الموسوعة العقدية

المَطْلَب الثَّالثُ: شُروطُ الإكراهِ

قال ابنُ حَجَر: (شروطُ الإكراهِ أربعةٌ:
1- أن يكونَ فاعِلُه قادرًا على إيقاعِ ما يُهَدِّدُ به، والمأمورُ عاجزًا عن الدَّفعِ ولو بالفِرارِ.
2- أن يغلِبَ على ظنِّه أنَّه إذا امتنع أوقع به ذلك.
3- أن يكونَ ما هدَّد به فوريًّا، فلو قال: إن لم تفعَلْ كذا ضربتُك غدًا، لا يُعَدُّ مُكرَهًا، ويُستثنى ما إذا ذكر زمنًا قريبًا جدًّا، أو جرت العادةُ بأنَّه لا يُخلَفُ.
4- أن لا يظهِرَ من المأمورِ ما يدُلُّ على اختيارِه.
ولا فَرْقَ بين الإكراهِ على القَولِ والفِعلِ عند الجُمهورِ، ويُستثنى من الفِعلِ ما هو محرَّمٌ على التأبيدِ، كقَتلِ النَّفسِ بغيرِ حَقٍّ) [1628] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/311). .
قال الخازنُ: (قال العُلَماءُ: يجِبُ أن يكونَ الإكراهُ الذي يجوزُ له أن يتلفَّظَ معه بكَلِمةِ الكُفرِ أن يعَذَّبَ بعذابٍ لا طاقةَ له به، مثلُ: التَّخويفِ بالقَتلِ والضَّربِ الشديدِ، والإيلاماتِ القَويَّةِ، مِثلُ: التحريقِ بالنَّارِ ونحوِه... وأجمعوا على أنَّ من أُكرِهَ على الكُفرِ لا يجوزُ له أن يتلفَّظَ بكَلِمةِ الكُفرِ تصريحًا، بل يأتي بالمعاريضِ وبما يوهِمُ أنَّه كُفرٌ، فلو أُكرِهَ على التصريحِ يباحُ له ذلك بشَرطِ طُمَأنينةِ القَلبِ على الإيمانِ، غيرَ معتَقِدٍ ما يقَولُه من كلمةِ الكُفرِ، ولو صبر حتى قُتِلَ كان أفضَلَ؛ لأنَّ ياسِرًا وسُمَيَّةَ قُتِلَا ولم يتلفَّظا بكَلِمةِ الكُفرِ، ولأنَّ بِلالًا صَبَر على العذابِ) [1629] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (3/100). .
وكان المُشِركون يعذِّبون بلالًا رَضِيَ اللهُ عنه حتى إنَّهم لَيَضَعون الصَّخرةَ العظيمةَ على صَدْرِه في شِدَّةِ الحَرِّ ويأمرونَه أن يُشرِكَ باللهِ، فيأبى عليهم ويقولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ. ويقولُ: واللهِ لو أعلَمُ كَلِمةً أغيَظَ لكم منها لقُلْتُها [1630] أخرجه الطبري في ((تاريخ الأمم والملوك)) (11/237)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/148) باختلاف يسير عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه. ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 606). !
وكذلك حبيبُ بنُ زَيدٍ الأنصاريُّ لَمَّا قال مُسَيلِمةُ الكَذَّابُ: أتشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ؟ قال: نعم. فيقول: أتشهَدُ أنِّي رسولُ اللهِ؟ فيقولُ: لا أسمعُ، فلم يَزَلْ يُقَطِّعُه إرْبًا إرْبًا، وهو ثابتٌ على ذلك [1631] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (20/505) باختلاف يسير عن كعب الأحبار. وأخرجه من طريق آخر عن ابن إسحاق أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/356) باختلاف يسير. ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 606). .
وكما فَعَل عبدُ اللهِ بنُ حُذافةَ السَّهميُّ؛ فإنَّه لَمَّا أسرَتْه الرومُ جاؤوا به إلى مَلِكِهم، فقال له: تنصَّرْ وأنا أشرَكُك في مُلكي، وأزوِّجُك ابنتي، فقال له: لو أعطيتَني جميعَ ما تملِكُ وجميعَ ما تملِكُه العَرَبُ على أن أرجِعَ عن دينِ محمَّدٍ طَرفةَ عَينٍ ما فعَلْتُ. فقال: إذًا أقتُلُك، قال: أنت وذاك، فأمَرَ به فصُلِبَ، وأمر الرُّماةَ فرَمَوه قريبًا من يديه ورِجْليه، وهو يَعرِضُ عليه دينَ النَّصرانيَّةِ، فيأبى، ثم أَمَر به فأُنزِلَ، ثم أَمَر بقِدْرٍ، في روايةٍ ببقرةٍ من نحاسٍ فأُحمِيَت، وجاء بأسيرٍ من المسلمين فألقاه وهو ينظُرُ، فإذا هو عظامٌ تَلوحُ، وعَرَض عليه فأبى، فأمَرَ به أن يُلقى فيها، فرُفِعَ في البكرةِ ليُلقى فيها، فبكى فطَمِعَ فيه ودعاه، فقال له: إنِّي إنَّما بكيتُ لأنَّ نفسي إنَّما هي نفسٌ واحدةٌ تُلقى في هذه القِدْرِ السَّاعةَ في اللهِ، فأحببتُ أن يكونَ لي بعَدَدِ كُلِّ شَعرةٍ في جسدي نَفسٌ تُعَذَّبُ هذا العذابَ في اللهِ! [1632] أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (1639) عن أبي رافع باختلاف يسير. وأخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (27/359) باختلاف يسير عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي بعضِ الرِّواياتِ: أنَّه سَجَنه، ومنع عنه الطَّعامَ والشَّرابَ أيَّامًا، ثم أرسَلَ إليه بخمرٍ ولحمِ خِنزيرٍ، فلم يقرَبْه، ثمَّ استدعاه فقال: ما منعك أن تأكُلَ؟ قال: أمَا إنَّه قد حُلَّ لي، ولكن لم أكُنْ لأشمِتَك فيَّ، فقال له المَلِكُ: فقَبِّلْ رأسي وأنا أُطلِقُك، فقال: وتُطلِقُ معي أُسارى المسلمين، قال: نعم، فقَبَّل رأسَه، فأطلقه وأطلق معه جميعَ أُسارى المسلمين عنده، فلمَّا رجع قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: حُقَّ على كلِّ مُسلمٍ أن يُقَبِّلَ رأسَ عبدِ اللهِ بنِ حُذافةَ، وأنا أبدأُ، فقام فقَبَّل رأْسَه [1633] أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (1639)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (27/358) عن أبي رافع باختلاف يسير. وأخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (27/360) عن الزهري باختلاف يسير. ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 606). .

انظر أيضا: