الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: النُّصوصُ المُحَذِّرةُ من إطلاقِ التَّكفيرِ على المُعَيَّنِ دونَ بَيِّنةٍ

1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كان رجُلانِ في بني إسرائيلَ متواخِيَينِ، فكان أحَدُهما يُذنِبُ، والآخَرُ مُجتَهِدٌ في العبادةِ، فكان لا يزالُ المجتَهِدُ يرى الآخَرَ على الذَّنبِ فيقولُ: أقصِرْ، فوجَدَه يومًا على ذنبٍ، فقال له: أقصِرْ، فقال: خَلِّنِي ورَبِّي، أبُعِثْتَ عَليَّ رقيبًا؟! فقال: واللهِ لا يَغفِرُ اللهُ لك -أو لا يُدخِلُك اللهُ الجنَّةَ- فقبَضَ أرواحَهما، فاجتمعا عند ربِّ العالَمين، فقال لهذا المجتَهِدِ: أكنتَ بي عالِمًا؟ أو كنتَ على ما في يدي قادرًا؟ وقال للمُذنِبِ: اذهَبْ فادخُلِ الجنَّةَ برحمتي. وقال للآخَرِ: اذهَبوا به إلى النَّارِ ))، قال أبو هُرَيرةَ: والذي نفسي بيده، لتكَلَّمَ بكَلِمة أوبَقَت دُنياه وآخِرَتَه [1346] أخرجه أبو داود (4901) واللَّفظُ له، وأحمد (8749). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5712)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4901)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (1318)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/127)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4901) وقال: متنُه غريبٌ. وجَوَّده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/187). .
 قال الطِّيبي: (إدخالُه النَّارَ؛ لمجازاتِه على قَسَمِه بأنَّ الله تعالى لا يغفِرُ للمُذنِبِ؛ لأنَّ هذا حُكمٌ على اللهِ تعالى، وجعل النَّاس آيسًا من رحمته، وحُكمٌ بكونِ اللهِ غيرَ غَفورٍ) [1347] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (6/ 1851). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (إنَّ الأقوالَ الباطِلةَ المبتَدَعةَ المحَرَّمةَ المتضَمِّنةَ نَفيَ ما أثبته الرَّسولُ، أو إثباتَ ما نفاه، أو الأمرَ بما نهى عنه، أو النَّهيَ عمَّا أمر به؛ يقالُ فيها الحَقُّ، ويُثبَتُ لها الوعيدُ الذي دَلَّت عليه النُّصوصُ، ويُبَيَّنُ أنَّها كُفرٌ، ويقالُ: من قالها فهو كافِرٌ، ونحوُ ذلك، كما يُذكَرُ من الوعيدِ في الظُّلمِ في النفوسِ والأموالِ، وكما قد قال كثيرٌ من أهلِ السُّنَّةِ المشاهيرِ بتكفيرِ من قال بخَلْقِ القُرآنِ، وأنَّ اللهَ لا يُرى في الآخِرةِ، ولا يَعلَمُ الأشياءَ قبل وُقوعِها... أمَّا الشَّخصُ المُعَيَّنُ، إذا قيل: هل تشهدون أنَّه من أهلِ الوعيدِ وأنَّه كافِر؟ فهذا لا نشهَدُ عليه إلَّا بأمرٍ تجوزُ معه الشَّهادةُ؛ فإنَّه من أعظَمِ البَغيِ أن يُشهَدَ على مُعَيَّنٍ أنَّ اللهَ لا يَغفِرُ له ولا يرحمُه، بل يُخَلِّدُه في النَّارِ، فإنَّ هذا حُكمُ الكافِرِ بعد الموت... ولأنَّ الشَّخصَ المُعَيَّنَ يمكِنُ أن يكونَ مجتَهِدًا مخطئًا مغفورًا له، أو يمكِنُ أن يكونَ ممَّن لم يبلُغْه ما وراء ذلك من النُّصوصِ، ويمكِنُ أن يكونَ له إيمانٌ عظيمٌ وحسَناتٌ أوجَبَت له رحمةَ اللهِ) [1348] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/436). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أيُّما رجُلٍ قال لأخيه: يا كافِرُ، فقد باء بها أحَدُهما )) [1349] أخرجه البخاري (6104) واللَّفظُ له، ومسلم (60). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (... التَّحقيقُ أنَّ الحديثَ سِيقَ لزَجرِ المُسْلِمِ مِن أن يقولَ ذلك لأخيه المُسْلِمِ،... وقيل: معناه: رجَعَت عليه نقيصتُه لأخيه ومعصيةُ تكفيرِه،... فمعنى الحديثِ: فقد رجع عليه تكفيرُه، فالرَّاجِعُ التَّكفيرُ لا الكُفْرُ، فكأنَّه كَفَّر نَفْسَه؛ لكونِه كَفَّر من هو مِثْلُه) [1350] يُنظر: ((فتح الباري)) (10/466). .
وقال القرطبي: (نعني بهذا أنَّ المقولَ له: كافِرٌ إن كان كافِرًا كُفرًا شَرعيًّا، فقد صدق القائِلُ له ذلك، وذهب بها المقولُ له، وإن لم يكُنْ كذلك، رجَعَت للقائلِ مَعَرَّةُ ذلك القَوْلِ وإثمُه) [1351] يُنظر: ((المفهم)) (1/253). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (التَّكفيرُ العامُّ كالوعيدِ العامِّ يَجِبُ القَوْلُ بإطلاقِه وعُمومِه، وأمَّا الحُكمُ على المُعَيَّنِ بأنَّه كافِرٌ أو مشهودٌ له بالنَّارِ، فهذا يَقِفُ على الدَّليلِ المُعَيَّنِ؛ فإنَّ الحُكمَ يَقِفُ على ثبوتِ شُروطِه، وانتفاءِ مَوانِعِه) [1352] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/498). .
وقال أيضًا: (والتَّكفيرُ هو من الوعيدِ) [1353] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/231). .
فنصوصُ الوَعيدِ مِن القرآنِ والسُّنَّةِ؛ مِثلُ قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] .
ومِثلُ حديثِ أبي جُحَيفةَ وَهبِ بنِ عبدِ اللهِ السُّوائيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَعَنَ آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ، والواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ والمُصَوِّرَ)) [1354] أخرجه البخاري (5962) مطولاً. .
فهذه الأدِلَّةُ ونَحوُها ينبغي القَوْلُ بموجِبِها على وَجهِ العُمومِ والإطلاقِ مِن غيرِ تَعيينِ شَخصٍ والحُكمِ عليه بأنَّه ملعونٌ أو مُستَحِقٌّ للنَّارِ؛ لإمكانِ التَّوبةِ، أو الحَسَناتِ الماحيةِ، أو بأحَدِ مُكَفِّراتِ الذُّنوبِ، أو بشفاعةِ مَقبولةٍ، فإذا كان ذلك التَّعميمُ واجِبًا في نصوصِ الوعيدِ على ما دون الكُفْرِ فهو أولى وأوجَبُ في النُّصوصِ التي أطلَقَت الحُكمَ بالكُفْرِ على قَولٍ أو فِعلٍ أو اعتقادٍ [1355] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/230) (10/330) (23/345). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (كان أهلُ العِلمِ والسُّنَّةِ لا يُكَفِّرونَ من خالفَهم، وإن كان ذلك المخالِفُ يكَفِّرُهم؛ لأنَّ الكُفْرَ حُكمٌ شَرعيٌّ، فليس للإنسانِ أن يعاقِبَ بمثلِه، كمن كَذَب عليك، وزَنى بأهلك، ليس لك أن تكذِبَ عليه، وتزنيَ بأهْلِه؛ لأنَّ الكَذِبَ والزِّنا حرامٌ لحَقِّ اللهِ تعالى، وكذلك التَّكفيرُ حَقٌّ لله، فلا يُكَفَّرُ إلَّا من كَفَّره اللهُ ورَسولُه، وأيضًا فإنَّ تكفيرَ الشَّخصِ المُعَيَّن وجوازَ قَتْلِه موقوفٌ على أن تبلُغَه الحُجَّةُ النبويَّةُ التي يكفُرُ من خالفها، وإلَّا فليس كُلُّ من جَهِلَ شيئًا من الدِّينِ يَكفُرُ) [1356] يُنظر: ((الرد على البكري)) (2/492). .
وقال أيضًا: (إنِّي من أعظَمِ النَّاسِ نهيًا عن أن يُنسَبَ مُعَيَّنٌ إلى تكفيرٍ وتفسيقٍ ومعصيةٍ، إلَّا إذا عُلِمَ أنَّه قد قامت عليه الحُجَّةُ الرِّساليَّةُ التي من خالفها كان كافِرًا تارةً، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى) [1357] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/229). .
وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ تعليقًا على هذا الكلامِ: (هذه صِفةُ كلامِه في المسألةِ في كُلِّ مَوضِعٍ وقَفْنا عليه من كلامِه، لا يذكُرُ عَدَمَ تكفيرِه المُعَيَّنِ إلَّا ويَصِلُه بما يزيلُ الإشكالَ أنَّ المرادَ بالتَّوقُّفِ عن تكفيرِه قبل أن تبلُغَه الحُجَّةُ، وأمَّا إذا بلغَتْه حُكِمَ عليه بما تقتضيه تلك المسألةُ من تكفيرٍ أو تفسيقٍ أو معصيةٍ) [1358] يُنظر: ((مفيد المستفيد)) (ص: 10). .
وكلامُ ابنِ تيميَّةَ في عَدَمِ تكفيرِ المُعَيَّن، وعُذرِ الجاهِلِ المتأوِّلِ: كثيرٌ جِدًّا، ومن ذلك قَولُه: (ولهذا كنتُ أقولُ للجَهميَّةِ من الحُلوليَّةِ والنُّفاةِ الذين نفوا أنَّ اللهَ تعالى فوق العَرْشِ لَما وقَعَت محنتُهم: أنا لو وافقْتُكم كنتُ كافِرًا؛ لأنِّي أعلَمُ أنَّ قَولَكم كُفرٌ، وأنتم عندي لا تكفرون لأنَّكم جُهَّالٌ، وكان هذا خطابًا لعُلَمائِهم وقُضاتِهم وشُيوخِهم وأمرائِهم) [1359] يُنظر: ((الرد على البكري)) (2/494)، ولكِنْ حَكَم ابن تيميَّةَ بكُفرِ من لا شُبهةَ في كُفْرِه، كالباطنيَّةِ ومن قامت عليه الحُجَّةُ. .
وقال أيضًا: (مذاهِبُ الأئمَّةِ مبنيَّةٌ على هذا التَّفصيلِ بين النَّوعِ والعَينِ؛ ولهذا حكى طائفةٌ عنهم الخِلافَ في ذلك، ولم يفهَموا غورَ قَولِهم، فطائفةٌ تحكي عن أحمدَ في تكفيِر أهلِ البِدَعِ روايتينِ مُطلَقًا، حتى تجعَلَ الخلافَ في تكفيرِ المرجِئةِ والشِّيعةِ المفَضِّلةِ لعليٍّ، وربَّما رجَّحَت التَّكفيرَ والتَّخليدَ في النَّارِ، وليس هذا مذهَبَ أحمد، ولا غيرِه من أئمَّةِ الإسلامِ، بل لا يختَلِفُ قَولُه أنَّه لا يُكَفِّرُ المرجِئةَ الذين يقولون: الإيمانُ قَولٌ بلا عَمَلٍ، ولا يكَفِّرُ من يفَضِّلُ عليًّا على عثمانَ، بل نصوصُه صريحةٌ بالامتناعِ من تكفيرِ الخوارجِ والقَدَريَّة وغيرِهم. وإنَّما كان يُكَفِّرُ الجهميَّةَ المنكِرين لأسماءِ اللهِ وصِفاتِه؛ لأنَّ مُناقضةَ أقوالهم لِما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ظاهِرةٌ بَيِّنةٌ، ولأنَّ حقيقةَ قَولهِم تعطيلُ الخالِقِ، وكان قد ابتُلِيَ بهم حتى عرف حقيقةَ أمْرِهم، وأنَّه يدورُ على التَّعطيلِ، وتكفيرُ الجَهميَّةِ مشهورٌ عن السَّلَفِ والأئِمَّةِ، لكِنْ ما كان يُكَفِّرُ أعيانَهم، فإنَّ الذي يدعو إلى القَوْلِ أعظَمُ من الذي يقولُ به، والذي يعاقِبُ مخالِفَه أعظَمُ من الذي يدعو فقط، والذي يُكَفِّرُ مخالِفَه أعظَمُ من الذي يعاقِبُه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاةِ الأمورِ يقولون بقَولِ الجهميَّةِ: إنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، وإنَّ اللهَ لا يُرى في الآخرةِ، وغيرَ ذلك، ويَدْعون النَّاسَ إلى ذلك ويمتَحِنونهم ويعاقِبونَهم إذا لم يجيبوهم، ويُكَفِّرون من لم يُجِبْهم، حتى إنَّهم كانوا إذا أمسكوا الأسيرَ لم يُطلِقوه حتى يُقِرَّ بقَولِ الجَهميَّة: إنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، وغير ذلك. ولا يُوَلُّون متوَلِّيًا، ولا يعطون رزقًا من بيتِ المالِ، إلَّا لمن يقولُ ذلك، ومع هذا فالإمامُ أحمد رحمه الله تعالى ترحَّم عليهم، واستغفر لهم؛ لعِلْمِه بأنَّهم لم يتبينْ لهم أنَّهم مُكَذِّبون للرَّسولِ، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأوَّلوا فأخطؤوا، وقَلَّدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشَّافعيُّ لَمَّا قال لحَفصٍ الفردِ حين قال: القرآنُ مخلوقٌ: كَفَرْتَ باللهِ العَظيمِ. بَيَّن له أنَّ هذا القَوْلَ كُفرٌ، ولم يحكُمْ برِدَّةِ حَفصٍ بمجَرَّدِ ذلك؛ لأنَّه لم يتبيَّنْ له الحُجَّةُ التي يكفُرُ بها، ولو اعتقد أنَّه مرتدٌّ لسعى في قَتْلِه، وقد صَرَّح في كُتُبِه بقَبولِ شَهادةِ أهلِ الأهواءِ، والصَّلاةِ خَلْفَهم) [1360] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (23/348). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/488). .

انظر أيضا: