الموسوعة العقدية

المَطلَب الثَّاني: سَبُّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم

سَبُّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ليس على مرتبةٍ واحدةٍ، بل له مراتِبُ مُتفاوِتةٌ؛ فإنَّ سَبَّ الصَّحابةِ أنواعٌ ودَرَكاتٌ؛ فمنها سبٌّ يقتضي الطَّعنَ في عدالتِهم، ومنها سَبٌّ لا يوجِبُ الطَّعنَ في عدالتِهم، وقد يكونُ السَّبُّ لجميعِهم أو أكثَرِهم، وقد يكونُ لبعضِهم، وهناك سبٌّ لمن تواترت النُّصوصُ بفَضْلِه، ومنهم دونَ ذلك، ويختَلِفُ الحُكْمُ باختلافِ الحالاتِ كما يأتي بيانُه:
1- إن كان مُستحِلًّا لسَبِّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، فهو كافِرٌ [2678] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (3/ 1061). ؛ فمن المعلومِ أنَّ جميعَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم عدولٌ، وقد أجمع العُلَماءُ على عدالتِهم؛ لِما جاء في الكِتابِ والسُّنَّةِ من الثَّناءِ الحَسَنِ عليهم، والمدحِ لهم، ونَقَل الإجماعَ على عدالتِهم جمعٌ من العُلَماءِ [2679] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/149). .
قال ابنُ الصَّلاحِ: (للصَّحابةِ بأسْرِهم خَصيصةٌ، وهي أنَّه لا يُسألُ عن عدالةِ أحَدٍ منهم، بل ذلك أمـرٌ مَفروغٌ منه؛ لكونِهم على الإطلاقِ مُعَدَّلين بنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإجماعِ من يُعتَدُّ به في الإجماعِ من الأُمَّةِ،... ثم إنَّ الأُمَّةَ مجمِعةٌ على تعديلِ جميعِ الصَّحابةِ، ومن لابَسَ الفِتَنَ منهم فكذلك، بإجماعِ العُلَماءِ الذين يُعتَدُّ بهم في الإجماعِ؛ إحسانًا للظَّنِّ بهم، نظرًا إلى ما تمهَّد لهم من المآثِرِ، وكأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أتاح الإجماعَ على ذلك؛ لكونِهم نَقَلةَ الشَّريعةِ. واللهُ أعلَمُ) [2680] يُنظر: ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 397). .
وقال النَّووي: (وكُلُّهـم عُدولٌ رَضِيَ اللهُ عنهم، ومتأوِّلون في حُروبِهم وغَيرِها، ولم يُخرِجْ شَيءٌ من ذلك أحدًا منهم عن العدالةِ،… ولهذا اتَّفَق أهلُ الحَقِّ ومن يُعتَدُّ به في الإجماعِ على قَبولِ شَهاداتِهم ورواياتِهم، وكَمالِ عَدالتِهم رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين) [2681] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/149). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (الصَّحابةُ كُلُّهم عدولٌ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ لِما أثنى اللهُ عليهم في كِتابه العزيزِ، وبما نطَقَت به السُّنَّةُ النبويَّةُ في المدحِ لهم في جميعِ أخلاقِهم وأفعالِهم، وما بَذَلوه من الأموالِ والأرواحِ بين يَدَيْ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ رغبةً فيما عند الله من الثَّوابِ الجزيلِ، والجزاءِ الجميلِ) [2682] يُنظر: ((اختصار علوم الحديث)) (ص: 181). .
وسَبُّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم حرامٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ.
قال اللهُ تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضًا [الحجرات: 12] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: ولا يغتَبْ بعضُكم بعضًا أيُّها المؤمنون، ولا يطعَنْ بعضُكم على بعضٍ) [2683] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 366). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (أدنى أحوالِ السَّابِّ لهم أن يكونَ مُغتابًا) [2684] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1067). .
وقال اللهُ سُبحانَه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران: 119] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يعني تعالى ذِكْرُه بقَولِه: فَاعْفُ عَنْهُمْ فتجاوَزْ -يا مُحمَّدُ- عن أتباعِك وأصحابِك من المؤمنين بك وبما جِئتَ به من عندي، ما نالك من أذاهم ومَكروهٍ في نَفْسِك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وادْعُ رَبَّك لهم بالمغفرةِ لِما أتَوْا من جُرمٍ، واستحَقُّوا عليه عقوبةً منه) [2685] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/ 188). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (محبَّةُ الشَّيءِ كراهةٌ لضِدِّه، فيكونُ اللهُ سُبحانَه وتعالى يَكرَهُ السَّبَّ لهم الذي هو ضِدُّ الاستغفارِ، والبُغضَ لهم الذي هو ضِدُّ الطَّهارةِ) [2686] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1071). .
فسَبُّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم كبيرةٌ من كبائِرِ الذُّنوبِ؛ لِما ترَتَّبَ عليه من الوَعيدِ باللَّعنةِ، واستحلالُ سَبِّهم إنكارٌ لِما عُلِمَ تحريمُه من الدِّينِ بالضَّرورةِ؛ ومِن ثَمَّ فهو خروجٌ عن المِلَّةِ.
قال مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (فإذا عرَفْتَ أنَّ آياتِ القُرآنِ تكاثَرت في فَضْلِهم، والأحاديثَ المتواتِرةَ بمجموعِها ناصَّةٌ على كَمالِهم،… فإنِ اعتَقَد حقِّيَّةَ سَبِّهم أو إباحتَه، فقد كَفَر؛ لتكذيبِه ما ثبت قطعًا عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُكَذِّبُه كافِرٌ) [2687] يُنظر: ((الرد على الرافضة)) (ص: 18). .
2- أن يَسُبَّ جميعَ الصَّحابةِ أو جمهورَهم سبًّا يَقدَحُ في دينِهم وعدالتِهم، كأنْ يرميَهم بالكُفرِ، أو الفِسْقِ، أو الضَّلالِ.
قال عِياضٌ: (نقطَعُ بتكفيرِ كُلِّ قائلٍ قال قولًا يُتوصَّلُ به إلى تضليلِ الأُمَّةِ، وتكفيرِ جميعِ الصَّحابةِ، كقَولِ الكميليَّةِ [2688] الكميلية: أصحاب أبي كامل، وهم فِرقةٌ من غُلاة الشيعة، كفَّروا جميعَ الصحابة، وقالوا بالتناسُخِ والحلولِ. يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/174)، ((اعتقادات فرق المسلمين)) للرازي (ص 60). من الرَّافِضةِ بتكفيرِ جميعِ الأُمَّةِ بعد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،... لأنَّهم أبطَلوا الشَّريعةَ بأَسْرِها؛ إذ قد انقَطَع نَقْلُها ونَقْلُ القُرآنِ؛ إذ ناقِلوه كَفَرةٌ على زَعمِهم، وإلى هذا -واللهُ أعلَمُ- أشار مالِكٌ في أحَدِ قَولَيه بقَتلِ من كفَّر الصَّحابةَ) [2689] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 286). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا من جاوز ذلك إلى أنْ زَعَم أنَّهم ارتدُّوا بعد رَسولِ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَّا نَفَرًا قليلًا لا يَبلُغون بضعةَ عَشَرَ نَفْسًا، أو أنَّهم فَسَّقوا عامَّتَهم، فهذا لا ريبَ أيضًا في كُفْرِه؛ فإنَّه مُكَذِّبٌ لِما نصَّه القُرآنُ في غيرِ مَوضِعٍ من الرِّضا عنهم والثَّناءِ عليهم، بل من يَشُكُّ في كُفرِ مِثلِ هذا فإنَّ كُفْرَه مُتعَيِّنٌ؛ فإنَّ مضمونَ هذه المقالةِ أنَّ نَقَلةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ كُفَّارٌ أو فُسَّاقٌ، وأنَّ هذه الأُمَّةَ التي هي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] ، وخيرُها هو القَرْنُ الأوَّلُ، كان عامَّتُهم كُفَّارًا أو فُسَّاقًا، ومَضمونُها أنَّ هذه الأُمَّةَ شَرُّ الأُمَمِ، وأنَّ سابِقي هذه الأُمَّةِ هم شِرارُها، وكُفرُ هذا ممَّا يُعلَمُ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ) [2690] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1110). .
وقال السُّبكي: (إنَّ سَبَّ الجَميعِ لا شَكَّ أنَّه كُفرٌ،... وعلى هذا ينبغي أن يُحمَلَ قَولُ الطَّحاوي: وبُغْضُهم كُفرٌ؛ فإنَّ بُغضَ الصَّحابةِ بجُملتِهم لا شَكَّ أنَّه كُفرٌ) [2691] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/575). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (من ظَنَّ بالصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم ذلك أي: كِتمانَ الوَصِيَّةِ لعَليٍّ بالخِلافِ؛ فقد نسَبَهم بأجمعِهم إلى الفُجورِ والتواطُؤِ على معاندةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومضادَّتِه في حُكْمِه ونَصِّه، ومن وصل من النَّاسِ إلى هذا المقامِ فقد خلع رِبقةَ الإسلامِ، وكَفرَ بإجماعِ الأئِمَّةِ الأعلامِ، وكان إراقةُ دَمِه أحَلَّ مِن إراقةِ المُدامِ) [2692] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (8/ 99). .
وقال ابن حجر الهيتمي: (إنَّ تكفيرَ جميعِ الصَّحابةِ كُفرٌ؛ لأنَّه صريحٌ في إنكارِ جميعِ فُروعِ الشَّريعةِ الضَّروريةِ فَضلًا عن غَيْرِها) [2693] يُنظر: ((الإعلام بقواطع الإسلام)) (ص: 170). .
وذكر مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ أنَّ القَولَ بارتدادِ الصَّحابةِ عدا خمسةَ أو سِتَّةَ نَفَرٍ هو: (هَدمٌ لأساسِ الدِّينِ؛ لأنَّ أساسَه القُرآنُ والحديثُ، فإذا فُرِض ارتدادُ من أخَذَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا النَّفَرَ الذين لا يبلُغُ خبَرُهم التواتُرَ، وقع الشَّكُّ في القُرآنِ والأحاديثِ) [2694] يُنظر: ((الرد على الرافضة)) (ص: 13). .
وقال أيضًا: (من نَسَب جُمهورَ أصحابِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الفِسْقِ والظُّلمِ، وجَعَل اجتماعَهم على الباطلِ، فقد ازدرى بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وازدراؤه كُفرٌ) [2695] يُنظر: ((الرد على الرافضة)) (ص: 8). .
وقال أيضًا: (القُرآنُ مَشحونٌ مِن مَدحِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، فمن سَبَّهم فقد خالف ما أمَرَ اللهُ من إكرامِهم، ومن اعتقد السُّوءَ فيهم كُلِّهم أو جمهورِهم، فقد كَذَّب اللهَ تعالى فيما أخبَرَ مِن كَمالِهم وفضائِلِهم، ومُكَذِّبُه كافِرٌ) [2696] يُنظر: ((الرد على الرافضة)) (ص: 17). .
وقال مُحمَّدٌ العربيُّ بنُ التُّبَانيِّ: (لقد بَعُد عن جادَّةِ الحَقِّ وضَيَّق واسِعًا من تحَكَّم برأيِه على المعطي المتفَضِّلِ المنَّانِ، فزَعَم أنَّهم كَفَروا كُلُّهم إلَّا خمسةً أو ستةً، فعقيدةٌ هذه الطَّائفةِ يعني الرَّافِضةَ في تكفيرِهم جميعَ الصَّحابةِ لا تَخرُجُ أيضًا عن الأمرينِ السَّابقينِ: نِسبةِ الجَهلِ أو نسبةِ العَبَثِ إليه تعالى، وكلاهما كفرٌ ومحالٌ في حَقِّه جَلَّ وعلا، ولا نستطيعُ أن نتصَوَّرَ كيف تؤمِنُ هذه الطَّائفةُ بالقُرآنِ وهم يردُّون نُصوصَه الصَّريحةَ التي يتلونَها بألسِنَتِهم في مَدْحِ الصَّحابةِ؟! كيف يؤمِنُ بنُصوصِ القُرآنِ من يُكَذِّبُ بوَعْدِه تعالى لهم بالحُسْنى، وبإعدادِه لهم المنازِلَ الرفيعةَ في الجَنَّةِ، وبرِضاه عنهم ورِضاهم عنه؟!) [2697] يُنظر: ((إتحاف ذوي النجابة)) (ص: 135). .
ويمكِنُ أن يُلحَقَ بهذا النَّوعِ من السَّبِّ -وإن كان أشنَعَ ممَّا سبق- سَبُّ الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عنهم من أجْلِ صُحبتِهم ونُصرتِهم لدينِ اللهِ تعالى، ولو كان واحِدًا.
قال ابنُ حزمٍ: (من أَبغَضَ الأنصارَ لأجْلِ نُصرتِهم للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو كافِرٌ؛ لأنَّه وَجَد الحَرَجَ في نَفْسِه ممَّا قضى اللهُ تعالى ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من إظهارِ الإيمانِ بأيديهم، ومن عادى عليًّا لمثلِ ذلك فهو أيضًا كافِرٌ) [2698] يُنظر: ((الفصل)) (3/ 143). .
وقال السُّبكي: (إنْ سَبَّ الجميعَ لا شَكَّ أنَّه كُفرٌ، وهكذا إذا سَبَّ واحِدًا من الصَّحابةِ حيث هو صحابيٌّ؛ لأنَّ ذلك استِخفافٌ بحَقِّ الصُّحبةِ، ففيه تعَرُّضٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا شَكَّ في كُفرِ السَّابِّ،... ولا شَكَّ أنَّه لو أبغَضَ واحدًا منهما أي الشيخينِ أبا بكرٍ وعُمَرَ لأجْلِ صُحبتِه فهو كُفرٌ، بل مَن دُونَهما في الصُّحبةِ، إذا أبغَضَه لصُحبتِه كان كافِرًا قَطْعًا) [2699] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/575). .
وقال ابنُ حَجرٍ عند شَرْحِه لحديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا: ((آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصارِ، وآيةُ النِّفاقِ بُغضُ الأنصارِ )) [2700] أخرجه البخاري (17) واللَّفظُ له، ومسلم (74). : (من أبغضَهم من جهةِ هذه الصِّفةِ -وهي كَونُهم نصَروا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أثَّرَ ذلك في تصديقِه، فيَصِحُّ أنَّه مُنافِقٌ، ويُقرِّبُ هذا الحَملَ زيادةُ أبي نُعَيم في المستخرَجِ في حديـثِ البراءِ بنِ عازبٍ: ((من أحبَّ الأنصارَ فبحُبي أحَبَّهم، ومن أبغَضَ الأنصارَ فببُغضي أبغَضَهم)) [2701] أخرجه البخاري (3783) ومسلم (75) بنحوه ولفظه: ((الأنصارُ لا يحبُّهم إلا مؤمنٌ، ولا يبغِضُهم إلا منافقٌ، فمن أحَبَّهم أحَبَّه الله، ومن أبغَضَهم أبغَضَه الله)). ،... وقد أخرج مُسلِمٌ من حديثِ أبي سعيدٍ رَفَعَه: ((لا يُبغـِضُ الأنصارَ رجلٌ يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ )) [2702] أخرجه مسلم (77). [2703] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/63). .
وقال العَينيُّ: (المقصودُ من الحديثِ الحَثُّ على حُبِّ الأنصارِ وبيانُ فَضْلِهم لِما كان منهم من إعزازِ الدِّينِ، وبَذْلِ الأموالِ والأنفُسِ، والإيثارِ على أنفُسِهم، والإيواءِ والنَّصرِ، وغيرِ ذلك، قالوا: وهذا جارٍ في أعيانِ الصَّحابةِ، كالخُلَفاءِ وبَقيَّةِ العَشَرةِ، والمهاجِرين، بل في كُلِّ الصَّحابةِ؛ إذ كُلُّ واحدٍ منهم له سابقةٌ وسالِفةٌ وغَناءٌ في الدِّينِ وأثَرٌ حَسَنٌ فيه؛ فحُبُّهم لذلك المعنى محضُ الإيمانِ، وبغضُهم محضُ النِّفاقِ) [2704] يُنظر: ((عمدة القاري)) (1/ 152). .
وقال الصاوي: (وأمَّا من كفَّر جميعَ الصَّحابةِ فإنَّه يَكفُرُ باتِّفاقٍ، كما في الشَّامِلِ؛ لأنَّه أنكر معلومًا من الدِّينِ بالضَّرورةِ، وكَذَّب اللهَ ورَسولَه) [2705] يُنظر: ((الشرح الصغير مع حاشية الصاوي)) (4/ 444). .
3- أن يَسُبَّ صحابيًّا تواترت النُّصوصُ بفَضْلِه، فيطعَنُ في دينِه وعدالتِه؛ وذلك لِما فيه من تكذيبٍ لهذه النُّصوصِ المتواترةِ، والإنكارِ والمخالفةِ لحُكمٍ معلومٍ من الدِّينِ بالضَّرورةِ.
قال مالكٌ: (من شتم أحدًا من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أبا بكرٍ أو عُمَرَ، أو عثمانَ أو معاويةَ، أو عَمْرَو بن العاصِ، فإنْ قال: كانوا على ضلالٍ وكُفرٍ، قُتِلَ) [2706] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (2/ 308). .
وسُئِل أحمدُ عمَّن يشتُمُ أبا بكرٍ وعُمَرَ وعائشةَ، فقال: (ما أراه على الإسلامِ)، وسُئِلَ عمن يشتُمُ عثمانَ، فقال: (هذه زَندَقةٌ) [2707] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 493). .
وقال مُحمَّدُ بنُ يُوسُفَ الفِرْيابيُّ وسُئِلَ عمَّن شتم أبا بكرٍ، فقال: (كافِرٌ)، قيل: فيُصَلَّى عليه؟ قال: (لا)، وسُئِل: كيف يُصـنَعُ به وهـو يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؟ قال: (لا تمسُّوه بأيديكم، ادفَعوه بالخَشَبِ حتى توارُوه في حُفْرتِه) [2708] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 499). .
وقال السُّبكي: (احتجَّ المُكَفِّرون للشِّيعةِ والخوارجِ بتكفيرِهم لأعلامِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وتكذيبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَطْعِه لهم بالجَنَّةِ، وهذا عندي احتجاجٌ صحيحٌ فيمن ثبت عليه تكفيرُ أولئك، وأجاب الآمديُّ بأنَّه إنَّما يلزَمُ أن لو كان المُكَفِّرُ يَعلَمُ بتزكيةِ من كَفَّره قطعًا على الإطلاقِ إلى مماتِه بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أبو بكرٍ في الجَنَّة، وعُمَرُ في الجَنَّةِ، وعُثمانُ في الجَنَّةِ، وعليٌّ في الجَنَّةِ)) [2709] أخرجه من طرق: أبو داود (4649)، والترمذي بعد حديث (3757)، وابن ماجه (133) من حَديثِ سعيد بن زيد رضي الله عنه. صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6993)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4649)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4649)، وحَسَّنه الترمذي، والوادعي في ((الصحيح المسند من دلائل النبوة)) (203). وأخرجه من طريق آخر الترمذي (3748)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8195) من حَديثِ سعيد بن زيد رضي الله عنه. قال البخاري كما في ((سنن الترمذي)) (5/648): هو أصحُّ. وقال الترمذي: هذا أصَحُّ. وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3748)، وقال ابن حجر في ((الإمتاع)) (1/104): له شواهد. وأخرجه من حَديثِ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: الترمذي (3747)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8194)، وأحمد (1675). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (7002)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3747)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/136)، وقوَّاه على شرط مسلم شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1675). إلى آخِرِهم، وإن كان هذا الخبَرُ ليس متواترًا لكنَّه مشهورٌ مُستفيضٌ، وعَضَّده إجماعُ الأُمَّةِ على إمامتِهم وعُلُوِّ قَدْرِهم وتواتُرِ مناقِبِهم أعظَمَ التواتُرِ الذي يفيدُ تزكيتَهم، فبذلك نقطَعُ بتزكيتِهم على الإطلاقِ إلى مماتِهم، لا يختَلِجُنا شَكٌّ في ذلك) [2710] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/569). .
وقال أيضًا: (أمَّا الرَّافضيُّ فإنَّه يُبغِضُ أبا بكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما لِما استقَرَّ في ذِهْنِه بجَهْلِه، وما نشأ عليه من الفسادِ عن اعتقادِ ظُلمِهما لعَلِيٍّ، وليس كذلك، ولا عليٌّ يعتقِدُ ذلك، فاعتقادُ الرَّافضي ذلك يعودُ على الدِّينِ بنَقضٍ؛ لأنَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ هما أصلٌ بعد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهذا مأخذُ التكفيرِ ببُغضِ الرَّافضةِ لهما، وسَبِّهم لهما) [2711] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/576). .
وقال أيضًا: (تحريمُ سَبِّ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ بالنَّقلِ المتواتِرِ على حُسْنِ إسلامِه، وأفعالِه الدَّالَّةِ على إيمانِه، وأنَّه دام على ذلك إلى أنْ قَبَضَه اللهُ تعالى، هذا لا شَكَّ فيه) [2712] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/587). .
وقال الخرشي: (إنَّ من رمى عائشةَ بما برَّأها اللهُ منه، بأن قال: زنت، أو أنكر صُحبةَ أبي بكرٍ، أو إسلامَ العَشَرةِ، أو إسلامَ جميعِ الصَّحابةِ، أو كفَّر الأربعةَ، أو واحدًا منهم- كَفَر) [2713] يُنظر: ((شرح مختصر خليل)) (8/ 74)، وعَلَّل العدوي ذلك في ((حاشيته)) على الخرشي (8/74): (لأن إسلام الصحابة وإيمانهم صار معلومًا من دين الله بالضرورة). .
وجاء في (الفتاوى البَزَّازِيَّة): (من أنكر خلِافةَ أبي بكرٍ فهو كافِرٌ في الصَّحيحِ، ومُنكِرُ خلافةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه فهو كافِرٌ في الأصَحِّ، ويجِبُ إكفارُ الخوارِجِ بإكفارِ عُثمانَ وعليٍّ وطلحةَ والزُّبَيرِ وعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهم. وفي الخلاصةِ: الرَّافضيُّ إذا كان يسُبُّ الشَّيخَينِ ويلعَنُهما، فهو كافِرٌ) [2714] يُنظر: ((الفتاوى البزازية)) (6/318). .
وهذه المسألةُ فيها خلافٌ؛ فهناك من لا يَعُدُّ هذا السَّبَّ كُفرًا، بل يجعَلُه فِسقًا يوجِبُ التأديبَ والتعزيرَ.
ولا شَكَّ أنَّ هذا السَّبَّ فِسقٌ بالاتِّفاقِ، بل إنَّ القائلين بعدم تكفيرِ من سَبَّ الصَّحابةَ مجمِعون على ذلك.
قال السبكي: (أجمع القائلون بعدمِ تكفيرِ من سَبَّ الصَّحابةَ أنَّهم فُسَّاقٌ) [2715] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/580). .
وذكر ابنُ تيميَّةَ أنَّ أقَلَّ ما يُفعَلُ بشاتمِ الصَّحابةِ: التعزيرُ، وعَلَّل ذلك بقَولِه: (لأنَّه مشروعٌ في كُلِّ معصيةٍ ليس فيها حَدٌّ ولا كَفَّارةٌ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) [2716] أخرجه البخاري (2443) من حَديثِ أنس بن مالك رضي الله عنه. . وهذا ممَّا لا نعلَمُ فيه خلافًا بين أهلِ الفِقهِ والعِلمِ من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتابعينَ لهم بإحسانٍ، وسائِرِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فإنَّهم مجمِعون على أنَّ الواجِبَ الثَّناءُ عليهم، والاستغفارُ لهم، والترَحُّمُ عليهم والترَضِّي عنهم، واعتقادُ محبَّتِهم ومُوالاتِهم، وعقوبةُ من أساء فيهم القَولَ) [2717] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1085). .
وهنا جُملةٌ من نُصوصِ أقوالِ العُلَماءِ القائلين بعَدَمِ تكفيرِ من يسُبُّ بعضَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم:
سُئِل أحمدُ بنُ حَنبلٍ عمَّن شَتَم رجلًا من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: (أرى أن يُضرَبَ، ...). وقال: (ما أراه إلَّا على الإسلامِ) [2718] يُنظر: ((المسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة)) للأحمدي (2/363). ويُنظر ((الإنصاف)) للمرداوي (27/104). .
وقال عياضٌ: (قد اختلف العُلَماءُ في هذا؛ فمشهورٌ مذهَبِ مالكٍ في ذلك الاجتهادُ والأدَبُ الموجِعُ، قال مالكٌ رحمه الله: من شتم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُتِل، ومن شَتَم أصحابَه أدِّبَ.
وقال ابنُ حبيب: من غلا من الشِّيعةِ إلى بُغضِ عُثمانَ والبراءةِ منه أُدِّبَ أدبًا شديدًا، ومن زاد إلى بُغضِ أبي بكرٍ وعُمَرَ، فالعقوبةُ عليه أشَدُّ، ويُكَرَّرُ ضَرْبُه، ويُطالُ سَجْنُه حتى يموتَ، ولا يبلُغُ به القَتلُ إلَّا في سَبِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقال سحنون: من كَفَّر أحدًا من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ عليًّا أو عثمانَ أو غيرَهما، يوجَعُ ضَرْبًا) [2719] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (2/308). .
وقال السُّبكي: (أمَّا أصحابُنا يعني الشَّافعيَّةَ فقد قال القاضي حُسَين في تعليقِه في بابِ اختلافِ نيَّةِ الإمامِ والمأمومِ: ومن سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يكفُرُ بذلك، ومن سَبَّ صحابيًّا فَسَق، وأمَّا من سَبَّ الشَّيخينِ أو الخَتَنَين [2720] يعني عثمان وعليًّا رضي الله عنهما. ففيه وجهانِ:
أحَدُهما يَكفُرُ؛ لأنَّ الأُمَّة اجتمعت على إمامتِهم، والثَّاني: يَفسُقُ ولا يَكفُرُ) [2721] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/577). .
وقال الرَّمْليُّ الشَّافعيُّ: (ولا يكفُرُ بسَبِّ الشَّيخينِ أو الحَسَنِ والحُسَين إلَّا في وجهٍ حكاه القاضي حسين) [2722] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) (7/ 416). .
وقال ابنُ عابدين الحنفي: (نقل في البزَّازيَّةِ عن الخُلاصةِ أنَّ الرَّافضيَّ إذا كان يسُبُّ الشَّيخينِ ويلعَنُهما، فهو كافِرٌ، وإن كان يُفَضِّلُ عَلِيًّا عليهما فهو مبتَدِعٌ. اهـ. وهذا لا يستلزِمُ عدمَ قَبولِ التَّوبةِ، على أنَّ الحُكْمَ عليه بالكُفرِ مُشكِلٌ؛ لِما في الاختيارِ: اتَّفَق الأئِمَّةُ على تضليلِ أهلِ البِدَعِ أجمَعَ وتخطئتِهم، وسَبُّ أحَدٍ من الصَّحابةِ وبُغضُه لا يكونُ كفرًا، ولكِنْ يُضَلَّلُ... إلخ. وذكر في فتحِ القديرِ أنَّ الخوارجَ الذين يستحِلُّون دِماءَ المُسلِمين وأموالَهم ويُكفِّرون الصَّحابةَ، حُكمَهم عند جمهورِ الفُقَهاءِ وأهلِ الحديثِ حُكمُ البُغاةِ ... فعُلِمَ أنَّ ما ذكره في الخُلاصةِ من أنَّه كافِرٌ قَولٌ ضعيفٌ مخالِفٌ للمُتونِ والشُّروحِ) [2723] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/237). .
وممَّا يَستدِلُّ به القائلون بعَدَمِ كُفرِ سابِّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بأنَّ مُطلِقَ السَّبِّ لغيرِ الأنبياءِ لا يَستلزِمُ الكُفرَ؛ لأنَّ بَعضَ من كان على عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان رُبَّما سَبَّ بَعضُهم بعضًا، ولم يُكَفَّرْ أحدٌ بذلك [2724] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (3/ 1086). .
والجوابُ عن استدلالِهم أن يُقالَ: إنَّ سَبَّ الصَّحابةِ نوعان:
أحَدُهما: سَبٌّ يَقدَحُ في دينِ الصَّحابةِ وعَدالتِهم، كأن يُكفِّرَ صحابِيًّا تواترت النُّصوصُ بفَضْلِه، فهذا من الكُفرِ؛ لِما يتضَمَّنُه من تكذيبٍ للآياتِ القُرآنيَّةِ، والأحاديثِ الصَّحيحةِ الدَّالَّةِ على تزكيَتِهم وفَضْلِهم، ولأنَّ هذا السَّبَّ إنكارٌ لِما هو معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، ومن ظَنَّ أنَّ مِثلَ هذا السَّبِّ لا يُعَدُّ كُفرًا فقد خالف الكِتابَ والسُّنَّةَ والإجماعَ.
والآخَرُ: أن يَسُبَّ صَحابيًّا -وإن كان ممَّن تواترت النُّصوصُ بفَضْلِه- سبًّا لا يقدَحُ في إسلامِه ودينِه، مِثلُ وَصْفِه بالبُخلِ، أو الجُبْنِ، أو قِلَّةِ مَعرِفةٍ بالسِّياسةِ ونحوِ ذلك، فهذا لا يُعتَبَرُ كُفرًا، ولكِنْ يَستحِقُّ فاعِلُه التأديبَ والتعزيرَ [2725] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (3/ 1065، 1110). .
وكذا لو سَبَّ صحابيًّا لم يتواتَرِ النَّقلُ بفَضْلِه سَبًّا يَطعَنُ في دينِه، فلا يَكفُرُ بهذا السَّبِّ، لعَدَمِ إنكارِه معلومًا من الدِّينِ بالضَّرورةِ [2726] يُنظر: ((الرد على الرافضة)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص: 18). .
وما وقَعَ بين بعضِ الصَّحابةِ مِن سَبٍّ ليس من النَّوعِ الأوَّلِ، فعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كان بين خالِدِ بنِ الوليدِ وبينِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ شيءٌ، فسَبَّه خالدٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تسُبُّوا أحدًا من أصحابي؛ فإنَّ أحَدَكم لو أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدرك مُدَّ أحَدِهم ولا نَصِيفَه )) [2727] أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2541) واللَّفظُ له. .
وجاءت رِوايةٌ تُبَيِّنُ حقيقةَ هذا السَّبِّ؛ فعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كان بين خالِدِ بن الوَليدِ وبينِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ كلامٌ، فقال خالِدٌ لعبدِ الرَّحمنِ: تَستَطيلون علينا بأيَّامٍ سَبَقْتُمونا بهـا! فبلَغَنا أنَّ ذلك ذُكِرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((دَعُوا لي أصحابي، فوالذي نَفْسِي بيَدِه ...)) الحديث [2728] أخرجه أحمد (13812)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (35/270)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (2046) صَحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصَّحيحة)) (4/556) وقال: على شرط البخاري، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13812)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/19)، والشوكاني في ((در السحابة)) (38): رجاله رجال الصَّحيح. .
وبهذا التفصيلِ والتفريقِ بين نوعَيِ السَّبِّ يمكِنُ اجتماعُ القولينِ، كما يحصُلُ التوفيقُ بين الأقوالِ المختَلِفةِ، فمثلًا الروايةُ السَّابقةُ عن أحمدَ: (ما أراه إلَّا على الإسلامِ) يمكِنُ أن نضُمَّها إلى الرِّوايةِ الأُخرى عن أحمدَ؛ حيث قال: (ما أراه على الإسلامِ) [2729] يُنظر: ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد)) للأحمدي (2/363). .
قال أبو يعلى في الجَمعِ بين تلك الرِّوايتينِ المتعارِضَتَينِ عن أحمدَ: (يحتَمِلُ أن يُحمَلَ قَولُه: «ما أراه على الإسلامِ» إذا استحَلَّ سَبَّهم بأنَّه يَكفُرُ بلا خلافٍ، ويُحمَلُ إسقاطُ القَتلِ على من لم يستحِلَّ ذلك، بل فَعَلَه مع اعتقادِه لتحريمِه، كمن يأتي المعاصيَ، قال: ويحتَمِلُ أن يُحمَلَ قَولُه: «ما أراه على الإسلامِ» على سَبٍّ يَطعَنُ في عدالتِهم، نحوُ قَولِه: ظَلَموا وفَسَقوا بعد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَخذوا الأمرَ بغيرِ حَقٍّ، ويُحمَلُ قَولُه في إسقاطِ القَتْلِ على سَبٍّ لا يَطعَنُ في دينِهم، نحوُ قَولِه: كان فيهم قِلَّةُ عِلمٍ، وقِلَّةُ مَعرِفةٍ بالسِّياسةِ والشَّجاعةِ) [2730] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (3/ 1066). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا من سَبَّهم سبًّا لا يَقدَحُ في عدالتِهم ولا في دينِهم، مِثلُ وَصفِ بَعضِهم بالبُخلِ، أو الجُبنِ، أو قِلَّةِ العِلمِ، أو عَدَمِ الزُّهدِ، ونحوِ ذلك، فهذا هو الذي يستحِقُّ التأديبَ والتعزيرَ، ولا يُحكَمُ بكُفْرِه بمجَرَّدِ ذلك، وعلى هذا يُحمَلُ كلامُ من لم يُكَفِّرْهم من أهلِ العِلمِ) [2731] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1110). .
ويمكِنُ التوفيقُ أيضًا بين الرِّواياتِ المُختَلِفةِ عن مالكٍ، فالرِّوايةُ السَّابقةُ عن مالكٍ: مَن شَتمَ الصَّحابةَ أُدِّبَ لا تُعارِضُ الرِّوايةَ الأُخرى: (من شَتمَ أحدًا من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أبا بكرٍ أو عُمَرَ، أو عُثمانَ أو معاويةَ أو عَمْرَو بنَ العاصِ، فإن قال: كانوا على ضَلالٍ وكُفرٍ، قُتِلَ، وإن شتَمَهم بغير هذا من مشاتمةِ النَّاسِ نُكِّل نَكالًا شَديدًا) [2732] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (2/ 308). .
فهذه الرِّوايةُ تُبَيِّنُ ما أُجمل في الرِّوايةِ الأُولى، فمن شَتَم الصَّحابةَ -ممَّن تواترت النُّصوصُ بفَضْلِهم- شتمًا يَقدَحُ في دينِهم، فهو كافِرٌ يجِبُ قَتْلُه، ومن شتَمَهم بغير هذا فليس بكافرٍ، ويتعيَّنُ تعزيرُه وتأديبُه.
وقد قال مالكٌ: (من سَبَّ أبا بكرٍ جُلِد، ومن سَبَّ عائِشةَ قُتِل)، قيل له: لمَ؟ قال: (مَن رماها فقد خالف القُرآنَ) [2733] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (2/ 309) .
فمُرادُه -واللهُ أعلَمُ- إذا سَبَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه سبًّا لا يقدَحُ في دينِه، وذلك لِما ورد عنه من القَولِ بالقَتلِ فيمن شَتَم من هو دونَ الصِّدِّيقِ.
يوضِّحُ ذلك ما قاله السُّبكي: (فيتلخَّصُ أنَّ سَبَّ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه -على مذهَبِ أبي حنيفةَ، وأحَدِ الوَجهَينِ عند الشَّافعيَّةِ- كُفرٌ، وأمَّا مالِكٌ فالمشهورُ أنَّه أوجب الجَلْدَ، فيَقتَضي أنَّه ليس بكُفرٍ، ولم أَرَ عندَه خِلافَ ذلك، إلَّا ما قدَّمْتُه في الخوارجِ، فتخَرَّج عنه أنَّه كُفرٌ، فتكونُ المسألةُ عنده على حالينِ: إنِ اقتَصَر على السَّبِّ من غير تكفيرٍ، لم يَكْفُرْ، وإن كفَّرَ كَفَرَ) [2734] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/590). .
وإذا تقرَّر نوعَا السَّبِّ والطَّعنِ في حَقِّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، فإنَّ من أنواعِ السَّبِّ ما لا يمكِنُ القَطعُ بإلحاقِه في أحَدِ النَّوعينِ السَّابِقينِ، بل يكونُ محَلَّ ترَدُّدٍ، وهذا النَّوعُ هو ما قال عنه ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا من لَعَن وقبَّح مُطلقًا، فهذا محَلُّ الخِلافِ فيهم؛ لتردُّدِ الأمرِ بين لَعنِ الغَيظِ، ولَعْنِ الاعتقادِ) [2735] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1110). .
4- من قَذَف إحدى أمَّهاتِ المُؤمِنين، فإن كانت عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها فهو كافِرٌ بالإجماعِ، ومن قَذَف غيرَها من أمَّهاتِ المؤمِنين فهو أيضًا كافِرٌ على أصَحِّ الأقوالِ.
فقَذْفُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها تكذيبٌ ومُعاندةٌ للقُرآنِ، فإنَّ أهلَ الإفكِ رَمَوا عائشةَ المطَهَّرةَ بالفاحِشةِ، فبَرَّأها اللهُ، فكُلُّ من سَبَّها بما بَرَّأَها اللهُ منه فهو مُكَذِّبٌ لله تعالى.
قال اللهُ تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النَّور: 17] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: يُذَكِّرُكم اللهُ وينهاكم بآيِ كِتابه؛ لئلَّا تعودوا لمِثلِ فِعْلِكم الذي فعَلْتُموه في أمرِ عائشةَ من تلَقِّيكم الإفكَ الذي رُوِيَ عليها بألسِنَتِكم، وقَولِكم بأفواهِكم ما ليس لكم به عِلمٌ فيها أبدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقولُ: إن كُنتُم تتَّعِظون بعِظاتِ اللهِ، وتأتَمِرون لأَمْرِه، وتَنْتَهون عمَّا نهاكم عنه) [2736] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/ 218). .
وتقَدَّم قَولُ مالكٍ: (من سَبَّ عائشةَ قُتِل، قيل له: لمَ؟ قال: من رماها فقد خالف القُرآنَ) [2737] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 309). .
قال ابنُ حزمٍ مُعَلِّقًا على كلامِ مالكٍ: (قولُ مالكٍ هاهنا صحيحٌ، وهي رِدَّةٌ تامَّةٌ، وتكذيبٌ لله تعالى في قَطْعِه ببراءتِها) [2738] يُنظر: ((المحلى)) (11/ 415). .
وذكر ابنُ بطَّةَ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها فقال: (مُبَرَّأةٌ طاهِرةٌ خَيِّرةٌ فاضِلةٌ، وصاحِبَتُه في الجَنَّةِ، وهي أمُّ المؤمنينَ في الدُّنيا والآخِرةِ، فمن شَكَّ في ذلك، أو طعن فيه، أو توقَّف عنه؛ فقد كذَّب بكِتابِ اللهِ، وشَكَّ فيما جاء به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزعم أنَّه من عند غيرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، قال اللهُ تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النَّور: 17] ، فمن أنكر هذا فقد بَرِئَ من الإيمانِ) [2739] يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) (ص: 296). .
كما أنَّ قَذْفَ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها يُعَدُّ تنقُّصًا عظيمًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإيذاءً شديدًا له.
قال السُّبكي: (وأمَّا الوقيعةُ في عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها -والعِياذُ باللهِ- فمُوجِبةٌ للقَتلِ لأمرَينِ:
أحَدُهما: أنَّ القُرآنَ الكريمَ يَشهَدُ ببراءتِها، فتكذيبُه كُفرٌ، والوقيعةُ فيها تكذيبٌ له.
الثَّاني: أنَّها فِراشُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والوقيعةُ فيها تنقيصٌ له، وتنقيصُه كُفرٌ) [2740] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/592). .
وقال مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (من قذَفَها أي: عائِشةَ بالفاحِشةِ مع اعتقادِه أنَّها زوجةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّها بَقِيَت في عِصْمَتِه بعد هذه الفاحِشةِ، فقد جاء بكَذِبٍ ظاهِرٍ، واكتَسَب الإثمَ، واستحَقَّ العذابَ، وظَنَّ بالمؤمنين سوءًا، وهو كاذِبٌ، وأتى بأمرٍ ظَنَّه هَيِّنًا وهو عند اللهِ عَظيمٌ، واتَّهَم أهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ بالسُّوءِ، ومن هذا الاتهامِ يلزَمُ نَقْصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [2741] يُنظر: ((الرد على الرافضة)) (ص: 24). .
وقد أجمع العُلَماءُ على أنَّ من قذفها بما بَرَّأها اللهُ تعالى منه فهو كافِرٌ
قال ابنُ تيميَّةَ: (ذَكَر غيرُ واحدٍ مِن العُلَماءِ اتِّفاقَ النَّاسِ على أنَّ من قذَفَها بما بَرَّأَها اللهُ تعالى منه فقد كَفَر؛ لأنَّه مُكَذِّبٌ للقُرآنِ) [2742] يُنظر: ((الرد على البكري)) (2/ 656). .
وقال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِه لقَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النَّور: 23] : (أجمع العُلَماءُ -رحمهم اللهُ- قاطِبةً على أنَّ مَن سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذُكِرَ في هذه الآيةِ؛ فإنَّه كافِرٌ؛ لأنَّه معانِدٌ للقُرآنِ) [2743] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 31)، وقد حكى ابن كثير هذا الإجماع أيضًا في ((البداية والنهاية)) (11/ 337) (14/ 376). .
وأما من قَذَف سائِرَ أمَّهاتِ المؤمِنينَ، فهل يَكفُرُ من قَذَفَهنَّ أم لا؟ على قولينِ:
أصَحُّهما: أنَّه يَكفُرُ.
والقَولُ الآخِرُ: أنَّه لا يَكفُرُ؛ لأنَّ القُرآنَ قد شَهِد ببراءةِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فمن خالف ذلك وأنكره، فهو مكَذِّبٌ للقُرآنِ، ومِن ثَمَّ فهو كافِرٌ باللهِ تعالى، ولم يَرِدْ مِثلُ هذا في بَقِيَّةِ أمَّهاتِ المؤمِنينَ.
قال ابنُ كثيرٍ رَدًّا على ذلك: (المقذوفةُ زَوجةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللهُ تعالى إنَّما غَضِبَ لها؛ لأنَّها زوجةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهي وغيرُها منهنَّ سواءٌ) [2744] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (14/ 376). .
كما أنَّ جميعَ أمَّهاتِ المؤمنين فِراشٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والوقيعةُ في أعراضِهنَّ تنَقُّصٌ ومَسَبَّةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومن المعلومِ أنَّ سَبَّ المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُفرٌ وخُروجٌ عن المِلَّةِ بالإجماعِ [2745] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/592)، ((طرح التثريب)) للعراقي (8/69). .
وممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ حزمٍ [2746] يُنظر: ((المحلى)) (11/ 415). ، والقاضي عِياضٌ [2747] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 311). ، وابنُ تيميَّةَ [2748] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1054). ، والسُّبكيُّ [2749] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/592). وغيرُهم.
قال ابنُ تيميَّةَ: (الأصَحُّ أنَّ من قذف واحِدةً من أمَّهاتِ المؤمنين فهو كقَذْفِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها؛... لأنَّ هذا فيه عارٌ وغَضاضةٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأذًى له أعظَمَ مِن أذاه بنكاحِهنَّ بَعْدَه) [2750] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1054). .
وقال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النَّور: 23] .
 قال البغوي: (إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ العَفائِفَ الغافِلاتِ عن الفواحِشِ، المؤمِناتِ، والغافِلةُ عن الفاحِشةِ: التي لا يَقَعُ في قَلْبِها فِعلُ الفاحشةِ، وكانت عائشةُ كذلك، قَولُه تعالى: لُعِنُوا عُذِّبوا فِي الدُّنْيَا بالحَدِّ، وَالْآخِرَةِ بالنَّارِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ قال مقاتِلٌ: هذا خاصٌّ في عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ المُنافِقِ.
ورُوِيَ عن خُصَيفٍ قال: قلتُ لسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ: من قذف مؤمِنةً يلعَنُه اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ، فقال: ذلك لعائِشةَ خاصَّةً. وقال قومٌ: هي لعائشةَ وأزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً دونَ سائِرِ المؤمناتِ.
رُوِيَ عن العَوَّامِ بنِ حَوشَبٍ، عن شيخٍ من بني كاهِلٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: هذه في شأنِ عائِشةَ وأزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً، ليس فيها توبةٌ. ومن قذف امرأةً مُؤمِنةً فقد جعل اللهُ له توبةً، ثم قرأَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قَولِه: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النَّور: 4- 5] فجعل لهؤلاء توبةً، ولم يجعَلْ لأولئك توبةً. وقال الآخَرون: نزلت هذه الآيةُ في أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان ذلك حتى نزلت الآيةُ التي في أوَّلِ السُّورةِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قَولِه: فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النَّور: 4-5] ، فأنزل اللهُ الجَلْدَ والتَّوبةَ) [2751] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 396). .
فهذه الآيةُ الكريمةُ في أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وخاصَّةً عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في قولِ كثيرٍ مِن أهلِ العِلمِ، كما جاء عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ هذه الآيةَ إنَّما نزلت فيمن يَقذِفُ عائشةَ وأمَّهاتِ المؤمِنين. وكذا رُوِيَ عن أبي الجوزاءِ، والضَّحَّاكِ، والكَلْبيِّ وغَيرِهم [2752] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/ 226)، ((تفسير ابن كثير)) (6/ 31). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (لَمَّا كان رَمْيُ أمَّهاتِ المؤمنينَ أذًى للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لُعِن صاحِبُه في الدُّنيا والآخِرةِ؛ ولهذا قال ابنُ عبَّاسٍ: ليس فيها توبةٌ؛ لأنَّ مُؤذِيَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا تُقبَلُ توبتُه، أو يريدُ: إذا تاب من القَذْفِ، حتى يُسلِمَ إسلامًا جديدًا، وعلى هذا فرَمْيُهنَّ نِفاقٌ مُبِيحٌ للدَّمِ إذا قُصِدَ به أذى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أذاهُنَّ بعد العِلمِ بأنَّهنَّ أزواجُه في الآخِرةِ) [2753] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/ 99). .
وقال أبو السُّعودِ: (والمرادُ بها عائشةُ الصِّدِّيقةُ رَضِيَ اللهُ عنها، والجَمعُ باعتبارِ أنَّ رَمْيَها رَميٌ لسائِرِ أمَّهاتِ المؤمنين؛ لاشتراكِ الكُلِّ في العِصمةِ والنزاهةِ والانتِسابِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما في قَولِه تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] ، ونظائِرِه، وقيل: أمَّهاتُ المؤمِنين، فيدخُلُ فيهنَّ الصِّدِّيقةُ دُخولًا أوَّلِيًّا. وأمَّا ما قيل من أنَّ المرادَ هي الصِّدِّيقةُ، والجَمعُ باعتبارِ استتباعِها للمُتَّصِفاتِ بالصِّفاتِ المذكورةِ من نساءِ الأُمَّةِ، فيأباه أنَّ العُقوباتِ المترَتِّبةَ على رَمْيِ هؤلاءِ عُقوباتٌ مختَصَّةٌ بالكُفَّارِ والمُنافِقين، ولا رَيْبَ في أنَّ رَمْيَ غيرِ أمَّهاتِ المؤمنين ليس بكُفرٍ، فيَجِبُ أن يكونَ المرادُ إيَّاهنَّ على أحَدِ الوجهَينِ؛ فإنَّهنَّ قد خُصِصْنَ من بينِ سائِرِ المؤمِناتِ، فجُعِل رَمْيُهنَّ كُفرًا؛ إبرازًا لكرامَتِهنَّ على اللهِ عزَّ وجَلَّ، وحمايةً في صاحِبِ الرِّسالةِ من أن يحومَ حَولَه أحدٌ بسُوءٍ) [2754] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/ 165). .
وهناك جُملةٌ من الأسبابِ التي تجعَلُ سَبَّ الصَّحابةِ ناقضًا من نواقِض الإيمانِ؛ منها:
1- أنَّ في سَبِّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم تكذيبًا للقُرآنِ الكريمِ، وإنكارًا لِما تضمَّنَتْه الآياتُ القُرآنيَّةُ من تزكيَتِهم والثَّناءِ الحَسَنِ عليهم.
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ اللهَ سُبحانَه رضي عنهم رِضًا مُطْلقًا بقَولِه تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] فرَضِيَ عن السَّابقينَ من غيرِ اشتِراطِ إحسانٍ، ولم يَرْضَ عن التابعينَ إلَّا أن يتَّبِعوهم بإحسانٍ، وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ... فلا يرضى إلَّا عن عبدٍ عَلِمَ أنَّه يوافيه على مُوجِباتِ الرِّضا، ومَن رَضِيَ اللهُ عنه لم يَسخَطْ عليه أبدًا،... فكُلُّ من أخبر اللهُ عنه أنَّه رَضِيَ عنه فإنَّه من أهلِ الجَنَّةِ، وإن كان رِضاه عنه بعد إيمانِه وعَمَلِه الصَّالحِ، فإنَّه يَذكُرُ ذلك في مَعرِضِ الثَّناءِ عليه والمدْحِ له، فلو عَلِمَ أنَّه يتعَقَّبُ ذلك بما يُسخِطُ الرَّبَّ لم يكُنْ من أهلِ ذلك) [2755] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1067-1069). .
وقال ابن حجر الهيتمي: (منها قَولُه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، فصَرَّح تعالى برِضاه عن أولئك، وهم ألفٌ ونحوُ أربَعِمائةٍ، ومن رَضِيَ اللهُ عنه تعالى لا يمكِنُ مَوتُه على الكُفرِ؛ لأنَّ العِبرةَ بالوفاةِ على الإسلامِ، فلا يقَعُ الرِّضا منه تعالى إلَّا على من عَلِمَ مَوتُه على الإسلامِ، وأمَّا من عَلِمَ مَوتَه على الكُفرِ، فلا يمكِنُ أن يخبِرَ اللهُ تعالى بأنَّه رَضِيَ عنه؛ فعُلِم أنَّ كُلًّا من هذه الآيِة وما قَبْلَها صريحٌ في رَدِّ ما زعمه وافتراه أولئك المُلحِدون الجاحِدون حتى للقُرآنِ العزيزِ؛ إذ يلزَمُ من الإيمانِ به الإيمانُ بما فيه، وقد عَلِمْتَ أنَّ الذي فيه أنَّهم خيرُ الأُمَمِ، وأنَّهم عدولٌ خِيارٌ، وأنَّ اللهَ لا يُخْزيهم، وأنَّه راضٍ عنهم، فمن لم يُصَدِّقْ بذلك فيهم فهو مُكَذِّبٌ لِما في القُرآنِ، ومن كذَّب بما فيه ممَّا لا يحتَمِلُ التأويلَ، كان كافِرًا جاحِدًا مُلحِدًا مارِقًا) [2756] يُنظر: ((الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة)) (2/ 605). .
وقد استنبط بعضُ الأئِمَّةِ من نُصوصٍ قُرآنيَّةٍ كُفْرَ من سَبَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعين.
قال مالِكٌ: (من تنَقَّص أحدًا من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو كان في قَلْبِه عليهم غِلٌّ، فليس له حَقٌّ في فيءِ المُسلِمين، ثمَّ تلا قَولَه تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ حتى أتى قَولُه: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية [الحشر: 7- 10] ، فمن تنَقَّصَهم أو كان في قَلْبِه عليهم غِلٌّ؛ فليس له في الفَيءِ حَقٌّ) [2757] يُنظر: ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) لأبي نعيم (6/ 327). .
(قال أبو عُروةَ -رجلٌ من وَلَدِ الزُّبَيرِ-: كنَّا عند مالكٍ، فذكروا رجلًا ينتَقِصُ أصحابَ رَسولِ اللهِ عليه وسلـم، فقرأ مالِكٌ هذه الآيةَ: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء حتى بلغ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح: 29] فقال مالِكٌ: من أصبح في قَلْبِه غيظٌ على أحَدٍ من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقد أصابته الآيةُ) [2758] يُنظر: ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) لأبي نعيم (6/ 327). .
قال القُرطبيُّ مُعَلِّقًا على قَولِ مالكٍ: (لقد أحسن مالِكٌ في مقالتِه، وأصاب في تأويلِه؛ فمن تنقَّص واحدًا منهم أو طعن عليه في روايتِه، فقد رَدَّ على اللهِ رَبِّ العالَمين، وأبطل شرائِعَ المُسلِمين) [2759] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/ 297). .
وقال أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ: (لا حَظَّ للرَّافِضيِّ في الفَيءِ والغنيمةِ؛ لِقَولِ اللهِ حين ذَكَر آيةَ الفَيءِ في سورةِ الحَشرِ، فقال: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ.. الآية) [2760] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/498). .
وقال الألوسيُّ عن هذه الآيةِ: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ…: (قال العُلَماء: هذه الآيةُ ناصَّةٌ على أنَّ الرَّافِضةَ كَفَرةٌ؛ لأنَّهم يَكرَهونَهم، بل يُكَفِّرونَهم والعياذُ باللهِ تعالى) [2761] يُنظر: ((السيوف المشرقة ومختصر الصواعق المحرقة)) (ص: 609). .
والآياتُ في فَضلِ الصَّحابةِ والثَّناءِ عليهم والشَّهادةِ لهم بالإيمانِ كثيرةٌ جِدًّا، منها قولُ الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] .
 قال السَّعديُّ: (يخبِرُ تعالى عن رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه من المهاجِرينَ والأنصارِ، أنَّهم بأكمَلِ الصِّفاتِ، وأجَلِّ الأحوالِ، وأنَّهم أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ أي: جادُّون ومجتَهِدون في عداوتِهم، وساعون في ذلك بغايةِ جُهْدِهم، فلم يَرَوا منهم إلَّا الغِلظةَ والشِّدَّةَ؛ فلذلك ذَلَّ أعداؤهم لهم، وانكَسروا، وقَهَرهم المُسلِمون، رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ أي: متحابُّون متراحِمون متعاطِفون، كالجَسَدِ الواحِدِ، يحِبُّ أحَدُهم لأخيه ما يحِبُّ لنَفْسِه، هذه معامَلَتُهم مع الخَلْقِ، وأمَّا معاملتُهم مع الخالِقِ، فإنَّك تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا أي: وصْفُهم كَثرةُ الصَّلاةِ التي أجَلُّ أركانِها الركوعُ والسُّجودُ.
يَبْتَغُونَ بتلك العبادةِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا أي: هذا مقصودُهم بلوغُ رِضا رَبِّهم، والوُصولُ إلى ثوابِه.
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي: قد أثَّرَت العبادةُ -من كَثرتِها وحُسْنِها- في وجوهِهم، حتى استنارت، لَمَّا استنارت بالصَّلاةِ بواطِنُهم استنارت بالجَلالِ ظواهِرُهم.
ذَلِكَ المذكورُ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ أي: هذا وَصْفُهم الذي وصَفَهم اللهُ به، مذكورٌ بالتوراةِ هكذا. وأمَّا مَثَلُهم في الإنجيلِ فإنَّهم موصوفون بوصفٍ آخَرَ، وأنَّهم في كمالِهم وتعاوُنِهم كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ أي: أخرج فِراخَه فوازَرَتْه فراخُه في الشَّبابِ والاستواءِ.
فَاسْتَغْلَظَ ذلك الزَّرعُ، أي: قَوِيَ وغَلُظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ جمعُ ساقٍ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ من كمالِه واستوائِه، وحُسْنِه واعتدالِه، كذلك الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم، هم كالزَّرعِ في نَفْعِهم للخَلْقِ واحتياجِ النَّاسِ إليهم، فقُوَّةُ إيمانهم وأعمالهم بمنزلةِ قُوَّةِ عروقِ الزَّرعِ وسُوقِه، وكونُ الصَّغيرِ والمتأخِّرِ إسلامُه قد لحِقَ الكبيرَ السَّابِقَ ووازَرَه وعاوَنَه على ما هو عليه من إقامةِ دينِ اللهِ والدَّعوةِ إليه- كالزَّرعِ الذي أخرج شَطْأَه، فآزره فاستغلَظَ؛ ولهذا قال: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ حين يرون اجتماعَهم وشِدَّتَهم على دينِهم، وحين يتصادَمون هم وهم في معارِكِ النِّزالِ، ومعامِعِ القِتالِ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، فالصَّحابةُ -رَضِيَ اللهُ عنهم- الذين جمعوا بين الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ قد جمع اللهُ لهم بين المغفِرةِ التي من لوازِمِها وقايةُ شُرورِ الدُّنيا والآخِرةِ، والأجرُ العظيمُ في الدُّنيا والآخِرةِ) [2762] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 795). .
فكَثَّرهم اللهُ تعالى وقَوَّاهم؛ لِيَكونوا غيظًا للكافرين، فمن غاظه حالُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم لإيمانِهم، فهو كافِرٌ، كمن سَبَّهم طعنًا في دينِهم وعدالتِهم، وأمَّا إن وقع الغيظُ من غيرِ هذه الجِهةِ، فليس بكُفرٍ؛ فقد جرت حروبٌ بين الصَّحابةِ، ووقع من بَعْضِهم غَيظٌ وبُغضٌ لبَعضٍ، ومع ذلك لم يحكُمْ بَعْضُهم على بعضٍ بكُفرٍ أو نِفاقٍ.
قال العيني عند شَرحِه لحديثِ: ((آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصارِ، وآيةُ النِّفاقِ بُغضُ الأنصارِ )) [2763] أخرجه البخاري (17) واللَّفظُ له، ومسلم (74). من حَديثِ أنس رضي الله عنه. : (المقصودُ من الحديثِ الحَثُّ على حُبِّ الأنصارِ، وبيانُ فَضْلِهم؛ لِما كان منهم من إعزازِ الدِّين وبَذْلِ الأموالِ والأنفُسِ، والإيثارِ على أنفُسِهم، والإيواءِ والنَّصرِ وغيرِ ذلك،… فحُبُّهم لذلك المعنى مَحْضُ الإيمانِ، وبُغْضُهم محضُ النِّفاقِ... وقال القرطبيُّ: وأمَّا من أبغَضَ -والعياذُ باللهِ- أحدًا منهم من غيرِ تلك الجِهةِ لأمرٍ طارئٍ من حَدَثٍ وقع لمخالفةِ غَرَضٍ، أو لضَرَرٍ ونَحوِه، لم يَصِرْ بذلك مُنافِقًا ولا كافرًا؛ فقد وقع بينهم حروبٌ ومخالفاتٌ، ومع ذلك لم يَحكُمْ بَعضُهم على بعضٍ بالنِّفاقِ، وإنَّما كان حالُهم في ذلك حالَ المجتهدِينَ في الأحكامِ) [2764] يُنظر: ((عمدة القاري)) (1/ 152). .
وقال مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (فمن سَبَّهم فقد خالف ما أمَرَ اللهُ من إكرامِهم، ومن اعتقد السُّوءَ فيهم كُلِّهم أو جُمهورِهم، فقد كَذَّبَ اللهَ تعالى فيما أخبر من كمالِهم وفَضائِلِهم، ومُكَذِّبُه كافِرٌ) [2765] يُنظر: ((الرد على الرافضة)) (ص17). .
وإذا تقَرَّر أنَّ سَبَّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم تكذيبٌ للقُرآنِ الكريمِ؛ فإنَّ القَولَ بكُفرِ جمهورِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أو فِسْقِهم، يَؤُولُ إلى الشَّكِّ في القُرآنِ الكريمِ، والطَّعنِ في ثبوتِه وحِفْظِه؛ لأنَّ الطَّعنَ في النَّقَلةِ طَعنٌ في المنقولِ؛ ولذا فإنَّ الرَّافِضةَ لَمَّا كفَّروا جمهورَ الصَّحابةِ، أَتْبَعوا ذلك بدعوى تحريفِ القُرآنِ الكريمِ وتبديلِه.
2- أنَّ مَن سَبَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم، ورماهم بالكُفرِ أو الفِسقِ، فقد تنقَّص الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآذاه؛ لأنَّهم أصحابُه الذين رَبَّاهم وزكَّاهم وعَلَّمهم الكِتابَ والحِكْمةَ، ومن المعلومِ أنَّ تنَقُّصَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُفرٌ وخُروجٌ عن المِلَّةِ [2766] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/575)، ((الرد على الرافضة)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص: 8). .
عن أبي زُرعةَ قال: (إذا رأيتَ الرَّجُلَ ينتَقِصُ أحدًا من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاعلَمْ أنَّه زِنْديقٌ، وذلك أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندنا حَقٌّ، والقُرآنَ حَقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القُرآنَ والسُّنَنَ أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما يريدون أن يَجرُحوا شُهودَنا لِيُبطِلوا الكِتابَ والسُّنَّةَ، والجَرحُ بهم أَولى، وهم زنادِقةٌ) [2767] يُنظر: ((الكفاية في علم الرواية)) للخطيب البغدادي (ص: 49). .
ومن أشنَعِ أنواعِ السَّبِّ: أن يَقذِفَ إحدى أمَّهاتِ المؤمنين؛ لِما في الوقيعةِ في أعراضِهنَّ من التنَقُّصِ والمسَبَّةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ولَمَّا ذَكَر رجُلٌ بحَضرةِ الحَسَنِ بنِ زيدِ بنِ الحَسَنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبى طالِبٍ أمَّ المؤمنين عائِشةَ بذِكرٍ قبيحٍ من الفاحِشةِ، أمَرَ بضَرْبِ عُنُقِه، فقال له العَلَويُّون: هذا رجُلٌ مِن شِيعتِنا! فقال: معاذَ اللهِ! هذا رجُلٌ طَعَن على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النَّور: 26] ، فإن كانت عائشةُ خبيثةً فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خبيثٌ، فهو كافِرٌ؛ فاضرِبوا عُنُقَه، فضَرَبوا عُنُقَه [2768] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (7/ 1345). .
وعن مُحمَّد بنِ زَيدِ بنِ عَلِيِّ بنِ الحُسَين بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ أنَّه قَدِمَ عليه من العراقِ رجلٌ ينوحُ بين يديه، فذكَرَ عائشةَ بسُوءٍ، فقام إليه بعَمودٍ، وضَرَب به دماغَه فقَتَله، فقيل له: هذا من شيعَتِنا وممَّن يتوَلَّانا، فقال: هذا سَمَّى جَدِّي قَرْنَانَ [2769] أي: (الذي يشارِكُ في امرأتِه، كأن يَقرِنَ به غيرَه، وهو نعتُ سوءٍ في الرَّجُلِ الذي لا غَيرةَ له). يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (5/3612). ، استحَقَّ عليه القَتلُ، فقَتَلْتُه [2770] يُنظر: ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (7/ 1346). .
كما أنَّ هذا السَّبَّ يستلزِمُ اتِّهامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه لم ينجَحْ في تعليمِه ودَعوتِه، ولم يحَقِّقِ البلاغَ المُبِينَ، وقد زعم من لا خَلاقَ له من الدِّينِ والعِلمِ أنَّ جُمهورَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم قد ارتَدُّوا بعد وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يَثبُتْ على الإيمانِ إلَّا القليلُ! وقد يَؤولُ هذا الأمرُ إلى اليأسِ مِن إصلاحِ البشَرِ وإخراجِهم من الظُّلُماتِ إلى النَّورِ، ومن المعلومِ قَطْعًا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بلَّغ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأُمَّةَ، وجاهد في اللهِ حَقَّ جِهادِه.
3- أنَّ سَبَّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، والطَّعنَ في دينِهم، هو طَعنٌ في الدِّينِ، وإبطالٌ للشَّريعةِ، وهَدمٌ لأصلِه؛ لعَدَمِ توافُرِ النَّقلِ المأمونِ له.
قال ابنُ عَقيلٍ الحنبليُّ: (الظَّاهِرُ أنَّ من وضع مذهَبَ الرَّافِضةِ قَصَد الطَّعنَ في أصلِ الدِّينِ والنُّبُوَّةِ؛ وذلك أنَّ الذي جاء به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرٌ غائِبٌ عنا، وإنَّما نثِقُ في ذلك بنَقلِ السَّلَفِ، وجَودةِ نظَرِ النَّاظرينَ إلى ذلك منهم،... فإذا قال قائِلٌ: إنَّهم أوَّلُ ما بَدَؤوا بعد موتِه بظُلمِ أهلِ بَيتِه في الخِلافةِ، وابنتِه في إرْثِها، وما هذا إلَّا لسُوءِ اعتقادٍ في المتوفَّى؛ فإنَّ الاعتقاداتِ الصَّحيحةَ سِيَّما في الأنبياءِ توجِبُ حِفظَ قوانينِهم بَعْدَهم لا سِيَّما في أهلِيهم وذُرِّيَّتِهم، فإذا قالت الرَّافِضةُ: إنَّ القومَ استحَلُّوا هذا بَعْدَه، خابت آمالُنا في الشَّرعِ؛ لأنَّه ليس بيننا وبينه إلَّا النَّقلُ عنهم والثِّقةُ بهم، فإذا كان هذا محصولَ ما حصل لهم بعد موتهِ خِبْنَا في المنقولِ، وزالت ثِقَتُنا فيما عوَّلْنا عليه من اتِّباعِ ذَوِي العُقولِ، ولم نأمَنْ أن يكونَ القَومُ لم يَرَوا ما يوجِبُ اتِّباعَه، فراعَوه مُدَّةَ الحياةِ، وانقَلَبوا عن شريعتِه بعد الوفاةِ، ولم يَبْقَ على دينِه إلَّا الأقلُّ من أهلِه! فطاحت الاعتقاداتُ، وضَعُفَت النُّفوسُ عن قَبولِ الرِّواياتِ في الأصلِ،... فهذا من أعظَمِ المحَنِ على الشَّريعةِ) [2771] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 88). .
وذكر مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ أنَّ القَولَ بارتدادِ الصَّحابةِ عدا خَمسةَ أو سِتَّةَ نَفَرٍ: (هدمٌ لأساسِ الدِّينِ؛ لأنَّ أساسَه القُرآنُ والحديثُ، فإذا فُرِضَ ارتدادُ من أخذ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا النَّفَرَ الذين لا يبلُغُ خَبَرُهم التواتُرَ، وقع الشَّكُّ في القُرآنِ والأحاديثِ، ... فهؤلاء أشَدُّ ضَرَرًا على الدِّينِ من اليَهودِ والنَّصارى، وفي هذه الهَفوةِ الفَسـادُ من وُجوهٍ؛ فإنَّها توجِبُ إبطالَ الدِّينِ والشَّـَّك فيـه، وتُجَوِّزُ كِتمانَ ما عُورِضَ به القُرآنُ، وتجَوِّزُ تغييرَ القُرآنِ) [2772] يُنظر: ((الرد على الرافضة)) (ص: 13). .
4- أنَّ سَبَّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم يستلزِمُ تضليلَ الأُمَّةِ المُحمَّديَّةِ، ويتضَمَّنُ أنَّ هذه الأُمَّةَ شَرُّ الأُمَمِ، وأنَّ سابقي هذه الأُمَّةِ شِرارُها، وكُفرُ هذا ممَّا يُعلَمُ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ [2773] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (3/ 1111)، ((الإعلام بقواطع الإسلام)) للهيتمي (ص: 164). .
قال ابنُ باز: (من سَبَّ الصَّحابةَ كَفَر، ومن أبغَضَهم كَفَر؛ لأنَّهم نقَلةُ الدِّينِ، لكِنْ من سَبَّ الواحِدَ منهم والاثنينِ فهذا يَفسُقُ، مِثلُ سَبِّ مُعاويةَ وعائِشةَ هذا فِسقٌ، أمَّا سَبُّ الصَّحابةِ على العُمومِ فهو كُفرٌ ورِدَّةٌ عن الإسلامِ؛ لأنَّه إذا سَبَّهم فمعناه أنَّهم ليسوا بعُدولٍ، وأنَّ ما نقلوه من الإسلامِ لا صِحَّةَ له) [2774] يُنظر: ((سبل السلام شرح نواقض الإسلام)) (ص: 156). .
وقال ابنُ عثيمين: (سَبُّ الصَّحابةِ على ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: أن يَسُبَّهم بما يقتضي كُفرَ أكثَرِهم أو أنَّ عامَّتَهم فَسَقوا، فهذا كُفرٌ؛ لأنَّه تكذيبٌ للهِ ورَسولِه بالثَّناءِ عليهم والترَضِّي عنهم، بل من شَكَّ في كُفرِ مِثلِ هذا فإنَّ كُفْرَه متعَيِّنٌ؛ لأنَّ مَضمونَ هذه المقالةِ أنَّ نَقَلةَ الكِتابِ أو السُّنَّةِ كُفَّارٌ أو فُسَّاقٌ.
الثَّاني: أن يَسُبَّهم باللَّعنِ والتقبيحِ، ففي كُفْرِه قولان لأهلِ العِلمِ، وعلى القَولِ بأنَّه لا يَكفُرُ يجِبُ أن يُجلَدَ ويُحبَسَ حتى يموتَ أو يرجِعَ عمَّا قال.
الثَّالثُ: أن يَسُبَّهم بما لا يقدَحُ في دينِهم، كالجُبنِ والبُخلِ فلا يَكفُرُ، ولكِنْ يُعَزَّرُ بما يَردَعُه عن ذلك) [2775] يُنظر: ((شرح لمعة الاعتقاد)) (ص: 152). .

انظر أيضا: