الموسوعة العقدية

تمهيدٌ: العَلاقةُ بيْن العَقلِ والشَّرعِ

من تَكريمِ الإسلامِ للعَقلِ إعمالُه فيما خُلِقَ له، وحَجْبُه عن الخَوضِ فيما لا سبيلَ للوُصولِ إليه.
وبابُ الصِّفاتِ يتضَمَّنُ عُلومًا ضروريَّةً، وعُلومًا نظريَّةً، وعلومًا غَيبيَّةً، فالعُلومُ الضَّروريَّةُ يتَّفِقُ عليها جميعُ العُقَلاءِ، والعلومُ النَّظَريَّةُ يتفاوتُ النَّاسُ في إدراكِها بحَسَبِ ما أُوتوا من قُدُراتِ ذِهنيَّةٍ وتدَبُّرٍ ونَظَرٍ، وأمَّا العلومُ الغَيبيَّةَ فتعَلُّقُ العقلِ بها من جِهتَينِ:
أولًا: العِلمُ بها: وهذا لا يَستَقِلُّ به العَقلُ، ولا يَهتَدي إليه من حيثُ هو إلَّا أن يُهدَى إليه بخَبَرِ الوَحْيِ الصَّادِقِ، فيَعلَمُه حينئذٍ عِلمًا معنويًّا عامًّا مَبنيًّا على الاشتراكِ الذِّهنيِّ مع ما يُوافِقُه في عالَمِ الشَّهادةِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (لَمَّا أعرَضَ كثيرٌ مِن أربابِ الكلامِ والحُروفِ وأربابِ العَمَلِ والصَّوتِ عن القُرآنِ والإيمانِ، تجِدُهم في العَقلِ على طريقِ كثيرٍ مِن المتكَلِّمةِ يجعَلونَ العَقلَ وَحْدَه أصلَ عِلْمِهم، ويُفرِدونَه ويَجعَلونَ الإيمانَ والقُرآنَ تابِعَينِ له. والمعقولاتُ عِندَهم هي الأصولُ الكُلِّيَّةُ الأوَّلِيَّةُ المُستَغنيةُ بنَفْسِها عن الإيمانِ والقرآنِ. وكثيرٌ مِن المتصَوِّفةِ يَذُمُّونَ العَقْلَ ويَعيبونَه، ويَرَونَ أنَّ الأحوالَ العاليةَ والمقاماتِ الرَّفيعةَ لا تَحصُلُ إلَّا مع عَدَمِه، ويُقِرُّونَ من الأمورِ بما يُكَذِّبُ به صريحُ العَقلِ، ويَمدَحونَ السُّكرَ والجُنونَ والوَلَهَ وأمورًا مِن المعارِفِ والأحوالِ التي لا تكونُ إلَّا مع زَوالِ العَقْلِ والتَّمييزِ، كما يُصَدِّقونَ بأمورٍ يُعلَمُ بالعَقلِ الصَّريحِ بُطلانُها مَّمن لم يُعلَمْ صِدْقُه! وكِلا الطَّرَفينِ مذمومٌ، بل العَقلُ شَرطٌ في معرفةِ العُلومِ، وكَمالِ وصَلاحِ الأعمالِ، وبه يَكمُلُ العِلمُ والعَمَلُ، لكِنَّه ليس مُستَقِلًّا بذلك، بل هو غريزةٌ في النَّفسِ وقُوَّةٌ فيها بمنزلةِ قُوَّةِ البصَرِ التي في العَينِ، فإنِ اتَّصَل به نورُ الإيمانِ والقُرآنِ، كان كنُورِ العَينِ إذا اتَّصَل به نورُ الشَّمسِ والنَّارِ، وإن انفَرَد بنَفْسِه لم يُبصِرِ الأمورَ التي يَعجِزُ وَحْدَه عن دَرَكِها) [3415] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/338). .
ثانيًا: إدراكُ تفاصيلِها وكيفيَّاتِها: وهذا لا سَبيلَ إليه مُطلَقًا؛ إذ إنَّه قاصِرٌ قُصورًا ذاتيًّا عن إدراكِه والإحاطةِ بعِلْمِه.
ومع كونِ العَقْلِ لا يَستَقِلُّ بالعِلمِ ببابِ الصِّفاتِ على سبيلِ التَّفصيلِ، فضلًا عن إدراكِ كيفيَّةِ جميعِ الصِّفاتِ؛ فإنَّه لا يُحيلُ ذلك ولا يَمنَعُه، كما يمنَعُ المستَحِيلاتِ العَقليَّةَ، مِثلُ اجتِماعِ النَّقيضينِ في محَلٍّ واحدٍ، بل يَقِفُ من هذه النُّصوصِ الغَيبيَّةِ الخَبَريَّةِ مَوقِفَ التَّسليمِ إذا صَحَّ النَّقلُ وسَلِمَت الرِّوايةُ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الرُّسُلُ جاءت بما يَعجِزُ العَقلُ عن دَرَكِه، ولم تأتِ بما يُعلَمُ بالعَقلِ امتِناعُه) [3416] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/339).     .
والعَقلُ الصَّريحُ السَّالمُ مِن الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ لا يمكِنُ أن يخالِفَ النَّقلَ الصَّحيحَ السَّالِمَ مِنَ العِلَلِ والقوادِحِ في سَنَدِه ومَتْنِه؛ لأنَّ كُلًّا منهما من اللهِ، فالعَقلُ خَلْقُه، والنَّقلُ خَبَرُه وأمْرُه أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ * الأعراف: 54*.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (بَيَّنَّا أنَّ كُلَّ ما يدُلُّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ فإنَّه موافِقٌ لصَريحِ المعقولِ، وأنَّ العَقلَ الصَّريحَ لا يخالِفُ النَّقلَ الصَّحيحَ) [3417] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/80). ويُنظر: ((مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات)) لأحمد القاضي (ص: 473).   .

انظر أيضا: