الموسوعة العقدية

المبحثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: من خُطورةِ البِدعةِ وآثارِها السَّيِّئةِ أنَّه يُخشَى على صاحِبِها الفِتْنةُ

حَكَى عياضٌ عن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ أنَّه قال: سَألتُ مالِكًا عَمَّن أحرَمَ من المَدينةِ وراءَ الميقاتِ؟ فقال: هذا مُخالِفٌ للهِ ورَسولِه، أخشَى عليه الفِتنةَ في الدُّنيا، والعَذابَ الأليمَ في الآخِرةِ، أمَا سَمِعتَ قَولَهُ تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] ، وقد أمرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُهِلَّ من المَواقيتِ.
قال ابنُ باز: (ثَبتَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأحاديثِ الصَّحيحةِ: التحذيرُ من البِدَعِ، والتصريحُ بأنَّها ضَلالةٌ، تَنبيهًا للأمَّةِ على عِظَمِ خَطَرِها، وتَنفيرًا لَهم من اقتِرافِها، ومن ذلك ما ثَبَتَ في الصَّحيحَين عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((من أحدَثَ في أمرِنا هذا ما لَيسَ منه فهو رَدٌّ )) [1130] رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) واللَّفظُ له. وفي رِوايةٍ لمُسلِمٍ: ((من عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ)) [1131] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7350)، وأخرجه موصولًا مسلم (1718) واللَّفظُ له. وفي صَحيحِ مُسلِمٍ عن جابِرٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ في خُطبَتِه يَومَ الجُمُعةِ: ((أمَّا بَعدُ، فإنَّ خَيرَ الحَديثِ كِتابُ اللهِ، وخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ )) [1132] أخرجه مسلم (867) من حديث جابر رَضِيَ اللهُ عنهما. زادَ النَّسائيُّ بسَندٍ جَيِّدٍ: ((وكُلُّ ضَلالةٍ في النَّارِ)) [1133] أخرجه النسائي (1578)، وابن خزيمة (1785)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (137) مطولًا من حديث جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/220) من حديث محمد بن علي، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1578)، وصحَّح إسنادَه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (18/57). وفي السُّنَنِ عن العِرباضِ بنِ سارِيةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((وعَظَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم موعِظةً بليغةً ذَرَفَت منها العُيونُ ووَجِلَت منها القُلوبُ، فقُلْنا: يا رسولَ اللَّهِ، كأنَّها مَوعِظةُ مُودِّعٍ فأَوْصِنا، فقال: أُوصيكُم بتَقوَى اللهِ والسَّمعِ والطَّاعةِ وإنْ تأَمَّر عليكم عَبدٌ؛ فإنَّه من يَعِشْ منكُم بَعْدي فسيرَى اختِلافًا كَثيرًا، فعليكم بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدين المَهْديِّين من بَعدي، تَمَسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ)) [1134] أخرجه أبو داود (4607) واللَّفظُ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبدالبر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5). والأحاديثُ في هذا المَعنى كَثيرةٌ، وقد ثَبَتَ عن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ بَعدَهم التحذيرُ من البِدَعِ والترهيبُ منها، وما ذاكَ إلَّا لأنَّها زيادةٌ في الدِّينِ، وشَرعٌ لم يَأذَنْ به اللَّهُ، وتَشَبُّهٌ بأعداءِ اللهِ من اليَهودِ والنَّصارَى في زيادَتِهم في دينِهم، وابتِداعِهم فيه ما لم يَأذَنْ به اللَّهُ، ولِأنَّ لازِمَها التنَقُّصُ للدِّينِ الإسلاميِّ، واتِّهامُهُ بعَدَمِ الكَمالِ، ومَعلومٌ ما في هذا من الفَسادِ العَظيمِ، والمُنكَرِ الشَّنيعِ، والمُصادَمةِ لقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ والمُخالَفةِ الصَّريحةِ لأحاديثِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المُحذِّرةِ من البِدَعِ والمنفِّرةِ منها) [1135] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/184). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (البِدعةُ تَستَلزِمُ مَحاذيرَ فاسِدةً:
فأوَّلًا: تَستَلزِمُ تَكذيبَ قَولِ اللهِ تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائِدةُ: 3] لأنَّه إذا جاءَ ببِدْعةٍ جَديدةٍ يَعتَبِرُها دينًا؛ فمُقتَضاهُ أنَّ الدِّينَ لم يَكمُلْ.
ثانيًا: تَستَلزِمُ القدحَ في الشَّريعةِ، وأنَّها ناقِصةٌ، فأكمَلَها هذا المُبتَدِعُ.
ثالِثًا: تَستَلزِمُ القدحَ في المُسلِمينَ الَّذينَ لم يَأتوا بها؛ فكُلُّ من سَبَقَ هذه البِدَعَ من النَّاسِ دينُهم ناقِصٌ، وهذا خَطيرٌ!
رابِعًا: من لوازِمِ هذه البِدعةِ أنَّ الغالِبَ أنَّ من اشتَغَلَ ببِدْعةٍ انشَغَلَ عن سُنَّةٍ، كما قال بَعضُ السَّلَفِ: «ما أحدَثَ قَومٌ بِدعةً إلَّا هدَموا مِثلَها من السُّنَّةِ».
خامِسًا: أنَّ هذه البِدَعَ توجِبُ تَفَرُّقَ الأمَّةِ؛ لأنَّ هؤلاء المُبتَدِعةَ يَعتَقِدونَ أنَّهم هم أصحابُ الحَقِّ، ومَن سِواهم على ضَلالٍ، وأهلُ الحَقِّ يَقولونَ: أنتمُ الَّذينَ على ضَلالٍ، فتَتَفَرَّقُ قُلوبُهم.
فهذه مَفاسِدُ عَظيمةٌ، كُلُّها تَتَرَتَّبُ على البِدعةِ من حَيثُ هيَ بدعةٌ، مَعَ أنَّه يَتَّصِلُ بهذه البِدعةِ سَفَهٌ في العَقلِ وخَلَلٌ في الدِّينِ) [1136] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/316). .

انظر أيضا: