والخَتْمُ بهذه الطريقة والمواظبة عليها أوَّلُ مَنِ ابتدأه أحدُ أئمَّة المسجِدِ الحرامِ الفُضَلاء رحمه الله، فتتابَعَ النَّاسُ عليه؛ فالدُّعاءُ الأوَّلُ سَبَقَ الكلامُ عليه، والثاني لم يَصِحَّ مطلقًا أنَّه من أدعية القنوتِ، والثالثُ ثبَتَ من حديثِ عائِشَةَ عند مسلمٍ أنه كان يقوله في سُجودِه؛ فقالت:  ((فقدْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ليلةً من الفراشِ فالتمَسْتُه فوَقَعَتْ يدي على بَطْنِ قَدَمَيهِ، وهو في المسجِدِ وهما منصوبتانِ))  عند النَّسائيِّ وأبي داودَ والتِّرمذيِّ:  ((وهو ساجِدٌ، وهو يقولُ: اللهمَّ أعوذُ بِرِضاك مِن سَخَطِك، وبمعافاتِك من عقوبَتِك، وأعوذُ بك منك لا أُحْصِي ثناءً عليكَ، أنت كما أثنَيْتَ على نَفْسِك))  وورد عند أحمدَ وغيرِه من أصحابِ السُّنَنِ أنَّه كان يقولُه في آخِرِ وِتْرِه؛ ومعلومٌ أنَّ القنوتَ في أوَّلِ الوِتْرِ وليس في آخِرِه، وعند النَّسائيِّ وغيره: (إذا فَرَغَ من صلاتِه وتبوَّأَ مَضْجَعَه)؛ لذلك قال بعضُ العلماءِ في آخِرِ وِتْرِه؛ أي: بعد السلامِ مِنْهُ، واستبعد ابنُ تيميةَ أنَّه كان يقولُه في الوِتْرِ، فقال في الفتاوى (17/91): (وروى الترمذيُّ أنَّه كان يقولُ ذلك في وِتْرِه، لكنْ هذا فيه نظرٌ)، فإذا كانَتِ المواظبةُ على القنوتِ كلَّ ليلةٍ فيها إيهامٌ للعامَّةِ أنَّها السُّنَّة المستقِرَّةُ، مع أنَّ تَرْكَه أحيانًا أفضلُ، فكيف بالمواظَبَةِ على دُعاءٍ مُعَيَّنٍ في أوَّلِه وآخِرِه؟!

واللهُ أعلمُ.