الموسوعة العقدية

المبحثُ الثَّاني: انقِسامُ البِدعةِ إلى فعليَّةٍ وتَركيَّةٍ       

البِدعةُ من حَيثُ قيلَ فيها: إنَّها طَريقةٌ في الدِّينِ مُختَرَعةٌ، يَدخُلُ في عُمومِ لَفظِها البِدْعةُ التَّركيَّةُ وغَيرُ التَّركيَّةِ؛ فقد يَقَعُ الابتِداعُ بنَفسِ التَّركِ، فإنَّ الفِعلَ مَثَلًا قد يَكونُ حَلالًا بالشَّرعِ، فيُحرِّمُه الإنسانُ على نَفسِه أو يَقصِدُ تَركَه قَصْدًا.
فهذا التَّركُ إمَّا أن يَكونَ لأمرٍ يُعتَبَرُ مِثلُهُ شَرعًا أو لا؛ فإن كان لأمرٍ يُعتَبَرُ فلا حَرجَ فيه، إذ مَعناهُ أنَّه تَرَكَ ما يَجوزُ تَركُه أو ما يُطلَبُ تَركُه، كالَّذي يَترُكُ طَعامًا مُعَيَّنًا من جِهةِ أنَّه يَضُرُّه في جِسمِه أو عَقلِه أو دينِه وما أشبَه ذلك، فلا مانِعَ هُنا من التَّركِ، بَل إن قُلْنا بطَلَبِ التداوي للمَريضِ فإنَّ التركَ هُنا مَطلوبٌ، وإن قُلْنا بإباحةِ التداوي، فالتركُ مُباحٌ.
وكَذلك إذا تَرَكَ ما لا بَأسَ به حَذَرًا مِمَّا به بأسٌ، فذلك من أوصافِ المُتَّقين، وكَتارِكِ المُتَشابِهِ حَذِرًا من الوُقوعِ في الحَرامِ، واستِبراءً للدِّينِ والعِرْضِ.
وإن كان التركُ لغَيرِ ذلك؛ فإمَّا أن يَكونَ تَديُّنًا أو لا، فإنْ لم يَكُن تَديُّنًا فالتارِكُ عابِثٌ بتَحريمِه الفِعلَ أو بعَزيمَتِه على التركِ، ولا يُسَمَّى هذا التركُ بدعةً؛ إذ لا يَدخُلُ تَحتَ لَفظِ الحَدِّ إلَّا على الطَّريقةِ الثَّانيةِ القائِلةِ: إنَّ البِدعةَ تَدخُلُ في العاداتِ، وأمَّا على الطَّريقةِ الأُولَى فلا يَدخُلُ، لَكِنَّ هذا التارِكَ يَصيرُ عاصيًا بتَركِه أو باعتِقادِه التحريمَ فيما أحَلَّ اللَّهُ تعالى.
وأمَّا إن كان التركُ تَدينًا فهو الابتِداعُ في الدِّينِ على كِلتا الطَّريقَتَينِ؛ إذ قد فرَضْنا الفِعلَ جائِزًا شَرعًا فصارَ التركُ المَقصودُ مُعارَضةً للشَّارِعِ؛ لأنَّ بَعضَ الصَّحابةِ هَمَّ أن يُحرِّمَ على نَفسِه النَّومَ باللَّيلِ، وآخَرَ الأكلَ بالنَّهارِ، وآخَرَ إتيانَ النِّساءِ، وبَعضُهم هَمَّ بالاختِصاءِ، مُبالَغةً في تَركِ شَأنِ النِّساءِ، وفي أمثالِ ذلك قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فلَيسَ مني )) [1147] رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401) مطولًا من حديث أنس رَضِيَ اللهُ عنه. .
فإذًا كُلُّ من مَنعَ نَفسَه من تَناوُلِ ما أحَلَّ اللَّهُ من غَيرِ عُذرٍ شَرعِيٍّ، فهو خارِجٌ عن سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والعامِلُ بغَيرِ السُّنَّةِ تَدَيُّنًا هو المُبتَدِعُ بعَينِه.
فإنْ قيلَ: فتارِكُ المَطلوباتِ الشَّرعيَّةِ نَدبًا أو وُجوبًا، هل يُسَمَّى مُبتَدِعًا أم لا؟
فالجَوابُ أنَّ التارِكَ للمَطلوباتِ على ضَربَينِ:
أحَدُهما: أن يَترُكَها لغَيرِ التدَيُّنِ إمَّا كسلًا أو تَضييعًا أو ما أشبَه ذلك من الدَّواعي النَّفسيَّةِ، فهذا الضَّربُ راجِعٌ إلى المُخالَفةِ للأمرِ، فإن كان في واجِبٍ فمعصيةٌ، وإن كان في نَدْبٍ فلَيسَ بمَعصيةٍ.
الثَّاني: أن يَترُكَها تَديُّنًا، فهذا الضَّربُ من قَبيلِ البِدَعِ؛ حَيثُ تَدَيَّنَ بضِدِّ ما شَرعَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ [1148] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (1/56-59)، ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 44). .

انظر أيضا: