الموسوعة العقدية

الفَرعُ الثَّاني: مِن أنواعِ التوَسُّلِ المَشروعِ: التَّوَسُّلُ إلى اللهِ تعالى بعَمَلٍ صالحٍ قام به الدَّاعي

من التَّوَسُّلِ المشروعِ: التَّوَسُّلُ إلى اللهِ بالعَمَلِ الصَّالحِ، مِثلُ قَولِ القائِلِ: اللَّهم بإيماني بك، ومحَبَّتي لك، وتعظيمي لكتابِك، واتِّباعي لرَسولِك، اغفِرْ لي. أو قَولِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك بحُبِّي لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإيماني به أن تُفَرِّجَ عنِّي.
ومنه أن يذكُرَ الدَّاعي عَمَلًا صالِحًا ذا بالٍ، يدُلُّ على خوفِه مِنَ اللهِ سُبحانَه، وتقواه إيَّاه، وإيثارِه رِضاه على كُلِّ شَيءٍ، وطاعتِه له جَلَّ شأنُه، ثمَّ يتوسَّلَ به إلى رَبِّه في دعائِه؛ ليَكونَ أرجى لِقَبولِه وإجابتِه.
وممَّا يدُلُّ على مشروعيَّةِ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 16] .
وقَولُ اللهِ سُبحانَه: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 109] .
وعن بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ الأَسلَمِيِّ رضي الله عنه قال: سَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلًا يدعو وهو يَقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك بأنِّي أشهَدُ أنَّك أنت اللهُ لا إلهَ إلَّا أنت، الأحَدُ الصَّمَدُ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يَكُنْ له كُفُوًا أحَدٌ. قال: فقال: ((والذي نَفْسي بيَدِه لقد سأل اللهَ باسمِه الأعظَمِ الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى )) [504] أخرجه أبو داود (1493)، والترمذي (3475) واللفظ له، وابن ماجه (3857). صَحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (891)، والحاكِمُ على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1/683)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (4/331)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3475)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (159). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوْا المَبِيتَ إلى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ، فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوَانِ شيخَانِ كَبِيرَانِ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ قَبْلَهُما أهْلًا ولَا مَالًا، فَنَأَى بي في طَلَبِ شيءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُما نَائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ علَى يَدَيَّ، أنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شيئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ، قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غيرَ أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ منها، قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وقالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ أدِّ إلَيَّ أجْرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتَهْزِئُ بي، فَقُلتُ: إنِّي لا أسْتَهْزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ)) [505] أخرجه البخاري (2272) واللَّفظُ له، ومسلم (2743). .
قال الألبانيُّ: (يتَّضِحُ من هذا الحديثِ أنَّ هؤلاء الرِّجالَ المؤمنينَ الثَّلاثةَ حِينَما اشتَدَّ بهم الكَرْبُ، وضاق بهم الأمرُ، ويَئِسوا من أن يأتيَهم الفَرَجُ مِن كُلِّ طَريقٍ إلَّا طريقَ اللهِ تبارك وتعالى وَحْدَه، فلَجَؤوا إليه، ودَعَوه بإخلاصٍ، واستذكَروا أعمالًا لهم صالحةً، كانوا تعَرَّفوا فيها إلى اللهِ في أوقاتِ الرَّخاءِ، راجينَ أن يتعَرَّفَ إليهم رَبُّهم مقابِلَها في أوقاتِ الشِّدَّةِ، كما ورد في حديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي فيه: ((... تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعْرِفْك في الشِّدَّةِ)) [506] أخرجه من طرق أحمد (2803) باختلاف يسير، والطبراني (11/223) (11560)، والحاكم (6303) واللفظ لهما من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. صححه عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2961)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2803). ، فتوسَّلوا إليه سُبحانَه بتلك الأعمالِ) [507] يُنظر: ((التوسل أنواعه وأحكامه)) (ص: 35). .

انظر أيضا: