الموسوعة العقدية

الفَرعُ الخامِسُ: مِن آثارِ التبَرُّكِ الممنوعِ: تحريفُ النُّصوصِ

إنَّ أصحابَ التبَرُّكِ الممنوعِ يَلجَؤونَ أحيانًا إلى تحريفِ معاني النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وتحميلِها ما لا تحتَمِلُ؛ لتُوافِقَ أهواءَهم، ومن ذلك:
1- استِدلالُهم على استحبابِ طَلَبِ الاستغفارِ مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند قَبرِه بعُمومِ قَولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64] .
 قال السعديُّ: (وهذا المجيءُ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مختَصٌّ بحياتِه؛ لأنَّ السِّياقَ يدُلُّ على ذلك؛ لكَونِ الاستِغفارِ مِنَ الرَّسولِ لا يكونُ إلَّا في حياتِه، وأمَّا بعد مَوتِه فإنَّه لا يُطلَبُ منه شَيءٌ، بل ذلك شِرْكٌ) [706] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 185). .
2- استِدلالُهم على مشروعيَّةِ التبَرُّكِ بالمواضِعِ التي صلَّى فيها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحديثِ صَلاةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بيتِ عِتبانَ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
فعن عِتبانَ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سالِمٍ، فأتَيْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقُلتُ: إنِّي أنْكَرْتُ بَصَرِي، وإنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وبيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أنَّكَ جِئْتَ، فَصَلَّيْتَ في بَيْتي مَكانًا حتَّى أتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فقالَ: أفْعَلُ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَغَدا عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأَبُو بَكْرٍ معهُ بَعْدَما اشْتَدَّ النَّهارُ، فاسْتَأْذَنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأذِنْتُ له، فَلَمْ يَجْلِسْ حتَّى قالَ: أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ مِن بَيْتِكَ؟ فأشارَ إلَيْهِ مِنَ المَكانِ الذي أحَبَّ أنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقامَ، فَصَفَفْنا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وسَلَّمْنا حِينَ سَلَّمَ) [707] أخرجه البخاري (840) واللَّفظُ له، ومسلم (33). .
 قال ابنُ تيميَّةَ: (أصلُ قَصْدِه بناءُ مَسجِدٍ، فأحَبَّ أن يكونَ مَوضِعًا يصَلِّي له فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي رَسَم المسجِدَ) [708] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/276). .
3- استِدلالُهم على جوازِ اتِّخاذِ المساجِدِ على القُبورِ بقَولِه تعالى في قِصَّةِ أصحابِ الكَهفِ: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف: 21] .
قال ابنُ جرير: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ [الكهف: 21] يقولُ جَلَّ ثناؤُه: قال القَومُ الذين غَلَبوا على أمرِ أصحابِ الكَهْفِ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف: 21] . وقد اختُلِفَ في قائِلِي هذه المقالةِ، أهُمُ الرَّهطُ المسلمون، أم هم الكُفَّارُ؟) [709] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/ 217). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (حكى ابنُ جريرٍ في القائلينَ ذلك قولَينِ؛ أحَدُهما: أنَّهم المسلمون منهم. والثَّاني: أهلُ الشِّرْك منهم، فاللهُ أعلَمُ. والظَّاهِرُ أنَّ الذين قالوا ذلك هم أصحابُ الكَلِمةِ والنُّفوذِ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظَرٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم وصالِحِيهم مساجِدَ )) [710] أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529) مِن حديثِ عائشةَ رَضِيَ الله عنها بلفظِ: ((لَعَن اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم مَسجِدًا)). ورُوِيَ بلَفظِ: ((وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتَّخِذون قبورَ أنبيائِهم وصالحيهم مساجِدَ، ألا فلا تتَّخِذوا القُبورَ مَساجِدَ)). أخرجه مسلم (532) من حديثِ جُندَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. يحَذِّرُ ما فعلوا. وقد رُوِّينا عن أميرِ المؤمنينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا وَجَد قَبْرَ دانيال في زمانِه بالعِراقِ، أمَرَ أن يُخفى عن النَّاسِ) [711] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 147). .
 وقال الشنقيطيُّ: (أمَّا الجوابُ عن الاستِدلالِ بالآيةِ فهو أن تقولَ: مَن هؤلاء القَومُ الذين قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، أهم ممَّن يُقتَدى به، أم هم كَفَرةٌ لا يجوزُ الاقتداءُ بهم؟ وقد قال أبو جَعفر بنُ جَريرٍ الطَّبريُّ رحمه الله تعالى في هؤلاءِ القَومِ ما نَصُّه: «وقد اختُلِف في قائلِ هذه المقالةِ: أهم الرَّهطُ المسلمون أم هم الكُفَّارُ؟». فإذا عَلِمتَ ذلك فاعلَمْ أنَّهم على القَولِ بأنَّهم كُفَّارٌ فلا إشكالَ في أنَّ فِعْلَهم ليس بحُجَّةٍ؛ إذ لم يقُلْ أحَدٌ بالاحتجاجِ بأفعالِ الكُفَّارِ، كما هو ضروريٌّ. وعلى القَولِ بأنَّهم مسلمون كما يُدُّل له ذِكرُ المسجِدِ؛ لأنَّ اتخاذَ المساجِدِ مِن صفاتِ المسلمين، فلا يخفى على أدنى عاقِلٍ أنَّ قَولَ قَومٍ مِن المسلمين في القُرونِ الماضيةِ: إنَّهم سيَفعَلون كذا، لا يعارِضُ به النُّصوصَ الصَّحيحةَ الصَّريحةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا مَن طَمَس اللهُ بصيرتَه، فقابَلَ قَولَهم: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَرَضِ مَوتِه قبلَ انتقالِه إلى الرَّفيقِ الأعلى بخَمسٍ: ((لعَنَ اللهُ اليَهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ )) الحديث [712] أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. . يظهَرُ لك أنَّ من اتَّبَع هؤلاء القَومَ في اتِّخاذِهم المسجِدَ على القُبورِ: ملعونٌ على لسانِ الصَّادِقِ المصدوقِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما هو واضِحٌ) [713] يُنظر: ((أضواء البيان)) (2/301). .
وقال ابنُ عثيمين: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وهم أمراؤُهم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا بَدَلًا مِن أن نبنيَ بُنيانًا نحوطُهم به ونستُرُهم به، ولا يكون لهم أثَرٌ، أي: لنجعَلَنَّ عليهم مسجِدًا نتَّخِذُه مُصَلًّى، والظَّاهِرُ أنَّهم فَعلوا؛ لأنَّ القائِلَ هم الأمراءُ الذين لهم الغَلَبةُ. هذا الفِعلُ؛ اتِّخاذُ المساجِدِ على القبورِ: مِن وسائِلِ الشِّرْكِ، وقد جاءت شَريعتُنا بمحاربتِه، حتَّى إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال وهو في سياقِ الموتِ: ((لعنةُ اللهِ على اليَهودِ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ)) يحَذِّرُ ما صَنَعوا) [714] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الكهف)) (ص: 41). .
4- تحريفُهم نَهْيَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن اتِّخاذِ قَبْرِه عيدًا؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تجعَلوا بُيوتَكم قُبورًا، ولا تجعَلوا قبري عيدًا، وصَلُّوا عَلَيَّ؛ فإنَّ صَلاتَكم تبلُغُني حيثُ كُنتُم )) [715] أخرجه أبو داود (2042) واللَّفظُ له، وأحمد (8804). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2042)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2042)، وحَسَّنه ابنُ تيمية في ((الإخنائية)) (265)، ومحمدُ بنُ عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (207)، وابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/314). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (قد حرَّف هذه الأحاديثَ بعضُ من أخَذَ شَبَهًا من النَّصارى بالشِّرْكِ، وشَبَهًا من اليهودِ بالتَّحريفِ، فقال: هذا أمرٌ بملازمةِ قَبْرِه، والعُكوفِ عنده، واعتيادِ قَصْدِه وانتيابِه، ونَهيٌ أن يُجعَلَ كالعِيدِ الذي إنَّما يكونُ في العامِ مرَّةً أو مرَّتَينِ، فكأنَّه قال: لا تجعَلوه بمنزلةِ العيدِ الذي يَكونُ مِن الحَوْلِ إلى الحَولِ، واقصِدوه كلَّ ساعةٍ وكلَّ وَقتٍ!
وهذا مُراغَمةٌ ومُحادَّةٌ للهِ، ومُناقَضةٌ لِما قَصَده الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَلْبٌ للحقائِقِ، ونِسبةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى التَّدليسِ والتلبيسِ بعد التناقُضِ، فقاتَلَ اللهُ أهلَ الباطِلِ! أنَّى يُؤفَكونَ!) [716] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (1/349). .
 قال ابنُ عُثَيمين: (أيُّهما المرادُ مِن كَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأوَّل، أي: العَمَلُ الذي يتكَرَّرُ بتكَرُّرِ العامِ، أو الترَدُّدُ إلى المكانِ؟ الظَّاهِرُ الثَّاني، أي: لا تترَدَّدوا على قَبْري وتعتادوا ذلك، سواءٌ قَيَّدوه بالسَّنَةِ أو بالشَّهرِ أو بالأُسبوعِ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن ذلك، وإنَّما يُزارُ لسَبَبٍ، كما لو قَدِمَ الإنسانُ من سَفَرٍ، فذهب إلى قَبرِه فزاره، أو زاره ليتذَكَّرَ الآخِرةَ كغَيرِه من القُبورِ. وما يفعَلُه بعضُ النَّاسِ في المدينةِ كُلَّما صَلَّى الفَجْرَ ذَهَب إلى قَبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أَجْلِ السَّلامِ عليه، فيعتادُ هذا كُلَّ فَجرٍ، يظنُّونَ أنَّ هذا مِثلُ زيارتِه في حياتِه؛ فهذا من الجَهلِ، وما عَلِموا أنَّهم إذا سَلَّموا عليه في أيِّ مكانٍ؛ فإنَّ تسليمَهم يَبلُغُه!) [717] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/447). .

انظر أيضا: