الموسوعة العقدية

الفَصلُ الرَّابعُ: دخولُ الأعمالِ في هذه المراتِبِ الثَّلاثةِ

سبق إجماعُ أهل السُّنَّةِ والجَماعةِ على أنَّ الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، وهذا يشمَلُ مراتِبَ الإيمانِ الثَّلاثَ.
وسبق أيضًا أنَّ الإيمانَ إذا أُطلِقَ فالمرادُ به الدِّينُ كُلُّه، وهو يشتَمِلُ على شُعَبٍ جامعةٍ لكُلِّ أمورِ الإيمانِ من جميعِ الطَّاعاتِ فَرْضِها ونَفْلِها، ممَّا يجِبُ على القَلْبِ واللِّسانِ والجوارحِ، وعلى تَرْكِ المحظوراتِ المحَرَّمةِ منها والمكروهةِ.
وهذه الشُّعَبُ تتفاوَتُ؛ فمنها:
1- ما يدخُلُ في أصلِ الإيمانِ فلا يصِحُّ الإيمانُ إلَّا به.
2- منها ما يدخُلُ في الإيمانِ الواجِبِ.
3- منها ما يدخُلُ في الإيمانِ المستحَبِّ.
أمَّا أصلُ الإيمانِ فإنَّه يشتَمِلُ على شُعَبٍ لا يصِحُّ إلَّا باكتمالِها، وهي:
أوَّلًا: على القَلبِ
وهو مَعرفةُ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إجمالًا، والتصديقُ والانقيادُ له، وتواطؤُ القَلبِ مع اللِّسانِ في الإقرارِ بوحدانيَّةِ اللهِ، والخُضوعِ والمحبَّةِ مع الرِّضا والتسليمِ والتصديقِ بنبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والانقيادِ لطاعتِه وعَدَمِ معانَدتِه به.
ثانيًا: على اللِّسان
وهو الإقرارُ بالشَّهادتين، وما يتوقَّفُ على اللِّسانِ مِن الأعمالِ الدَّاخِلةِ في أصلِ الإيمانِ، كأذكارِ الصَّلاةِ مثلًا.
ثالثًا: على الجوارحِ
وهو ما يُكَفَّرُ تارِكُها كالصَّلاةِ، إضافةً إلى البراءةِ مِن الشِّركِ وأهلِه، والتجَرُّدِ مِن المكَفِّراتِ، وكُلِّ ما يناقِضُ الإيمانَ مِن قَولٍ أو فعلٍ أو اعتقادٍ مُكَفِّرٍ.
وضابطُ دُخولِ الأعمالِ في أصلِ الإيمانِ:
أنَّ كُلَّ طاعةٍ يَكفُرُ تاركُها ففِعْلُها من أصلِ الإيمانِ؛ كالتصديقِ والإقرارِ والانقيادِ القَلبيِّ، والصَّلاةِ، وكُلِّ محرَّمٍ يَكفُرُ فاعِلُه فتَرْكُه من أصلِ الإيمانِ؛ كالاستهزاءِ بالدِّينِ، والدُّعاءِ والاستغاثةِ بغيرِ اللهِ، والحُكمِ بغيرِ شَرعِ اللهِ، والتحاكُمِ إلى الطَّاغوتِ وغَيرِه، فلا يجتَمِعُ أصلُ الإيمانِ مع ما يناقِضُه من الأمورِ المكَفِّرةِ.
وأمَّا الإيمانُ الواجِبُ: فكُلُّ الشُّعَبِ الواجبةِ داخِلةٌ فيه إضافةً إلى شُعَبِ أصلِ الإيمانِ.
وضابِطُ ما يدخُلُ في الإيمانِ الواجِبِ مِن الأعمالِ سواءٌ كان فِعلًا أو تركًا:
أنَّ كُلَّ عَمَلٍ ورد في تركِه وعيدٌ ولم يُكَفَّرْ تاركُه، ففِعْلُه من الإيمانِ الواجِبِ.
وكلُّ عَمَلٍ ورد في فِعْلِه وعيدٌ ولم يبلُغْ حَدَّ الكُفرِ فتَرْكُه من الإيمانِ الواجِبِ؛ كالفواحِشِ والموبِقاتِ مِن الزِّنا والرِّبا، والسَّرِقة وشُربِ الخَمْرِ، والكَذِبِ والغِيبةِ والنَّميمةِ، والقَذْفِ وأكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، وإيذاءِ الجارِ وغيرِ ذلك.
ومما يدخُلُ في حُكمِ الواجِبِ: ما يتعَيَّن تعَلُّمُه من العِلمِ بالواجباتِ والنَّواهي التي تدخُلُ في أصلِ الإيمانِ والإيمانِ الواجِبِ، وكذا وجوبُ تعَلُّمِ كُلِّ واجبٍ أتى وقتُ الشُّروعِ فيه؛ كقاصِدِ الحَجِّ عند حُلولِ مَوسِمِه، والنِّكاحِ عند إرادتِه، وهكذا جميعُ الواجباتِ يجِبُ على المرءِ العِلمُ بشُروطِها وأركانِها ومُفسِداتِها قَبلَ الشُّروعِ فيها، وهذا يدخُلُ ضِمنَ الفَرضِ العَينيِّ على عوامِّ المُسلِمين، الذي لا ينبغي التفريطُ فيه؛ فإنَّ التقصيرَ في تعَلُّمِ ذلك قد يوجِبُ الكُفرَ -والعياذُ باللهِ- إذا كان يسَبِّبُ جهلًا بأصلِ الإيمانِ ونواقِضِه، ومفَسِّقًا إذا كان يسَبِّبُ جَهلًا بالمحَرَّماتِ والمنهِيَّاتِ، وفسادًا لصِحَّةِ العباداتِ إذا كان جهلًا بنواقِضِها ومُفسداتِها.
وأمَّا الإيمانُ المستحَبُّ: فيشتَمِلُ على جميعِ شُعَبِ الإيمانِ المستحَبَّةِ من نوافِلِ العباداتِ والطَّاعاتِ ممَّا لم يوجِبْها اللهُ تعالى ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكُلُّ ما سوى الواجباتِ فهو من الإيمانِ المستحَبِّ.
وضابِطُ دُخولِ الأعمالِ في الإيمانِ المستحَبِّ فِعلًا كانت أو تركًا:
أنَّ كُلَّ عَمَلٍ رَغَّب فيه اللهُ تعالى ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورتَّب عليه الثوابَ الجزيلَ ولم يَرِدْ وعيدٌ في تَركِه بعقوبةٍ، فهو من الإيمانِ المستحَبِّ.
وكذلك كُلُّ فِعلٍ نهى عنه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهيًا لم يَصِلْ إلى حَدِّ التحريمِ؛ كالمكروهاتِ، فتَرْكُها من الإيمانِ المستحَبِّ، ودليلٌ على وَرَعِ تاركِه وشِدَّةِ التزامِه بأوامِرِ الشَّرعِ، وعُلُوِّ إيمانِه.
إضافةً إلى أنَّ تَرْكَ الأمورِ المشتَبِهةِ التي يشتَبِهُ فيها الحلالُ والحرامُ، من الإيمانِ المستحَبِّ، فالذين يريدون المراتِبَ العَلِيَّةَ وبلوغَ مرتبةِ الكَمالِ المستحَبِّ يبتَعِدون عن كلِّ شيءٍ يُشَمُّ منه رائحةُ الحرامِ مِن قريبٍ أو بعيدٍ، ويدَعون ما لا بأسَ به خشيةَ ما فيه بأسٌ، وَرَعًا وزُهدًا في الدُّنيا وملَذَّاتِها وشَهَواتِها، فهؤلاء هم أصحابُ النُّفوسِ المطمَئِنَّةِ الذين اطمأَنَّت نفوسُهم لِما عند اللهِ، وصَرَفوا أعيُنَهم عن متاعِ الدُّنيا؛ فقد شغَلَتْهم الآخِرةُ عن الدُّنيا، فلا همَّ لهم إلَّا نيلُ رِضا اللهِ وجزيلِ ثوابِه، وهم مع ذلك يتركون ما ينافي الكمالَ المستحَبَّ من أمورِ الاعتقادِ والسُّلُوكِ؛ كطَلَبِ الرُّقيةِ مِنَ النَّاسِ؛ لِما فيه من منافاةِ كَمالِ التوكُّلِ، وتَرْكِ السُّؤالِ عند الحاجةِ، وعَدَمِ إظهارِ الشَّكوى والضَّجَرِ؛ لِما فيه من الإخلالِ بالصَّبرِ الجَميلِ [651] يُنظر: ((قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة)) لعادل الشيخاني (ص: 405). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/197)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/280)، ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (1/118)، ((القول السديد)) للسعدي (ص: 28). .
قال السعديُّ: (من حَقَّق توحيدَه بأن امتلأَ قَلْبُه من الإيمانِ والتوحيدِ والإخلاصِ، وصَدَّقَتْه الأعمالُ بأن انقادت لأوامرِ اللهِ طائعةً مُنيبةً مُخبِتةً إلى اللهِ، ولم يجرَحْ ذلك بالإصرارِ على شيءٍ من المعاصي، فهذا الذي يدخُلُ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، ويكونُ من السَّابقين إلى دُخولِها، وإلى تبَوُّءِ المنازِلِ منها.
ومن أخَصِّ ما يدُلُّ على تحقيقِه: كمالُ القُنوتِ للهِ، وقُوَّةُ التوكُّلِ على اللهِ، بحيث لا يلتَفِتُ القَلبُ إلى المخلوقينَ في شأنٍ مِن شُؤونِه، ولا يستشرِفُ إليهم بقَلْبِه، ولا يسألُهم بلسانِ مَقالِه أو حالِه، بل يكونُ ظاهِرُه وباطِنُه وأقوالُه وأفعالُه وحُبُّه وبُغضُه وجميعُ أحوالِه كُلِّها مقصودًا بها وَجهُ اللهِ، مُتَّبِعًا فيها رَسولَ الله.
والنَّاسُ في هذا المقامِ العَظيمِ دَرَجاتٌ: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، وليس تحقيقُ التوحيدِ بالتمَنِّي، ولا بالدَّعاوى الخاليةِ مِن الحقائِقِ، ولا بالحِلَى العاطلةِ، وإنَّما ذلك بما وَقَر في القلوبِ مِن عقائِدِ الإيمانِ، وحقائِقِ الإحسانِ، وصدَّقَتْه الأخلاقُ الجميلةُ، والأعمالُ الصَّالحةُ الجليلةُ) [652] يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 28). .
والتقصيرُ في هذه المراتِبِ أمرٌ مُتفاوِتٌ؛ فمنه ما هو كُفرٌ مخرِجٌ من الملَّةِ ينافي أصلَ الإيمانِ، ومنه ما هو كفرٌ أصغَرُ، وكبيرةٌ وفِسقٌ يُنافي كمالَ الإيمانِ الواجِبِ.
وأمَّا الإيمانُ المستحَبُّ: فلا يُعتَبَرُ التقصيرُ فيه إثمًا؛ فإنَّ اللهَ تعالى لم يوجِبْه على عبادِه، ولكِنْ رَغَّبهم فيه ليصِلوا إلى أعلى دَرَجاتِ الكَمالِ في الإيمانِ.
 قال ابنُ تيميَّةَ عن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: (لا يَسلُبون الفاسِقَ الملِّي اسمَ الإيمانِ بالكُليَّةِ، ولا يخَلِّدونَه في النَّارِ، كما تقولُه المعتَزِلةُ، بل الفاسِقُ يدخُلُ في اسمِ الإيمانِ في مِثلِ قَولِه تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [النساء: 92] ، وقد لا يدخُلُ في اسمِ الإيمانِ المطلَقِ، كما في قَولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ، وقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يزني الزَّاني حينَ يَزْني وهو مؤمِنٌ، ولا يَسرِقُ السَّارِقُ حين يَسرِقُ وهو مؤمِنٌ، ولا يَشرَبُ الخَمْرَ حينَ يَشرَبُها وهو مؤمِنٌ، ولا ينتَهِبُ نُهبةً ذاتَ شَرَفٍ يرفَعُ النَّاسُ إليه فيها بأبصارِهم حينَ يَنتَهِبُها وهو مؤمِنٌ )) [653] أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) باختلاف يسير من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ويقولون: هو مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ، أو مُؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه، فلا يُعطى الاسمَ المطلَقَ، ولا يُسلَبُ مُطلَقَ الاسمِ) [654] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) (ص: 114). .

انظر أيضا: