الموسوعة العقدية

 الرُّبُوبِيَّةُ

صِفةٌ ذاتيَّةٌ ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ، وذلك مِن اسمِه: (الرَّبِّ)، الثَّابتِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ في مواضعَ عديدةٍ، وقدْ ورَدَ فيهما بصِيَغٍ عَديدةٍ؛ فتارةً يأتي مُعرَّفًا بالألِفِ واللَّامِ (الرَّبُّ)، وهو خاصٌّ باللهِ تعالى، وتارةً مُضافًا، مِثلُ: (ربِّ العالَمينَ)، و(ربِّ المَشرقَيْنِ).
الدَّليلُ مِن الكِتابِ:
1- قولُه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2] .
2- قَولُه: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17].
الدَّليلُ من السُّنَّةِ:
1- حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا: ((يُقالُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ، وتَقُولُ هلْ مِن مَزِيدٍ، فَيَضَعُ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالَى قَدَمَهُ عليها، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ )) [2138] أخرجه البخاري (4849). .
2- حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما مرفوعًا: ((ألَا وإنِّي نُهِيتُ أن أقرَأَ القُرآنَ راكعًا وساجدًا، فأمَّا الرُّكوعُ فعظِّموا فيه الرَّبَّ عزَّ وجلَّ... )) [2139] أخرجه مسلم (479). .
ومعنى الرَّبِّ: المالِكُ والمُتصرِّفُ والمُدبِّرُ والسَّيِّدُ والمُربِّي.
قال ابنُ قُتَيبةَ: (مِن صِفاتِه الرَّبُّ، والرَّبُّ: المالِكُ؛ يُقال: هذا ربُّ الدَّارِ، وربُّ الضَّيْعةِ، وربُّ الغُلامِ، أي: مالِكُه؛ قال اللهُ سُبحانَه: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ [يوسف: 50] أي: إلى سيِّدِك، ولا يُقالُ لمخلوقٍ: هذا الرَّبُّ، مُعرَّفًا بالألفِ واللامِ، كما يُقالُ للهِ، إنَّما يُقالُ: هذا رَبُّ كذا، فيُعرَّفُ بالإضافةِ؛ لأنَّ اللهَ مالِكُ كُلِّ شيءٍ، فإذا قيل: الرَّبُّ، دلَّتِ الألِفُ واللَّامُ على معنى العمومِ، وإذا قيل لمخلوقٍ: ربُّ كذا، وربُّ كذا، نُسِب إلى شيءٍ خاصٍّ؛ لأنَّه لا يملِكُ شيئًا غيرَه) [2140] يُنظر: ((غريب القرآن)) (ص: 9). .
قال ابنُ جَريرٍ: (الرَّبُّ في كلامِ العَرَبِ متصَرِّفٌ على معانٍ: فالسَّيِّدُ المطاعُ فيها يُدعى رَبًّا... والمالِكُ للشَّيءِ يُدعَى رَبَّه، وقد يتصَرَّفُ أيضًا معنى الرَّبِّ في وُجوهٍ غيرِ ذلك، غيرَ أنَّها تعودُ إلى بعضِ هذه الوُجوهِ الثَّلاثةِ. فرَبُّنا جَلَّ ثناؤُه السَّيِّدُ الذي لا شِبهَ له، ولا مِثلَ في سُؤدُدِه، والمصلِحُ أمْرَ خَلْقِه بما أسبَغَ عليهم مِن نِعَمِه، والمالِكُ الذي له الخَلقُ والأمرُ) [2141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 142). .
وقال ابنُ الأنباريِّ: (الرَّبُّ ينقَسِمُ على ثلاثةِ أقسامٍ: يكونُ الرَّبُّ: المالِكَ.
ويكونُ الرَّبُّ: السَّيِّدَ المطاعَ. قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا [يوسف: 41] . معناه: فيَسقي سَيِّدَه. قال الشَّاعِرُ:
(وأهلَكْنَ يومًا رَبَّ كِندةَ وابْنَه ... ورَبَّ مَعَدٍّ بيْن خَبتٍ وعَرعَرِ)
فمعناه: وأهلَكْنَ سَيِّدَ كِندةَ. وقال عَدِيُّ بنُ زيدٍ:
(إنَّ رَبِّي لولا تَدارُكُه المَلكَ               بأهلِ العِراقِ ساء العَذيرُ)
يريد بالرّبِّ: السَّيِّدَ.
ويكونُ الرَّبُّ: المصلِحَ، مِن قَولِهم: قد رَبَّ الرَّجُلُ الشَّيءَ يَرُبُّه رَبًّا، والشَّيءُ مربوبٌ: إذا أصلَحَه) [2142] يُنظر: ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) (1/ 467). .
وقال الزَّجَّاجيُّ: (الرَّبُّ: المصلِحُ للشَّيءِ، يقالُ: «ربَبْتُ الشَّيءَ أرُبُّه رَبًّا وربابةً»: إذا أصلَحْتَه وقُمتَ عليه، ورَبُّ الشَّيءِ: مالِكُه، فاللهُ عَزَّ وجَلَّ مالِكُ العبادِ ومُصلِحُهم، ومُصلِحُ شُؤونِهم. ومَصدَرُ الرَّبِّ: الرُّبوبيَّةُ، وكُلُّ من مَلَك شيئًا فهو رَبُّه، يقالُ: هذا رَبُّ الدَّارِ ورَبُّ الضَّيعةِ، ولا يقالُ: الرَّبُّ مُعَرَّفًا بالألِفِ واللَّامِ مُطلقًا إلَّا للهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّه مالِكُ كُلِّ شيءٍ) [2143] يُنظر: ((اشتقاق أسماء الله)) (ص: 32). .
وقال الحليميُّ: (الرَّبُّ: هو المُبَلِّغُ كُلَّ ما أبدَعَ حَدَّ كَمالِه الذي قَدَّرَه له، وهو يَسُلُّ النُّطفةَ من الصُّلبِ ويجعَلُها عَلَقةً، والعَلَقةَ مُضغةً، ثمَّ يجعَلُ المضغةَ عَظمًا، ثمَّ يكسو العَظْمَ لحمًا، ثمَّ يخلُقُ في البَدَنِ الرُّوحَ، ويُخرِجُه خَلقًا آخَرَ وهو صغيرٌ ضعيفٌ، فلا يَزالُ يُنَمِّيه ويُنشِئُه حتى يجعَلَه رجُلًا، ويكونُ في بَدءِ أمرِه شابًّا، ثمَّ يجعَلُه كَهلًا ثمَّ شَيخًا، وهكذا كُلُّ شَيءٍ خلَقَه فهو القائِمُ عليه به، والمبَلِّغُ إيَّاه الحَدَّ الذي وَصَفَه وجَعَله نهايةً ومِقدارًا له) [2144] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 205). .
وقال ابنُ سِيْدَه: (الرَّبُّ مالِكُ كُلِّ شَيءٍ. وقيل: الرَّبُّ: السَّيِّدُ. وقيل: الرَّبُّ: المدَبِّرُ... واللهُ عَزَّ وجَلَّ الرَّبُّ، بمعنى المالِكِ السَّيِّدِ ... وأصلُه في الاشتقاقِ مِنَ التَّربيِة، وهي التَّنشِئةُ؛ يقالُ: رَبَّيتُه ورَبَّبْتُه بمعنًى، وقيل للمالِكِ: رَبٌّ؛ لأنَّه يملِكُ تَنشئةَ المربوبِ) [2145] يُنظر: ((المخصص)) (5/ 227). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (تأمَّلِ ارتباطَ الخَلْقِ والأمرِ بهذه الأسماءِ الثَّلاثةِ، وهي اللهُ، والرَّبُّ، والرَّحمنُ، كيف نشَأ عنها الخَلْقُ والأمرُ والثَّوابُ والعقابُ؟ وكيف جمَعَتِ الخَلْقَ وفرَّقَتْهم؟ فلها الجَمْعُ، ولها الفَرْقُ.
فاسمُ الرَّبِّ له الجمعُ الجامعُ لجميعِ المخلوقاتِ؛ فهو ربُّ كُلِّ شيءٍ وخالقُه والقادرُ عليه، لا يخرُجُ شيءٌ عن ربوبيَّتِه، وكلُّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ عبدٌ له، في قَبضتِه وتحتَ قهرِه، فاجتمَعوا بصفةِ الرُّبوبيَّةِ، وافتَرَقوا بصفةِ الإلهيَّةِ؛ فألَّهَه وَحْدَه السُّعداءُ، وأقَرُّوا له طَوْعًا بأنَّه اللهُ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، الَّذي لا تنبغي العبادةُ والتَّوكُّلُ والرَّجاءُ والخوفُ والحُبُّ والإنابةُ والإخباتُ والخشيةُ والتَّذلُّلُ والخضوعُ إلَّا له، وهنا افتَرَق النَّاسُ، وصاروا فريقينِ: فريقًا مُشركينَ في السَّعيرِ، وفريقًا مُوحِّدينَ في الجنَّةِ؛ فالإلهيَّةُ هي الَّتي فرَّقَتْهم، كما أنَّ الرُّبوبيَّةَ هي الَّتي جمَعَتْهم؛ فالدِّينُ والشَّرعُ، والأمرُ والنَّهيُ -مَظهَرُه وقيامُه- مِن صفةِ الإلهيَّةِ، والخَلْقُ والإيجادُ والتَّدبيرُ والفِعلُ مِن صفةِ الرُّبوبيَّةِ، والجزاءُ بالثَّوابِ والعقابِ والجنَّةِ والنَّارِ مِن صفةِ الملِكِ، وهو ملِكُ يومِ الدِّينِ، فأمَرهم بإلهيَّتِه، وأعانهم ووفَّقَهم وهداهم وأضَلَّهم بربوبيَّتِه، وأثابَهم وعاقَبهم بمُلْكِه وعَدلِه، وكلُّ واحدةٍ مِن هذه الأمورِ لا تنفَكُّ عنِ الأخرى ...) [2146] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/34). .

انظر أيضا: