الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الثَّاني: الشِّركُ الأكبَرُ بعَمَلِ القَلْبِ

قال السَّعدي: (إنَّ حدَّ الشِّرك الأكبَرِ وتفسيرَه الذي يجمَعُ أنواعَه وأفرادَه: أن يصرِفَ العبدُ نوعًا أو فردًا من أفرادِ العبادةِ لغَيرِ اللهِ، فكلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ ثبت أنَّه مأمورٌ به من الشَّارع، فصَرْفُه لله وَحْدَه توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصرفُه لغيره شركٌ وكفرٌ؛ فعليك بهذا الضَّابطِ للشِّركِ الأكبرِ الَّذي لا يَشِذُّ عنه شيءٌ) [1810] يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 54). .
وهذه صُوَرٌ لِما يَلحَقُ أعمالَ القَلْبِ مِن الشِّركِ الأكبرِ:
1- شِرْكُ النيَّةِ والإرادةِ والقَصْدِ:
قال الغَزالي: (الإخلاصُ يُضادُّه الإشراكُ، فمن ليس مخلِصًا فهو مُشرِكٌ، إلَّا أنَّ الشِّركَ دَرَجاتٌ، فالإخلاصُ في التَّوحيدِ يُضادُّه التشريكُ في الإلهيَّةِ، والشِّركُ منه خَفِيٌّ ومنه جَلِيٌّ، وكذا الإخلاصُ، والإخلاصُ وضِدُّه يتواردان على القَلبِ، فمَحَلُه القَلْبُ، وإنما يكونُ ذلك في القُصودِ والنِّيَّاتِ. وقد ذكر حقيقةَ النيَّةِ وأنَّها ترجِعُ إلى إجابةِ البواعِثِ، فمهما كان الباعِثُ واحِدًا على التجَرُّدِ سُمِّيَ الفِعلُ الصَّادِرُ عنه إخلاصًا بالإضافةِ إلى المنويِّ، فمن تصَدَّق وغَرَضُه محْضُ الرِّياءِ فهو غيرُ مُخلِصٍ، ومن كان غَرَضُه محضَ التقَرُّبِ إلى الله تعالى فهو مخلِصٌ، ولكِنَّ العادةَ جاريةٌ بتخصيصِ اسمِ الإخلاصِ بتجريدِ قَصْدِ التقَرُّبِ إلى اللهِ تعالى عن جميعِ الشَّوائِبِ، كما أنَّ الإلحادَ عِبارةٌ عن الميلِ، ولكِنْ خَصَّصَتْه العادةُ بالميلِ عن الحَقِّ، ومن كان باعِثُه مجَرَّدَ الرِّياءِ فهو مُعرَّضٌ للهلاكِ) [1811] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) (4/ 379). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا الشِّركُ في الإراداتِ والنيَّاتِ، فذلك البَحرُ الذي لا ساحِلَ له، وقَلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعَمَلِه غيرَ وَجهِ اللهِ ونوى شيئًا غيرَ التقَرُّبِ إليه، وطلب الجزاءَ منه؛ فقد أشرك في نيَّتِه وإرادتِه، والإخلاصُ: أن يخلِصَ للهِ في أفعالِه وأقوالِه وإرادتِه ونِيَّتِه، وهذه هي الحنيفيَّةُ مِلَّةُ إبراهيمَ التي أمَرَ اللهُ تعالى بها عبادَه كُلَّهم، ولا يَقبَلُ مِن أحَدٍ غَيْرَها، وهي حقيقةُ الإسلامِ، كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] ) [1812] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 135). .
وقال ابنُ رجبٍ: (اعلَمْ أنَّ العَمَلَ لغَيرِ اللهِ أقسامٌ؛ فتارةً يكونُ رياءً مَحْضًا بحيثُ لا يرادُ سِوى مراءاةِ المخلوقينَ لغَرَضٍ دُنيويٍّ، كحالِ المنافِقين في صلاتِهم، كما قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] ... وهذا العَمَلُ لا يَشُكُّ مُسلِمٌ أنَّه حابِطٌ، وأنَّ صاحِبَه يَستحِقُّ المقْتَ مِنَ اللهِ والعقوبةَ، وتارةً يكونُ العمَلُ لله ويشاركُه الرِّياءُ، فإن شاركه من أصلِه فالنُّصوصُ الصَّحيحةُ تدُلُّ على بُطلانِه وحُبوطِه أيضًا، وفي صحيحِ مُسلمٍ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّرْكِ، من عَمِلَ عملًا أشرك معي فيه غيري، تركْتُه وشِرْكَه)) [1813] أخرجه مسلم (2985) باختلاف يسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ... وأمَّا إن كان أصلُ العَمَلِ لله ثمَّ طَرَأت عليه نيَّةُ الرِّياءِ، فإن كان خاطرًا ودفَعَه فلا يضُرُّه بلا خلافٍ، وإن استرسل معه فهل يحبَطُ به عَمَلُه أم لا يضُرُّه ذلك ويجازى على أصلِ نيَّتِه؟ في ذلك اختلافٌ بين العُلَماءِ من السَّلَف، قد حكاه الإمامُ أحمدُ، وابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، ورجَّحَا أنَّ عَمَلَه لا يَبطُلُ بذلك، وأنَّه يجازى بنِيَّتِه الأولى [1814] الخِلافُ -واللهُ أعلَمُ- في قَبولِ العَمَلِ أو بُطلانِه، وليس في النُّقصانِ والخللِ الحاصِلِ بسببِ الاسترسالِ في الرِّياءِ. ، وهو مرويٌّ عن الحَسَنِ البصريِّ وغَيرِه،… فأمَّا إذا عَمِلَ العَمَلَ لله خالصًا ثمَّ ألقى اللهُ له الثَّناءَ الحَسَنَ في قُلوبِ المؤمِنين بذلك ففَرِحَ بفَضْلِ اللهِ ورَحمتِه، واستبشر بذلك؛ لم يَضُرَّه ذلك، وفي هذا المعنى جاء حديثُ أبي ذرٍّ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُلِ يعملُ العَمَلَ للهِ من الخيرِ ويحمَدُه النَّاسُ عليه، فقال: ((تلك عاجِلُ بُشرى المؤمِنِ)) [1815] أخرجه مسلم (2642). [1816] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/79 - 84) .
وقال حافظ حكمي: (اعلَمْ أنَّ الرِّياءَ قد أُطلِقَ في كتابِ اللهِ كثيرًا، ويرادُ به النِّفاقُ الذي هو أعظَمُ الكُفْرِ، وصاحِبُه في الدَّرْكِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ، كما قال تعالى: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 264] وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا [النساء: 38] ... والفَرْقُ بين هذا الرِّياءِ الذي هو النِّفاقُ الأكبَرُ وبين الرِّياءِ الذي سمَّاه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شركًا أصغَرَ خَفِيًّا هو حديثُ: ((الأعمالُ بالنيَّاتِ...)) [1817] أخرجه البخاري (1) واللَّفظُ له، ومسلم (1907). ... فإن كان الباعِثُ على العَمَلِ هو إرادةَ اللهِ والدَّارِ الآخرةِ وسَلِمَ من الرِّياءِ في فِعْلِه، وكان موافِقًا للشَّرعِ، فذلك العَمَلُ الصَّالحُ المقبولُ، وإن كان الباعِثُ على العَمَلِ هو إرادةَ غيرِ الله عَزَّ وجَلَّ، فذلك النفاقُ الأكبرُ، سواءٌ في ذلك من يريدُ به جاهًا ورئاسةً وطَلَبَ دُنيا، ومَن يريدُ حَقْنَ دَمِه وعِصمةَ مالِه وغيرَ ذلك، فهذان ضِدَّانِ ينافي أحَدُهما الآخَرَ لا محالةَ، … وإن كان الباعِثُ على العمَلِ هو إرادةَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ والدَّارِ الآخرةِ، ولكِنْ دَخَل عليه الرِّياءُ في تزيينِه وتحسينِه، فذلك هو الذي سمَّاه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الشِّركَ الأصغَرَ [1818] لفظ الحديث: عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة: إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) أخرجه أحمد (23630) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6831). صَحَّحه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/29)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (1555)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23630)، وحَسَّن إسنادَه ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (440)، وجَوَّده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/52). ،... وهذا لا يُخرِجُ من الملَّةِ، ولكِنَّه يَنْقُصُ مِنَ العَمَلِ بقَدْرِه، وقد يَغلِبُ على العَمَلِ فيُحبِطُه كُلَّه. والعِياذُ باللهِ) [1819] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/ 492 - 494). .
وقال ابنُ عثيمين: (الشِّركُ يُفسِدُ القَلْبَ والقَصْدَ، وإذا فَسَد القَصْدُ فَسَد العَمَلُ؛ إذ العمَلُ مبناه على القَصْدِ، قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16]) [1820] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/438). .
2- شِرْكُ المَحبَّةِ:
قال ابنُ القَيِّمِ في تعريفِ هذا الشِّرْكِ: (الشِّركُ باللهِ في المحبَّةِ والتعظيمِ أن يحِبَّ مخلوقًا كما يحِبُّ اللهَ، فهذا من الشِّركِ الذي لا يغفِرُه اللهُ، وهو الشِّركُ الذي قال سُبحانَه فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] ، وقال أصحابُ هذا الشِّرك لآلهتِهم، وقد جمعَتْهم الجحيمُ: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97-98] ، ومعلومٌ أنَّهم ما سَوَّوهم به سُبحانَه في الخَلْقِ والرِّزقِ، والإماتةِ والإحياءِ، والمِلْكِ والقُدْرةِ، وإنَّما سَوَّوهم به في الحُبِّ والتألُّهِ والخُضوعِ لهم والتذَلُّلِ) [1821] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 132). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/348)، ((إغاثة اللهفان)) (2/850). .
فلمَّا كانت المحبَّةُ أصلَ كُلِّ عَمَلٍ مِن أعمالِ القَلْبِ والجوارِحِ، كان الإشراكُ في المحبَّةِ أصلَ كُلِّ إشراكٍ عَمَليٍّ [1822] يُنظر: ((قاعدة في المحبة)) لابن تيمية (ص: 69). ، فأصلُ الشِّرك في المُشْرِكين هو اتخاذُهم أندادًا يحبُّونَهم كحُبِّ اللهِ [1823] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/754). .
قال اللهُ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة: 165] .
قال ابنُ كثير: (يذكُرُ تعالى حالَ المُشْرِكين به في الدُّنيا، وما لهم في الدَّارِ الآخِرةِ؛ حيث جعلوا له أندادًا، أي: أمثالًا ونُظَراءَ يَعبُدونَهم معه، ويحبُّونَهم كحُبِّه، وهو اللهُ لا إلهَ إلَّا هو، ولا ضِدَّ له، ولا نِدَّ له، ولا شريكَ معه، وفي الصَّحيحينِ عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ قال: قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ؟ قال: ((أن تجعَلَ لله ندًّا وهو خَلَقَك)) [1824] أخرجه مطولاً البخاري (6001) واللفظ له، ومسلم (86). ، وقَولُه: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ولحُبِّهم لله وتمامِ مَعرفتِهم به، وتوقيرِهم وتوحيدِهم له؛ لا يُشرِكُون به شيئًا، بل يَعبُدونه وَحْدَه، ويتوكَّلون عليه، ويلجَؤون في جميعِ أُمورِهم إليه) [1825] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 476). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (من رَغِبَ إلى غيرِ اللهِ في قضاءِ حاجةٍ أو تفريجِ كُربةٍ، لزم أن يكون محبًّا له، ومحبَّتُه هي الأصلُ في ذلك) [1826] يُنظر: ((فتح المجيد)) (1/ 204). .
وقال أيضًا: (من جعل غيرَ الرَّسولِ تجِبُ طاعتُه في كُلِّ ما يأمُرُ به وينهى عنه، وإن خالف أمْرَ اللهِ ورسولِه، فقد جعله ندًّا، ورُبَّما صنع به كما تصنَعُ النَّصارى بالمسيحِ، ويدعوه ويستغيثُ به، ويوالي أولياءَه، ويعادي أعداءَه مع إيجابِه طاعتَه في كُلِّ ما يأمُرُ به، وينهى عنه، ويحَلِّلُه ويحَرِّمُه، ويقيمُه مقامَ اللهِ ورَسولِه؛ فهذا من الشِّركِ الذي يدخُلُ أصحابُه في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] ) [1827] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/267). .
 وقال ابنُ القَيِّمِ: (الشِّركُ ينقَسِمُ إلى مغفورٍ وغيرِ مَغفورٍ، وأكبَرَ وأصغَرَ، والنَّوعُ الأوَّلُ ينقَسِمُ إلى كبيرٍ وأكبَرَ، وليس شيءٌ منه مغفورًا؛ فمنه الشِّركُ باللهِ في المحبَّةِ والتعظيمِ: أن يحِبَّ مخلوقًا كما يحِبُّ اللهَ، فهذا من الشِّركِ الذي لا يَغفِرُه اللهُ، وهو الشِّركُ الذي قال سُبحانَه فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [سورة البقرة: 165]، وقال أصحابُ هذا الشِّركِ لآلهتِهم وقد جمعَهم الجَحيمُ: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء: 97 - 98]. ومعلومٌ أنَّهم ما سَوَّوهم به سُبحانَه في الخَلْقِ والرِّزقِ، والإماتةِ والإحياءِ، والمِلْكِ والقُدْرةِ، وإنَّما سَوَّوهم به في الحُبِّ والتألُّهِ والخُضوعِ لهم والتذَلُّلِ) [1828] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 132). .
وقال مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ في بيانِ الأمورِ المبيِّنةِ لتفسيرِ التَّوحيدِ وشَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ: (آيةُ البَقَرةِ في الكُفَّارِ الذين قال اللهُ تعالى فيهم: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167] ، وذَكَر أنَّهم يحبُّون أندادَهم كحُبِّ الله، فدَلَّ على أنَّهم يحبُّون اللهَ حبًّا عظيمًا، فلم يدخُلوا في الإسلامِ، فكيف بمن أحَبَّ النِّدَّ أكبَرَ من حُبِّ الله؟! فكيف بمن لم يحِبَّ إلَّا النِّدَّ وَحْدَه؟!) [1829] يُنظر: ((كتاب التوحيد)) (ص: 25) . .
وقال عبدُ الرَّحمنِ بن حسن آل الشَّيخ: (فكُلُّ من اتخذ ندًّا لله يدعوه من دونِ اللهِ، ويرغَبُ إليه ويرجوه لِما يُؤَمِّلُه منه من قضاءِ حاجاتِه، وتفريجِ كُرُباتِه، كحالِ عُبَّادِ القُبورِ والطواغيتِ والأصنامِ، فلا بدَّ أن يعَظِّموهم ويحِبُّوهم لذلك؛ فإنَّهم أحبُّوهم مع الله، وإن كانوا يُحِبُّون الله تعالى، ويقولون: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويُصَلُّون ويصومون، فقد أشركوا باللهِ في المحبَّةِ بمحَبَّةِ غيرِه، وعبادةِ غيرِه، فاتخاذُهم الأندادَ يُحِبُّونهم كُحِّب اللهِ يُبطِلُ كُلَّ قَولٍ يَقولونه، وكُلَّ عَمَلٍ يَعمَلونه؛ لأنَّ المُشْرِكَ لا يُقبَلُ منه عَمَلٌ، ولا يصِحُّ منه، وهؤلاء وإن قالوا: لا إله إلَّا اللهُ، فقد تركوا كُلَّ قَيدٍ قُيِّدَت به هذه الكَلِمةُ العظيمةُ) [1830] يُنظر: ((فتح المجيد)) (1/ 187 - 189). .
وقال ابنُ عثيمين: (أصلُ الأعمالِ كُلِّها هو المحبَّةُ، فالإنسانُ لا يَعمَل إلَّا لما يحِبُّ؛ إمَّا لجَلبِ مَنفعةٍ، أو لدَفعِ مَضَرَّةٍ، فإذا عَمِلَ شيئًا فلأنَّه يحِبُّه؛ إمَّا لذاتِه كالطَّعامِ، أو لغَيرِه، كالدَّواءِ.
وعبادةُ اللهِ مَبنيَّةٌ على المحبَّةِ، بل هي حقيقةُ العبادةِ؛ إذ لو تعبَّدْتَ بدونِ محبَّةٍ صارت عبادتُك قِشرًا لا رُوحَ فيها، فإذا كان الإنسانُ في قَلْبِه محبَّةٌ لله وللوُصولِ إلى جَنَّتِه، فسوف يسلُكُ الطَّريقَ الموصِلَ إلى ذلك.
ولهذا لَمَّا أحبَّ المُشْرِكون آلهتَهم توصَّلَت بهم هذه المَحبَّةُ إلى أن عبدوها من دونِ الله، أو مع الله.
والمَحبَّةُ تنقَسِمُ إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: مَحبَّةُ عبادةٍ، وهي التي توجِبُ التذَلُّلَ والتعظيمَ، وأن يقومَ بقَلبِ الإنسانِ مِن إجلالِ المحبوبِ وتعظيمِه ما يقتضي أن يمتَثِلَ أمْرَه، ويجتَنِبَ نَهْيَه، وهذه خاصَّةٌ بالله، فمن أحَبَّ مع الله غيرَه مَحبَّةَ عبادةٍ، فهو مُشْرِكٌ شِركًا أكبَرَ، ويُعَبِّرُ العُلَماءُ عنها بالمَحبَّةِ الخاصَّةِ.
القِسمُ الثَّاني: مَحبَّةٌ ليست بعبادةٍ في ذاتها، وهذه أنواعٌ:
النَّوعُ الأوَّلُ: المَحبَّةُ لله وفي الله، وذلك بأن يكونَ الجالِبُ لها مَحبَّةَ الله، أي: كونَ الشَّيءِ محبوبًا لله تعالى من أشخاصٍ، كالأنبياءِ، والرُّسُلِ، والصِّدِّيقين، والشُّهَداءِ، والصَّالحين. أو أعمالٍ، كالصَّلاةِ، والزكاةِ، وأعمالِ الخيرِ، أو غيرِ ذلك. وهذا النَّوعُ تابعٌ للقِسمِ الأوَّلِ الذي هو مَحبَّةُ الله.
النَّوعُ الثَّاني: مَحبَّةُ إشفاقٍ ورحمةٍ، وذلك كمَحبَّةِ الوَلَدِ، والصِّغارِ، والضُّعَفاءِ، والمرضى.
النَّوعُ الثَّالثُ: مَحبَّةُ إجلالٍ وتعظيمٍ لا عبادةٍ، كمَحبَّةِ الإنسانِ لوالِدِه، ولمعَلِّمِه، ولكبيرٍ مِن أهلِ الخيرِ.
النَّوعُ الرَّابعُ: مَحبَّةٌ طبيعيَّةٌ، كمَحبَّةِ الطَّعامِ، والشَّرابِ، والملبَسِ، والمركَبِ، والمسكَنِ) [1831] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/ 44). .
والشِّركُ العمَليُّ المتعَلِّقُ بعَمَلِ الجوارحِ مِن مِثلِ دُعاءِ الأمواتِ والاستغاثةِ بهم، أو إيجابِ طاعةِ غَيرِ الله عَزَّ وجَلَّ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كُلِّ ما يأمُرُ به أو ينهى عنه: يرجِعُ في الحقيقةِ إلى الإشراكِ في المَحبَّةِ، ويرجِعُ في الحقيقةِ إلى عَمَلِ القَلْبِ؛ فصَرْفُ أيِّ نوعٍ من العباداتِ لغيرِ اللهِ هو في الأصلِ بسَبَبِ المَحبَّةِ لذلك الغَيرِ [1832] ينظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/ 196)، ((نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف)) للوهيبي (2/195). .

انظر أيضا: