الموسوعة العقدية

المبحثُ السَّادِسُ: تَقسيمُ البِدعةِ إلى صَغيرةٍ وكَبيرةٍ

تَنقَسِمُ البِدعةُ إلى صَغيرةٍ وكَبيرةٍ اعتِبارًا بتَفاوُتِ دَرَجاتِها، وهذا مَبنيٌّ على القَولِ بأنَّ المَعاصيَ تَنقَسِمُ إلى صَغيرةٍ وكَبيرةٍ.
وقدِ اختَلَفَ العُلماءُ في تَمييزِ الصَّغيرةِ من الكَبيرةِ بالنِّسبةِ للمَعاصي، والأقرَبُ أنَّ الكَبائِرَ مُنحَصِرةٌ في الإخلالِ بالضَّروريَّاتِ المُعتَبَرةِ في كُلِّ مِلَّةٍ، وهيَ الدِّينُ، والنَّفسُ، والنَّسلُ، والعَقلُ، والمالُ. وكُلُّ ما نُصَّ عليه راجِعٌ إليها، وما لم يُنَصَّ عليه جَرَت في الاعتِبارِ والنَّظَرِ مَجراها؛ فلِذلك يُقالُ في كبائِرِ البِدَعِ: ما أخَلَّ منها بأصلٍ من هذه الضَّروريَّاتِ فهو كبيرةٌ، وما لا فهيَ صَغيرةٌ.
ويُمكِنُ إثباتُ البِدعةِ الصَّغيرةِ من أوجُهٍ:
أحَدُها: أنَّ الإخلالَ بضَرورةِ النَّفسِ كبيرةٌ بلا إشكالٍ، ولَكِنَّها على مَراتِبَ أدناها لا يُسَمَّى كبيرةً، فالقَتلُ كبيرةٌ، وقطْعُ الأعضاءِ من غَيرِ إجهازٍ كبيرةٌ دونَها، وقَطْعُ عُضوٍ واحِدٍ كبيرةٌ دونَها، وهلُمَّ جَرًّا إلى أن تَنتَهيَ إلى اللَّطمةِ، ثُمَّ إلى أقَلِّ خَدشٍ يُتَصَوَّرُ، فلا يَصِحُّ أن يُقال في مِثلِه: كبيرةٌ، كما قال العُلماءُ في السَّرِقةِ، إنَّها كبيرةٌ؛ لأنَّها إخلالٌ بَضَرورةِ المالِ، فإن كانتِ السَّرِقةُ في لُقْمةٍ أو تَطفيفٍ بحَبَّةٍ فقد عَدُّوها من الصَّغائِرِ، وهذا في ضَرورةِ الدِّين أيضًا.
والبِدَعُ تَنقَسِمُ كما سَبَقَ إلى بِدَعٍ كُلِّيةٍ في الشَّريعةِ، وإلى جُزئيَّةٍ، ومَعنى ذلك أن يَكونَ الخَلَلُ الواقِعُ بسَبَبِ البِدْعةِ كُلِّيًّا في الشَّريعةِ، كبِدعةِ التحسين والتقبيحِ العَقليَّين، وما أشبَه ذلك من البِدَعِ الَّتي لا تَختَصُّ بفَرعٍ واحِدٍ من فُروعِ الشَّريعةِ دونَ فرعٍ آخَرَ، بَل نَجِدُها تَنتَظِمُ ما لا يَنحَصِرُ من الفُروعِ الجُزئيَّةِ، أو يَكونُ الخَللُ الواقِعُ جُزئيًّا، وإنَّما يَأتي في بَعضِ الفُروعِ دونَ بَعضٍ، كبِدْعةِ التثويبِ بالصَّلاةِ الَّذي قال فيه مالِكٌ: التثويبُ ضَلالٌ، وبِدعةِ الأذانِ والإقامةِ في العِيدَين، وبِدعةِ الاعتِمادِ في الصَّلاةِ على إحدَى الرِّجْلَين، وما أشبَهَ ذلك، فهذا القِسمُ لا تَتَعَدَّى فيه البِدعةُ مَحَلَّها، ولا تَنتَظِمُ تَحتَها غَيرَها بحَيثُ تَكونُ أصلًا لَها [1153] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/389-395). .
فالبِدعةُ الكُلِّيَّةُ، لا شَكَّ أنَّها من الكَبائِرِ، وتَكونُ البِدْعةُ الجُزئيَّةُ من قَبيلِ اللَّمَمِ، أيِ: الصَّغائِرِ الَّتي يُرجَى فيها العَفوُ، وهذا كُلُّه مَعَ عَدَمِ الإصرارِ.
كما أنَّ المَعاصيَ قد ثَبَتَ انقِسامُها إلى صَغائِرَ وكَبائِرَ، ولا شَكَّ أنَّ البِدَعَ من جُملةِ المَعاصي ونَوعٌ من أنواعِها.
وإذا قُلنا: إنَّ من البِدَعِ ما يَكونُ صَغيرةً فذلك بشُروطٍ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: ألَّا يُداومَ عليها، فإنَّ الصَّغيرةَ من المَعاصي لمَن داوَم عليها تَكبُرُ بالنِّسبةِ إليه؛ لأنَّ ذلك ناشِئٌ عنِ الإصرارِ عليها، والإصرارُ على الصَّغيرةِ يُصَيِّرُها كبيرةً؛ ولِذلك قالوا: لا صَغيرةَ مَعَ إصرارٍ، ولا كبيرةَ مَعَ استِغفارٍ. فكَذلك البِدعةُ من غَيرِ فرقٍ، إلَّا أنَّ المَعاصيَ من شَأنِها في الواقِعِ أنَّها قد يُصَرُّ عليها، وقد لا يُصَرُّ عليها، وعلى ذلك يَنبني طَرحُ الشَّهادةِ، وسَخطةُ الشَّاهِدِ بها أو عَدَمُه، بخِلافِ البِدعةِ؛ فإنَّ شَأنَها المُداوَمةُ والحِرصُ على ألَّا تُزالَ من مَوضِعِها، وأن تَقومَ على تارِكِها القيامةُ، وتَنطَلِقَ عليه ألسِنةُ المَلامةِ، ويُرمَى بالتسفيه والتجهيلِ، ويُنبَزَ بالتبديعِ والتضليلِ، ضِدَّ ما كان عليه سَلَفُ هذه الأمَّةِ، والمُقتَدَى بهم من الأئِمةِ، والدَّليلُ على ذلك: الاعتِبارُ والنَّقلُ، فإنَّ أهلَ البِدَعِ كان من شَأنِهمُ القيامُ بالنَّكيرِ على أهلِ السُّنَّة إن كان لَهم عُصْبةٌ، أو لَصقوا بسُلطانٍ تَجري أحكامُهُ في النَّاسِ، وتُنَفَّذُ أوامِرُه في الأقطارِ، ومن طالَعَ سِيَرَ المُتَقدِّمَين وَجَدَ من ذلك ما لا يَخفَى.
وأمَّا النَّقلُ فما ذَكرَه السَّلَفُ من أنَّ البِدعةَ إذا أُحدِثَت لا تَزيدُ إلَّا مُضيًّا، ولَيسَت كذلك المَعاصي، فقد يَتوبُ صاحِبُها ويُنيبُ إلى اللَّهِ، بَل قد جاءَ ما يُؤَيِّدُ ذلك في حَديثِ الفِرَقِ حَيثُ جاءَ في بَعضِ الرِّواياتِ: ((وأنَّه سَيَخرُجُ في أمَّتي أقوامٌ تجارَى بهم تِلكَ الأهواءُ كما يَتَجارَى الكَلَبُ بصاحِبِ ه [1154] قال ابنُ الأثيرِ: («تتجارى بهم الأهواءُ كما يتجارى الكَلَبُ بصاحِبِه» أي: يتواقَعون في الأهواءِ الفاسِدةِ، ويتداعَونَ فيها؛ تشبيهًا بجَرْيِ الفَرَسِ. والكَلَبُ -بالتحريكِ: داءٌ معروفٌ يَعرِضُ للكَلْبِ، فمن عَضَّه قَتَلَه). ((النهاية)) (1/ 264). ) [1155] رواه مطولًا أبو داود (4597)، وأحمد (16937) واللَّفظُ له من حديث معاوية بن أبي سفيان رَضِيَ اللهُ عنهما. حسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4597)، وحسنه لغيره الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (577)، وحسن إسناده ابن كثير في ((النهاية)) (1/27)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4597). وقال الحاكم في ((المستدرك)) (443): أسانيده تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث، وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/137): محفوظ من حديث صفوان ابن عمرو. .
والشَّرطُ الثَّاني: ألَّا يَدعوَ إليها؛ فإنَّ البِدعةَ قد تَكونُ صَغيرةً بالإضافةِ، ثُمَّ يَدعو مُبتَدِعُها إلى القَولِ والعَمَلِ على مُقتَضاها، فيَكونُ إثمُ ذلك كُلُّه عليه، فإنَّه الَّذي أثارَها، وسَبَّبَ كثرةَ وُقوعِها والعَمَلِ بها، وقد ثَبَتَ في الحَديثِ الصَّحيحِ أنَّ كُلَّ من سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً كان عليه وزرُها، ووِزْرُ من عَمِلَ بها لا يَنقُصُ ذلك من أوزارِهم شَيئًا [1156] أخرجه مسلم (1017) عن جرير بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((.. ومن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئةً فعَمِلَ بها بعده، كُتِب عليه مِثلُ وِزْرِ من عَمِلَ بها، ولا ينقُصُ من أوزارهم شيءٌ)). .
والشَّرطُ الثَّالِثُ: ألَّا تُفعَلَ في المَواضِعِ الَّتي هيَ مُجتَمَعاتُ النَّاسِ، أوِ المَواضِعِ الَّتي تُقامُ فيها السُّنَنُ، وتَظهرُ فيها أعلامُ الشَّريعةِ، فأمَّا إظهارُها في المُجتَمَعاتِ مِمَّن يُقتَدَى به، أو مِمَّن يَحْسُنُ به الظَّنُّ، فذلك من أضَرِّ الأشياءِ على سُنَنِ الإسلامِ فإنَّها لا تَعدو أمرَين:
إمَّا أن يُقتَدَى بصاحِبِها فيها؛ فإنَّ العَوامَّ أتباعُ كُلِّ ناعِقٍ، لا سِيَّما البِدَعِ الَّتي وُكِّلَ الشَّيطانُ بتَحسينِها للنَّاسِ، والَّتي للنُّفوسِ في تَحسينِها هوًى، وإذا اقتُدِي بصاحِبِ البِدعةِ الصَّغيرةِ كبُرَت بالنِّسبةِ إليه؛ لأنَّ كُلَّ من دَعا إلى ضَلالةٍ كان عليه وِزرُها، ووِزْرُ من عَمِلَ بها، فعلى حَسَبِ كثرةِ الأتباعِ يَعظُمُ الوِزْرُ. 
وأمَّا اتِّخاذُها في المَواضِعِ الَّتي تُقامُ فيها السُّنَنُ فهو كالدُّعاءِ إليها بالتصريحِ؛ لأنَّ إظهارَ البِدَعِ في أماكِنِ إقامةِ الشَّعائِرِ الإسلاميَّةِ يُوهِمُ أنَّ كُلَّ ما أُظهرَ فيها فهو من الشَّعائِرِ، فكَأنَّ المُظهرَ لَها يَقولُ: هذه سُنَّةٌ فاتَّبِعوها.
والشَّرطُ الرَّابِعُ: ألَّا يَستَصغِرَها، ولا يَستَحقِرَها، وإن فرَضناها صَغيرةً؛ فإنَّ ذلك استِهانةٌ بها، والاستِهانةُ بالذَّنبِ أعظَمُ من الذَّنَبِ، فكان ذلك سَبَبًا لعِظَمِ ما هو صَغيرٌ.
فإذا تَوافَرَت هذه الشُّروطُ فإنَّ هذه البِدَعَ تَكونُ صَغيرَتُها صَغيرةً، فإنْ تَخَلَّفَ شَرطٌ منها أو أكثَرُ صارَت كبيرةً، أو خَيفَ أن تَصيرَ كبيرةً كما أنَّ المَعاصيَ كذلك [1157] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/404-415). .

انظر أيضا: