الموسوعة العقدية

المبحثُ الخامِسُ: من أوجُهِ زيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه: أنَّ أعمالَ القُلوبِ يتفاضَلُ النَّاسُ فيها تفاضُلًا عظيمًا

أعمالُ القُلوبِ؛ كالمحَبَّةِ والخَشْيةِ، والخُشوعِ والذُّلِّ، والإنابةِ والتوكُّلِ، والحياءِ والرَّغبةِ والرَّهبةِ، والخَوفِ والرَّجاءِ، وغَيْرِها: هي جميعُها من أعمالِ الإيمانِ، كما دَلَّ على ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ واتفاقُ سَلَفِ الأمَّةِ [385] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/235). .
 قال ابنُ تيميَّةَ: (الذي مضى عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأئِمَّتُها أنَّ نَفْسَ الإيمانِ الذي في القُلوبِ يتفاضَلُ) [386] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/479). .
وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (أمَّا كونُ الذي في القَلْبِ والذي في الجوارحِ يَزيدُ ويَنقُصُ، فذاك شيءٌ معلومٌ، والسَّلَفُ يخافون على الإنسانِ إذا كان ضعيفَ الإيمانِ من النِّفاقَ أو سَلْبِ الإيمانِ كُلِّه) [387] يُنظر: ((الدرر السنية)) (1/187). .
ومِثالُ ذلك: المَحَبَّةُ:
فالناسُ مُتفاوِتون فيها؛ ما بين أفضَلِ الخَلْقِ محمَّدٍ وإبراهيمَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهما خليلا اللهِ، وأشَدُّ النَّاسِ محبَّةً له، إلى أدنى النَّاسِ دَرَجةً في الإيمانِ، كمَن في قَلْبِه مثقالُ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ، وما بين هذينِ الحَدَّينِ مِن الدَّرَجاتِ.
والتفاضُلُ في المحبَّةِ أمرٌ يَعلَمُه كُلُّ إنسانٍ مِن نَفْسِه بحسَبِ الحُبِّ الذي قام في قَلْبِه لأيِّ محبوبٍ كان، سواءٌ كان حُبًّا لوَلَدِه أو لامرأتِه أو لرياستِه أو لصديقِه، أو غيرِ ذلك؛ فإنَّ حُبَّه لهذه الأشياءِ على دَرَجاتٍ، بل قد يحِبُّ الشَّيءَ الواحِدَ بدَرَجاتٍ مختَلِفةٍ، فيُحِبُّه أكثَرَ في وَقتٍ دونَ آخَرَ، فإذا كان هذا تفاضُلَ النَّاسِ في حُبِّ هذه الأشياءِ مِن محبوباتِهم، فتفاضُلُهم في حُبِّ اللهِ أعظَمُ [388] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/563). .
ومِن الأدِلَّةِ القُرآنيَّةِ على تفاضُلِ النَّاسِ في شَأنِ المَحَبَّةِ:
- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة: 165] .
- وقَولُ اللهِ سُبحانَه: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24] .
ففي قَولِه: أَشَدُّ حُبًّا في الآيةِ الأُولى، وقَولِه: أَحَبَّ في الآيةِ الثَّانيةِ: أصرَحُ دَلالةٍ على تفاضُلِ النَّاسِ في المحبَّةِ؛ لاستخدامِ أفعَلِ التفضيلِ فيهما.
ومِن الأدِلَّةِ النبَويَّةِ على تفاضُلِ النَّاسِ في المَحَبَّةِ:
1- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وَجَد حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحِبَّ المرءَ لا يحِبُّه إلَّا للهِ، وأن يَكرَهَ أن يعودَ في الكُفرِ كما يَكرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ )) [389] أخرجه البخاري (16) واللَّفظُ له، ومسلم (43) من حديثِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أجمعينَ )) [390] أخرجه البخاري (15) واللَّفظُ له، ومسلم (44) من حديثِ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ هِشامٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كُنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فقال له عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ لأنت أحَبُّ إليَّ من كُلِّ شيءٍ إلَّا من نفسي، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا والذي نفسي بيَدِه، حتى أكونَ أحَبَّ إليك مِن نَفْسِك )). فقال له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللهِ لأنت أحَبُّ إليَّ مِن نفسي. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الآنَ يا عُمَر ُ)) [391] أخرجه البخاري (6632). .
فهذه الأحاديثُ فيها دَلالةٌ واضِحةٌ وصَريحةٌ على تفاضُلِ النَّاسِ في المحبَّةِ؛ فقد ذُكِر فيه كَلِمةُ (أحَبَّ) الدَّالَّةُ على التفاضُلِ تصريحًا، فمن أنكَرَ ذلك وقال بخِلافِه، فقد خالف الكِتابَ والسُّنَّةَ، وخالف اللُّغةَ والعَقْلَ والحِسَّ كذلك.

انظر أيضا: