الموسوعة العقدية

الفَرعُ الرَّابعُ: مِن شُروطِ لا إلهَ إلَّا اللهُ: الانقيادُ

قال اللهُ تعالى: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [لقمان:22] .
بَيَّنُ اللهُ تعالى أنَّ مَن يُخلِصْ عَمَلَه وقَصْدَه لله وحْدَه، وهو معَ إخلاصِه مُنقادٌ لطاعةِ اللهِ في أمْرِه ونَهْيِه كأنَّه يَراه، ومُتَّبِعٌ لشَريعةِ نبيِّه، ومُحسِنٌ إلى خَلْقِه؛ فقد تَمسَّك بأَوثَقِ رباطٍ يتمسَّكُ به مَن يريدُ الفَوزَ والنَّجاةَ مِنَ الضَّلالِ والعَذابِ، وإلى الله وَحْدَه تَرجِعُ نهايةُ كُلِّ أمرٍ؛ فأمورُ مَن أسلَمَ وَجهَه إلى اللهِ صائِرةٌ إلى اللهِ، ومَوكولةٌ إليه؛ فهو يَنصُرُهم ويُجازيهم إذا قَدِموا عليه جزاءً حَسَنًا وافيًا. وقد قيل: إنَّ العُروةَ الوُثقى هي: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فمَن لم يَنْقَدْ إلى طاعةِ الله تعالى لم يكُنْ مُتمَسِّكًا حَقًّا بشَهادةِ التَّوحيدِ [710] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 64). .
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان: 22] ، قال: (لا إلهَ إلَّا اللهُ) [711] أخرجه ابن جرير في تفسيره (18/ 569). .
وقال السَّمرقنديُّ: (قَولُه عزَّ وجَلَّ: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي: يُخلِصْ دِينَه. ويُقالُ: يُخلِصْ عمَلَه للهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ يعني: مُوَحِّدٌ) [712] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/ 27).
وقال البَغَويُّ: (قَولُه تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي: للهِ، يعني: يُخلِصْ دينَه للهِ، ويُفَوِّضْ أمْرَه إلى اللهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ في عَمَلِه، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى أي: اعتَصَم بالعَهدِ الأوثَقِ الذي لا يُخافُ انقِطاعُه) [713] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 590). .
وفي حَديثِ جِبريلَ عليه السَّلامُ حينَ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما الإيمانُ؟ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ ))... الحديث [714] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. .
قال محمَّدُ بن نَصرٍ المرْوَزي: (قَولُه: ((الإيمانُ أن تؤمِنَ باللهِ)) أن توحِّدَه وتصدِّقَ به بالقَلبِ واللِّسانِ، وتخضَعَ له ولأمْرِه، بإعطاءِ العَزمِ للأداءِ لِما أَمَر، مجانبًا للاستنكافِ والاستكبارِ والمعاندةِ، فإذا فعَلْتَ ذلك لَزِمْتَ محابَّه، واجتَنَبْتَ مَساخِطَه) [715])) يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 393). .
وقال ابنُ باز: (هذه الكَلِمةُ هي أعظَمُ الكلامِ الذي يتكَلَّمُ به النَّاسُ، وأفضَلُ الكلامِ، وهي قَولٌ وعَمَلٌ، ولا يكفي مجَرَّدُ القَولِ، ولو كان مجَرَّدُ القَولِ يكفي لكان المنافِقونَ مُسلِمينَ؛ لأنَّهم يَقولونَها، وهم مع ذلك كُفَّارٌ، بل في الدَّرْكِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ -نعوذُ باللهِ مِن ذلك -؛ لأنَّهم يقولونَها باللِّسانِ مِن دونِ عَقيدةٍ ولا إيمانٍ، فلا بُدَّ مِن قَولِها بالِّلسانِ مع اعتِقادِ القَلبِ، وإيمانِ القَلبِ بأنَّه لا معبودَ حَقٌّ إلَّا اللهُ، ولا بُدَّ أيضًا مِن أداءِ حَقِّها بأداءِ الفرائضِ وتَرْكِ المحارِمِ؛ لأنَّ هذا مِن حَقِّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فإنْ قالوها عَصَموا منِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّها، وحِسابُهم على اللهِ)) [716])) أخرجه البخاري (2946)، ومسلم (21) باختلاف يسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وفي اللَّفظِ الآخَرِ يَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإنْ فَعَلوا ذلك عَصَموا منِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ عزَّ وجَلَّ )) [717])) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) باختلاف يسير من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. . متَّفَقٌ على صِحَّتِه.
فالحاصِلُ أنَّه لا بُدَّ مِن قَولٍ مع يقينٍ، ومع عِلمٍ ومع عَمَلٍ لا مجَرَّدُ القَولِ باللِّسانِ، فاليَهودُ يَقولونَها والمنافِقون يَقولونَها، ولكِنْ لا تنفَعُهم لَمَّا لم يأتوا بالعَمَلِ والعقيدةِ، فلا بُدَّ من العَقيدةِ بأنَّه لا معبودَ حَقٌّ إلَّا اللهُ، وأنَّ ما عبده النَّاسُ مِن أصنامٍ وأشجارٍ أو أحجارٍ، أو قُبورٍ أو أنبياءَ أو ملائِكةٍ أو غيرِهم؛ أنَّه باطِلٌ، وأنَّ هذا شِركٌ باللهِ عزَّ وجَلَّ، والعِبادةُ حَقُّ اللهِ وَحْدَه سُبحانَه وتعالى، وهذا هو معنى لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ مَعناها لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ؛ قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة: 5] ، وقال سُبحانَه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ، وقال عزَّ وجَلَّ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] ، وقال سُبحانَه: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 2، 3]... فالخُلاصةُ أنَّه لا بُدَّ مِن الإيمانِ بها قولًا وعَمَلًا مع النُّطقِ، فيَشهَدُ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، عن عِلمٍ ويَقينٍ، وإخلاصٍ وصِدقٍ، ومَحَبَّةٍ لِما دَلَّت عليه من التَّوحيدِ، وانقيادٍ لحَقِّها، وقَبولٍ لذلك، وبراءةٍ وكُفرٍ لِما يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ سُبحانَه) [718] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 59 - 61). .

انظر أيضا: