الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: بدايةُ ظُهورِ الشِّرْكِ في الأُلوهيَّةِ في هذه الأُمَّةِ

لعلَّ أصلَ حُدوثِ الشِّرْكِ في الألوهيَّةِ والعبادةِ كان مِن قِبَل الشِّيعةِ على اختِلافِ فِرَقِها وطوائفِها ونِحَلِها، فإنَّ التشَيُّعَ صار مَلَجأً لكُلِّ من يريدُ أن يحارِبَ الإسلامَ والمسلِمين، فالباطنيَّةُ بجَميعِ شُعَبِها -الإسماعيليَّةِ، والقرامِطةِ، والنُّصَيريَّةِ، والعُبَيديَّةِ، والدُّرزيَّةِ- منِ فِرَقِها، وقد كان أتباعُها مُشرِكين باللهِ جَلَّ وعلا في ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه، ومُشرِكين باللهِ جَلَّ وعلا في عبادتِه ومُعاملتِه أيضًا، فجَمَعوا خبائِثَ الأُمَمِ السَّابقةِ، وقالوا بالمجوسيَّةِ المحْضةِ، وجاهَروا بتَرْكِ الإسلامِ جُملةً، وكما كانوا يُثبِتون الشِّرْكَ في الرُّبوبيَّةِ في الذَّاتِ، ويُثبِتونَ الشِّرْكَ في الرُّبوبيَّةِ في الصِّفاتِ والأفعالِ، كانوا يَعبُدونَ القُبورَ وأهلَها، ويَبْنُون عليها المساجِدَ والقِبابَ، فأحْيَوا بذلك سُنَّةَ اليهودِ والنَّصارى، فظَهَرت في هذه الأمَّةِ فِرقةٌ قُبوريَّةٌ وَثَنيَّةٌ مُشرِكةٌ، عَمَّروا المشاهِدَ، وعَطَّلوا المساجِدَ؛ فالإسماعيليَّةُ -مثلًا- بَثُّوا مُعتَقَداتِهم بين النَّاسِ سِرًّا، فاستحسَنَ الجُهَّالُ هذا الأمرَ لخِفَّتِه وطَرْحِ التكاليفِ الشَّرعيَّةِ، فأخذت تُظهِرُ الاعتناءَ بالقُبورِ وتشييدِ المزاراتِ والمشاهِدِ، وتحَرِّي الدُّعاءِ عندَها، حتى نقَلَهم الشَّيطانُ إلى اتخاذِهم شُفَعاءَ، ثمَّ نَقَلَهم إلى دعاءِ الأمواتِ، ثمَّ نقَلَهم إلى الاعتقادِ بأنَّ لهم تصَرُّفًا في الكونِ، فتدَرَّجوا في هذا الضَّلالِ خلالَ أكثَرَ مِن قرنينِ مِن الزَّمانِ [79] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/350)، ((الإسماعيلية المعاصرة)) للجوير (ص: 61). .
قال صالح آل الشَّيخِ مُبَيِّنًا كيف دخل الشِّرْكُ في المسلمينَ: (ببَعثةِ نبيِّ الهدى والرَّحمةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زالت عبادةُ الأصنامِ على أصنافِها، وتحَرَّرَت العُقولُ مِن دناءةِ تَفكيرِها، ووَضاعةِ تصَوُّرِها، فارتَقَت إلى التَّوحيدِ بعد أن كانت في حَمأةِ الشِّركِ، وأصبَحَت قُلوبُ العَرَبِ وغَيرِهم مُتَّجِهةً إلى اللهِ وَحْدَه، لا شريكَ معه غَيرُه، لا نبيٌّ مُرسَلٌ، ولا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، فأتمَّ اللهُ الأمرَ، وأكمَلَ دينَه، وأعلى كَلِمتَه.
فدام على هذا المسلمونَ زمانًا وقُرونًا، حتى ظَهَرَت فيهم الحَرَكاتُ الباطِنيَّةُ الخبيثةُ: كالإسماعيليَّةِ وما تفَرَّع عنها من قرامطةٍ، وإخوانِ الصَّفا، وعُبَيديِّينَ، ودُروزٍ، ونحوِهم ممَّا يُعَدُّونَ صُوَرًا لعقيدةٍ واحِدةٍ.
اتَّخَذَت هذه الحرَكةُ منذُ القديمِ تقديسَ أهلِ بَيتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِعارًا لها، وسَلْسَلوا الإمامةَ في إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ، وكانوا في تقديسِهم لآلِ البَيتِ مشهورين، فالدَّولةُ الفاطِميَّةُ أثَرُ هذه الحَركةِ الباطنِيَّةِ.
فالمسلِمون في القُرونِ الأُولى لا يوجَدُ بينهم من تحومُ مظاهِرُ الشِّرْكِ في ذِهْنِه، كشِرْكِ العَرَبِ باتخاذِ الصَّالحين والأنبياءِ وسائِلَ وشُفَعاءَ، حتى بَثَّ الإسماعيليُّونَ مُعتَقَداتِهم بين النَّاس سِرًّا، فاستحسَنَ الجُهَّالُ هذا الأمرَ لخِفَّتِه وطَرْحِ التكاليفِ الشَّرعيَّةِ، فأخذت تُظهِرُ الاعتناءَ بالقُبورِ وتشييدِ المزاراتِ والمشاهِدِ، وتحَرِّي الدُّعاءِ عندَها، حتى نقَلَهم الشَّيطانُ إلى اتخاذِهم شُفَعاءَ، ثمَّ نَقَلَهم إلى دعاءِ الأمواتِ، ثمَّ نقَلَهم إلى الاعتقادِ بأنَّ لهم تصَرُّفًا في الكونِ، تدَرَّج هذا في قرنَينِ أو نَحوِهما.
وإنَّ أقدَمَ مَن وَقَفْتُ عليه يَرجِعُ المسلِمينَ إلى دينِ الجاهليَّةِ في الاعتِقادِ بالأرواحِ والقُبورِ هم الإسماعيليُّونَ، وبخاصَّةٍ إخوانُ الصَّفا، تلك الجماعةُ السِّرِّيَّةُ الخَفِيَّةُ التي بَثَّت عقائِدَها ورسائِلَها الخمسينَ بسِرِّيَّةٍ تامَّةٍ، حتى لا يكادَ يُعرَفُ لها كاتِبٌ ولا مُصَنِّفٌ، وإنْ ظَنَّ ظَنًّا.
ثمَّ تَبِعَهم على تقديسِ المقبورينَ مِن أهلِ البَيتِ المُوسَوِيُّون الملَقَّبونَ بالاثنَيْ عَشريَّة، وصَنَّفوا التصانيفَ في الحَجِّ إلى المشاهِدِ، وفي كيفيَّةِ الزِّياراتِ والأدعيةِ عند القُبورِ، يُسنِدونَها بطُرُقٍ باطلةٍ كاذبةٍ إلى أئمَّةِ أهلِ البَيتِ رَضِيَ اللهُ عنهم.
وقد طالَعْتُ كتابَ «الزيارات الكاملة» لابنِ قولَوَيه، فرأيتُ فيه من هذا شيئًا كثيرًا، وهو مطبوعٌ، ومن طالَعَ تراثَ الإسماعيليِّنَ، وحركةَ إخوانِ الصَّفا؛ وجَدَ ما قلتُه ماثلًا أمامَه، فإنَّ الشَّأنَ عَظيمٌ، وإنَّ فِتنةَ النَّاسِ بالقُبورِ واتخاذِ أهلِها شُفَعاءَ ووُسَطاءَ لم تُعرَفْ قَبْلَهم، ولَمَّا غَلَب الجَهْلُ قَبلَ ظُهورِ الدَّولةِ الفاطِميَّةِ عرَفَت هذه الأمورَ طائفةٌ مِن النَّاسِ، فلَمَّا ظَهَرَت الدَّولةُ العُبَيديَّةُ شَيَّدت المشاهِدَ، ونَشَرَت ما كان سرًّا من عقائِدِها.
جاء في الرِّسالةِ الثَّانية والأربعينَ مِن «رسائل إخوانِ الصَّفا» ما يُبَيِّنُ هذا، ويُبرهِنُ له، قال مؤلِّفو الرسائل (4/19-21): «وذلك أنَّ القَومَ الذين بُعِثَ إليهم النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والتحِيَّةُ والرِّضوانُ، كانوا يتدَيَّنون بعبادةِ الأصنامِ، وكانوا يتقَرَّبون إلى اللهِ تعالى بالتعظيمِ لها والسُّجودِ والاستسلامِ والبُخوراتِ، وكانوا يعتَقِدون أنَّ ذلك قُربةٌ لهم إلى اللهِ زُلفى، والأصنامُ هي أجسامٌ خُرسٌ، لا نُطْقَ لها ولا تمييزَ ولا حِسَّ ولا صُورةَ ولا حَرَكةَ؛ فأرسلَهم اللهُ، ودَلَّهم على ما هو أهدى وأقوَمُ، وأولى ممَّا كانوا فيه، وذلك أنَّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ وإن كانوا بشرًا فهم أحياءٌ ناطِقون ممَيِّزون، عُلَماءُ مُشاكِلون للملائِكةِ بنُفوسِهم الزكِيَّةِ، يَعرِفون اللهَ حَقَّ معرفتِه، والتقَرُّبُ إلى اللهِ بهم أَولى وأهدى وأحَقُّ مِن التوَسُّلِ بالأصنامِ الخُرْسِ التي لا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ ولا تُغني عنك شيئًا. ثمَّ اعلَمْ أنَّا نُبَيِّنُ هاهنا بدءَ عِبادةِ الأصنامِ، فنقولُ بأنَّ بَدْءَ عبادةِ الأُمَمِ للأصنامِ أولًا كان عبادةَ الكواكِبِ، وبَدءَ عبادةِ الكواكبِ كان عِبادةَ الملائِكةِ، وسَبَبَ عبادةِ الملائكةِ كان التوسُّلَ بهم إلى اللهِ تعالى، وطَلَبَ القُربةِ إليه، وذلك أنَّ الحُكَماءَ الأوَّلين لَمَّا عَرَفوا بذَكاءِ نُفوسِهم وصَفاءِ أذهانهِم أنَّ للعالَمِ صانعًا حكيمًا، وذلك لتأمُّلِهم عجائِبَ مصنوعاتِه، وتفَكُّرِهم في غرائبِ مَخلوقاتِه، واعتِبارِهم تصانيفَ أحوالِ مخترعاتِه، ولَمَّا تحَقَّقَت في نفوسِهم هُوِيَّتُه، أقرُّوا له عند ذلك بالوَحدانيَّةِ، ووَصَفوه بالرُّبوبيَّةِ، وعَلِموا أنَّ له ملائكةً هم صَفْوَتُه من خَلْقِه، وخالِصُ عِبادِه مِن بَرِيَّتِه: طَلَبوا عند ذلك إلى اللهِ القُربةَ، وتوَسَّلوا إليه بهم، وطلَبوا الزُّلفى لديه بالتعظيمِ لهم، كما يفعَلُ أبناءُ الدُّنيا، ويطلُبون القُربةَ إلى مُلوكِهم بالتوسُّلِ إليهم بأقرَبِ المختصِّين بهم، وكان من النَّاسِ من يتوسَّلُ إلى الملك بأقاربِه ونُدَمائِه ووُزَرائِه وكُتَّابِه وخَواصِّه وقُوَّادِه، وبمن يمكِنُه بحَسَبِ ما يتأتَّى له، الأقرَبُ فالأقرَبُ، والأدنى فالأدنى، كُلُّ ذلك طلبًا للقُربةِ إليه، والزُّلفى لَدَيه، فهكذا، وعلى هذا المثالِ فعَلَت الحُكَماءُ وأهلُ الدِّياناتِ ومَن عَرَف اللهَ، وآمَنَ به وأقَرَّ به؛ فإنَّهم طَلَبوا القُربةَ إليه والزُّلفى عنده، كُلُّ واحدٍ بحسَبِ ما أمكَنَه وتأتَّى له، وأدَّى إليه اجتهادُه، وتحَقَّق في نَفْسِه.
فلمَّا مضى أولئك الحُكَماءُ والرَّبَّانيُّونَ العارِفونَ باللهِ حَقَّ معرفتِه، وانقَرَضوا، خَلَفَهم قومٌ آخَرونَ لم يكونوا مِثْلَهم في المعرفةِ والعِلمِ، ولم يَعرِفوا مَغْزاهم في دياناتِهم، فأرادوا الاقتداءَ بهم في سيرتِهم، واتَّخَذوا أصنامًا على مِثْلِ صُورتِهم، وصَوَّروا تماثيلَ على مِثْلِ ما فعَلَت النصارى في بِيَعِهم من التماثيلِ والصُّوَرِ؛ مثِلُ: أشباهِ المسيحِ عليه السَّلامُ، ومِثْلُ الرُّوحِ القُدُسِ، وجِبرائيلَ، ومَريمَ عليهما السَّلامُ، وكذلك أحوالُ المسيحِ في متصَرَّفاتِه؛ ليكونَ ذلك تَذكارًا لهم بأحوالِه كيفما يَمَّموا تلك التصاويرَ والتماثيلَ».
ثمَّ قال إخوانُ الصَّفا الباطِنيُّون: «... ثمَّ اعلَمْ يا أخي أنَّ مِن النَّاسِ من يتقَرَّبُ إلى اللهِ بأنبيائِه ورُسُلِه وبأئمَّتِهم وأوصيائِهم، أو بأولياءِ اللهِ وعِبادِه الصَّالحينَ، أو بملائكةِ اللهِ المقَرَّبين، والتَّعظيمِ لهم ومساجِدِهم ومَشاهِدِهم، والاقتداءِ بهم وبأفعالِهم، والعَمَلِ بوصاياهم وسُنَنِهم على ذلك بحَسَبِ ما يمكِنُهم ويتأتَّى لهم، ويتحَقَّقُ في نفوسِهم، ويؤدِّي إليه اجتهادُهم، فأمَّا من يَعرِفُ اللهَ حَقَّ مَعرفتِه فهو لا يتوسَّلُ إليه بأحَدٍ غَيرِه، وهذه مرتبةُ أهلِ المعارِفِ الذين هم أولياءُ اللهِ، وأمَّا مَن قَصَر فَهْمُه ومَعرفتُه وحقيقتُه فليس له طريقٌ إلى اللهِ تعالى إلَّا بأنبيائِه، ومَن قَصَر فَهْمُه ومَعرفتُه بهم فليس له طريقٌ إلى اللهِ تعالى إلا بالأئمَّةِ مِن خُلَفائِهم وأوصيائِهم، والتعَلُّقِ بسُنَنِهم، والذَّهابِ إلى مَساجِدِهم ومشاهِدِهم، والدُّعاءِ والصَّلاةِ والصِّيامِ والاستِغفارِ، وطَلَبِ الغُفرانِ والرَّحمةِ عندَ قُبورِهم، وعندَ التَّماثيلِ المصَوَّرةِ على أشكالِهم؛ لتَذكارِ آياتِهم، وتَعَرُّفِ أحوالِهم، مِنَ الأصنامِ والأوثانِ، وما يشاكِلُ ذلك؛ طلبًا للقُربةِ إلى اللهِ والزُّلفى لَدَيه.
ثمَّ اعلَمْ أنَّه على كُلِّ حالٍ مِن يَعبُدُ شَيئًا من الأشياءِ، ويتقَرَّبُ إلى اللهِ تعالى بأحَدٍ؛ فهو أصلَحُ حالًا ممَّن لا يَدِينُ شَيئًا، ولا يتقَرَّبُ إلى اللهِ البتَّةَ» انتهى ما نقَلْتُه من رسائِلِ إخوانِ الصَّفا.
وهذه الجَماعةُ الباطنيَّةُ كان مبدأُ نشاطاتِها في أوَّلِ القَرنِ الثَّالِثِ، ولم تُعرَفْ رسائِلُها التي قَعَّدَت لمَذهَبِها، وبَثَّت ذلك في أوساطِ النَّاسِ، إلَّا في القَرنِ الرَّابعِ الهِجريِّ، بسِرِّيَّةٍ تامَّةٍ، فدخَلَت الأفكارُ في الطَّغامِ، وأنكَرَها العُلَماءُ الأعلامُ، وكَفَّروا أصحابَها، كما قال ابنُ عَقيلٍ صاحِبُ الفُنونِ، وهو من عُلَماءِ القَرْنِ الخامِسِ؛ حيثُ انتَشَرت المذاهِبُ بتأييدِ الدَّولةِ العُبَيديَّةِ. قال: لَمَّا صَعُبَت التكاليفُ على الجُهَّالِ والطَّغامِ، عَدَلوا عن أوضاعِ الشَّرعِ إلى تعظيمِ أوضاعٍ وَضَعوها لأنفُسِهم، فسَهُلت عليهم؛ إذ لم يَدخُلوا بها تحتَ أمرِ غَيرِهم، وهم عندي كُفَّارٌ؛ لهذه الأوضاع،ِ مِثلُ تعظيمِ القُبورِ، وخِطابِ الموتى بالحوائِجِ، وكَتْبِ الرِّقاعِ فيها: يا مولاي، افعَلْ بي كذا وكذا!، أو إلقاءِ الخِرَقِ على الشَّجَرِ؛ اقتداءً بمن عَبَد اللَّاتَ والعُزَّى) [80] يُنظر: ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 104). ويُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 354)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 352). .
فعُلِمَ بذلك أنَّ وُقوعَ الشِّرْكِ في القُبورِ في هذه الأمَّةِ إنَّما هو من مُعتَقَداتِ الباطِنيَّةِ، ولم يكُنْ فاشيًا قبل ظُهورِهم.
كما أنَّه قد عُرِّبَت كُتُبُ الفلاسِفةِ اليونانيَّةُ القُبوريَّةُ الوَثَنيَّةُ، وعَكَف عليها كثيرٌ مِمَّن تَفَلْسَفوا في الإسلامِ، أمثالُ الفارابي، وابنِ سينا، وغيرِهم، فتأثَّروا بآرائِهم الفَلْسفيَّةِ، ومنها العَقائِدُ القُبوريَّةُ، وسايرَهم في ذلك كثيرٌ من المتكَلِّمين.
فهذه النُّبذةُ لتاريخِ حُدوثِ الشِّرْكِ في الأُلوهيَّةِ في هذه الأمَّةِ تؤكِّدُ أنَّ الشِّرْكَ بالعِبادةِ لم يكُنْ موجودًا في القرنَينِ الأوَّلِ والثَّاني، وإنَّما حدث بعد مُضِيِّ أصحابِ القُرونِ الثَّلاثةِ المفَضَّلةِ المشهودِ لهم بالخيريَّةِ على لسانِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [81] يُنظر: ((الشرك في القديم والحديث)) لأبي بكر زكريا (1/647). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (جاءت خلافةُ بني العبَّاسِ، وظهر في أثنائِها من المشاهِدِ بالعِراقِ وغيرِ العِراقِ ما كان كثيرٌ منها كَذِبًا، وكانوا عند مَقتَلِ الحُسَينِ بكَرْبلاءَ قد بَنَوا هناك مشهدًا، وكان ينتابه أمراءُ عُظَماءُ حتى أنكَرَ ذلك عليهم الأئمَّةُ، وحتى إنَّ المتوكِّلَ لما تقَدَّموا له بأشياءَ يقالُ: إنَّه بالغَ في إنكارِ ذلك وزاد على الواجِبِ، دَعْ خلافةَ بني العبَّاسِ في أوائِلِها وفي حالِ استِقامتِها؛ فإنَّهم حينئٍذ لم يكونوا يعَظِّمون المشاهِدَ سواءٌ منها ما كان صِدقًا أو كَذِبًا، كما حدث فيما بعدُ؛ لأنَّ الإسلامَ كان حينَئذٍ ما يزالُ في قُوَّتِه وعُنفُوانِه، ولم يكُنْ على عَهدِ الصَّحابةِ والتَّابعين وتابعيهم من ذلك شيءٌ في بلادِ الإسلامِ، لا في الحِجازِ ولا اليَمَنِ ولا الشَّامِ ولا العِراقِ ولا مِصْرَ ولا خُراسانَ ولا المغرِبِ، ولم يكُنْ قد أُحدِثَ مَشهَدٌ لا على قبرِ نبيٍّ، ولا صاحِبٍ، ولا أحدٍ مِن أهلِ البيتِ، ولا صالحٍ أصلًا، بل عامَّةُ هذه المشاهِدِ مُحدَثةٌ بعدَ ذلك، وكان ظُهورُها وانتشارُها حين ضَعُفَت خلافةُ بني العبَّاسِ، وتفَرَّقت الأمَّةُ، وكَثُر فيهم الزَّنادِقةُ الملَبِّسون على المسلمين، وفَشَت فيهم كَلِمةُ أهلِ البِدَعِ، وذلك مِن دولةِ المقتَدِرِ في أواخِرِ المائةِ الثَّالِثةِ؛ فإنَّه إذ ذاك ظهَرَت القرامِطةُ العُبَيديَّةُ القداحيَّةُ بأرضِ المغربِ، ثمَّ جاؤوا بعد ذلك إلى أرضِ مِصرَ، ويقالُ: إنَّه حدث قريبًا من ذلك المكوسُ في الإسلامِ، وقريبًا من ذلك ظَهَر بنو بُوَيه، وكان في كثيرٍ منهم زَنْدَقةٌ وبِدَعٌ قويَّةٌ، وفي دولتِهم قَوِيَ بنو عُبَيد القداح بأرضِ مِصرَ، وفي دولتِهم أُظهِرَ المشهَدُ المنسوبُ إلى عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه بناحيةِ النَّجَفِ) [82] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (27/465). .

انظر أيضا: