الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الخامِسُ: الشَّكُّ في حُكمٍ مِن أحكامِ اللهِ أو خَبَرٍ من أخبارِه

قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15] .
 قال ابنُ جريرٍ: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا يقولُ: ثمَّ لم يَشُكُّوا في وحدانيَّةِ اللهِ، ولا في نبُوَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وألزم نَفْسَه طاعةَ اللهِ وطاعةَ رَسولِه، والعَمَلَ بما وجب عليه من فرائِضِ اللهِ، بغيرِ شَكٍّ منه في وجوبِ ذلك عليه) [1780] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 395). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (فاليقينُ رُوحُ أعمالِ القُلوبِ التي هي أرواحُ أعمالِ الجوارحِ، وهو حقيقةُ الصِّدِّيقيَّةِ، وهو قُطبُ هذا الشَّأنِ الذي عليه مدارُه، … ومتى وصل اليقينُ إلى القَلبِ امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كُلُّ رَيبٍ وشَكٍّ وسَخَطٍ) [1781] يُنظر: ((مدراج السالكين)) (2/ 376). .
ومن شُروطِ لا إله إلَّا اللهُ: (اليقينُ المنافي للشَّكِّ)، ومن الأدِلَّةِ على ذلك:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رسولُ اللهِ، لا يَلقَى اللهَ بهما عبدٌ غيرُ شاكٍّ فيهما إلَّا دَخَل الجنَّةَ)) [1782] أخرجه مسلم (27). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (كُلُّ من لَقِيَ اللهَ غيرَ شاكٍّ في الكَلِمةِ، لم يُحجَبْ عن الجنَّةِ) [1783] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 59). ويُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 96). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((اذهَبْ بنَعْلَيَّ هاتينِ، فمن لَقِيتَ مِن وراء هذا الحائطِ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ مُستَيقِنًا بها قَلْبُه، فبشِّرْه بالجنَّةِ)) [1784] أخرجه مسلم (31). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطبي: (من اعتقد الحَقَّ وصَدَّق به تصديقًا جازمًا لا شَكَّ فيه ولا ريبَ، دخل الجنَّةَ) [1785] يُنظر: ((المفهم)) (1/197). .
وقال حافظٌ الحَكَميُّ: (الإيمانُ لا يُغني فيه إلَّا عِلمُ اليَقينِ لا عِلمُ الظَّنِّ، فكيف إذا دخَلَه الشَّكُّ؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] ، فاشترط في صِدقِ إيمانِهم باللهِ ورَسولِه كونَهم لم يرتابوا، [1786] الرَّيبُ والريبة: الشَّكُّ والظَّنُّ والتُّهمةُ. قال القتيبي: الرِّيبة والرَّيب: الشَّكُّ، لا ريبَ فيه: لا شَكَّ فيه؛ قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] أي: لا شَكَّ فيه. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 1788), قال ابن أبي حاتم: (لا أعلم في هذا خلافًا) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 162). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 231). أي: لم يشُكُّوا، فأمَّا المرتابُ فهو من المنافِقين- والعياذ بالله- الذين قال اللهُ تعالى فيهم: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التَّوبة: 45] ) [1787] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/ 419). .
ثمَّ قال بعد ذِكْرِه الحديثينِ السَّابِقَينِ: (فاشتَرَط في دخولِ قائِلِها الجَنَّةَ أن يكونَ مُستَيقِنًا بها قَلْبُه غيرَ شاكٍّ فيها، وإذا انتفى الشَّرطُ انتفى المشروطُ) [1788] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/ 420). .
ومن الأمثِلةِ على كُفرِ الشَّكِّ:
الشَّكُّ في صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو الشَّكُّ في البعثِ، أو الشَّكُّ في كُفرِ الكافِرِ، أو الشَّكُّ في شَيءٍ مِن القرآنِ، أو الشَّكُّ في حُكمٍ مِن الأحكامِ.
قال عياضٌ عند كلامِه عن بعضِ المكَفِّراتِ: (وكذلك من أضاف إلى نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تعمُّد الكَذِبِ فيما بلَّغَه وأخبَرَ به، أو شَكَّ في صِدْقِه، أو سَبَّه... فهو كافرٌ بإجماعٍ) [1789] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 284). .
وقال أيضًا: (لهذا نُكَفِّرُ من دان بغير ملَّةِ المُسلِمين من المِلَل، أو وقف فيهم، أو شَكَّ، أو صَحَّح مَذْهَبَهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلامَ واعتَقَده، واعتقد إبطالَ كُلِّ مَذهَبٍ سِواه؛ فهو كافرٌ بإظهارِ ما أظهره من خِلافِ ذلك) [1790] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 286). .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ من استخَفَّ بالقُرآنِ أو المصحَفِ أو بشيءٍ منه، أو سَبَّهما، أو جَحَده، أو حَرْفًا منه أو آيةً، أو كَذَّب به أو بشيءٍ منه، أو كَذَّب بشيءٍ ممَّا صُرِّح به فيه من حُكمٍ أو خَبَرٍ، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبتَه، على عِلمٍ منه بذلك، أو شَكَّ في شيءٍ من ذلك؛ فهو كافِرٌ عند أهلِ العِلْم بإجماعٍ) [1791] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 304). .
وذكر ابن تيميَّة حُكمَ من لم يُكَفِّرِ الكافِرَ -سواءٌ كان كافرًا أصليًّا كاليهودِ والنَّصارى، أو من ثَبَت كُفْرُه يقينًا كالباطنيَّةِ- فقال في رَدِّه على أهلِ الحُلولِ والاتحادِ: (أقوالُ هؤلاء شَرٌّ من أقوالِ النَّصارى، وفيها من التناقُضِ مِن جِنسِ ما في أقوالِ النَّصارى؛ ولهذا يقولون بالحلولِ تارةً، وبالاتِّحادِ أُخرى، وبالوَحْدةِ تارةً؛ فإنَّه مذهَبٌ متناقِضٌ في نَفْسِه؛ ولهذا يُلَبِّسون على من لم يفهَمْه، فهذا كُلُّه كُفرٌ باطنًا وظاهرًا بإجماعِ كُلِّ مُسلِمٍ، ومن شَكَّ في كُفرِ هؤلاء بعد معرفةِ قَولِهم ومعرفةِ دينِ الإسلامِ، فهو كافِرٌ، كمن يَشُكُّ في كُفرِ اليَهودِ والنصارى والمُشرِكين) [1792] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/368). .
وقال في بيانِ حُكمِ من زعم أنَّ الصَّحابةَ ارتدُّوا بعد رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا نفرًا قليلًا، أو أنَّ عامَّتَهم فَسَقوا: (فهذا لا ريبَ أيضًا في كُفْرِه؛ لأنَّه مُكَذِّبٌ لِما نصَّه القرآنُ في غيرِ مَوضِعٍ مِن الرِّضا عنهم، والثَّناءِ عليهم، بل من يَشُكُّ في كُفرِ مِثلِ هذا فإنَّ كُفْرَه مُتَعَيِّنٌ) [1793] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1110). .
وقال ابنُ القَيِّمِ في مَعرِضِ كَلامِه عن أنواعِ الكُفْرِ الأكبرِ: (أمَّا كُفرُ الشَّكِّ: فإنَّه لا يجزمُ بصِدْقِه ولا يُكَذِّبُه، بل يَشُكُّ في أمرِه، وهذا لا يستَمِرُّ شَكُّه إلَّا إذا ألزم نَفْسَه الإعراضَ عن النَّظَرِ في آياتِ صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جملةً، فلا يَسمَعُها ولا يلتَفِتُ إليها، وأمَّا مع التفاتِه إليها ونَظَرِه فيها، فإنَّه لا يبقى معه شَكٌّ) [1794] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 347). .
وذكر مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ من نواقِضِ الإسلامِ: (الثَّالثُ: من لم يُكَفِّرِ المُشرِكين، أو شَكَّ في كُفْرِهم، أو صَحَّحَ مَذْهَبَهم، كَفَر إجماعًا) [1795] يُنظر: مجموعة الشيخ ((الرسائل الشخصية)) (ص: 213). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخ: (فإن كان شاكًّا في كُفْرِهم أو جاهلًا بكُفْرِهم، بُيِّنَت له الأدِلَّةُ من كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على كُفْرِهم، فإنْ شَكَّ بعد ذلك وتردَّد، فإنَّه كافِرٌ بإجماعِ العُلَماءِ على أنَّ من شَكَّ في كُفرِ الكُفَّارِ فهو كافِرٌ) [1796] يُنظر: ((الضياء الشارق)) (ص: 374). .
وقال ابنُ سحمان: (قد دَلَّ القُرآنُ على أنَّ الشَّكَّ في أُصولِ الدِّينِ كُفرٌ، والشَّكُّ هو التردُّدُ بين شيئينِ، كالذي لا يَجزِمُ بصِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا كَذِبِه، ولا يجزِمُ بوُقوعِ البَعْثِ ولا عَدَمِ وُقوعِه، ونحوِ ذلك، كالذي لا يعتَقِدُ وُجوبَ الصَّلاةِ ولا عَدَمَ وُجوبِها، أو لا يعتَقِدُ تحريمَ الزِّنا ولا عَدَمَ تحريمِه، وهذا كُفرٌ بإجماعِ العُلَماءِ) [1797] يُنظر: ((الضياء الشارق)) (ص: 374). .
وثَمَّةَ فَرقٌ بين الشَّكِّ والوَسْوَسةِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الوَسْوَسةُ هي ممَّا يَهجُمُ على القَلْبِ بغَيرِ اختيارِ الإنسانِ، فإذا كَرِهَه العَبدُ ونفاه كانت كراهتُه صَريحَ الإيمانِ) [1798] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (14/108). .
أمَّا مَن شَكَّ في الحَقِّ، فهو تارِكٌ للإيمانِ الذي لا نجاةَ ولا سعادةَ إلَّا به [1799] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/108). .
وثَمَّةَ فَرْقٌ بين الرَّيبِ والشَّكِّ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الرَّيبُ يكونُ في عِلمِ القَلبِ وفي عَمَلِ القَلبِ، بخِلافِ الشَّكِّ؛ فإنَّه لا يكون إلَّا في العِلمِ؛ ولهذا لا يُوصَفُ باليقينِ إلَّا من اطمأنَّ قَلْبُه عِلمًا وعَمَلًا) [1800] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (14/108)، ((الإيمان)) (ص: 221). .

انظر أيضا: