الموسوعة العقدية

المَبحثُ الثَّاني: أصولٌ مِن كلامِ أئمَّةِ أهل السُّنَّةِ في حقيقةِ الإيمانِ

الأصلُ الأوَّلُ: أنَّ تَرْكَ الفَرائِضِ ليس بمَنزلةِ رُكوبِ المَحارِمِ
قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: (المرجِئةُ أوجَبوا الجنَّةَ لِمن شَهِد أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ مُصِرًّا بقَلْبِه على تركِ الفرائِضِ، وسَمَّوا تَرْكَ الفرائِضِ ذَنبًا بمنزلةِ ركوبِ المحارمِ! وليس بسواءٍ؛ لأنَّ ركوبَ المحارمِ مِن غيرِ استحلالٍ: مَعِصيةٌ، وتَرْكَ الفرائِضِ متعَمِّدًا من غيرِ جَهلٍ ولا عُذرٍ: هو كُفرٌ [237] المقصودُ: تَركُ الفرائِضِ والعَمَلِ بالكُلِّيَّةِ، أي: تَرْكُ جِنسِ العَمَلِ (جِنسِ الامتثالِ للأوامِرِ والاجتنابِ للنَّواهي) لا تَرْكُ أفرادِ العَمَلِ وجُزئِه، وهذا مِن كُفرِ التوَلِّي والإعراضِ، أمَّا تَرْكُ مباني الإسلامِ الأربعةِ بعد الشَّهادتين: الصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصِّيامِ، والحَجِّ؛ ففيه الخلافُ المعروفُ. ، وبيانُ ذلك في أمرِ آدَمَ صَلَواتُ اللهِ عليه، وإبليسَ وعُلَماءِ اليهودِ؛ أمَّا آدَمُ فنهاه اللهُ عزَّ وجَلَّ عن أكلِ الشَّجَرةِ وحَرَّمها عليه، فأكَلَ منها متعَمِّدًا؛ ليكونَ مَلَكًا أو يكونَ مِن الخالدينِ، فسُمِّيَ عاصيًا من غيرِ كُفرٍ، وأمَّا إبليسُ -لعنه اللهُ- فإنَّه فُرِضَ عليه سَجدةٌ واحدةٌ، فجَحَدها متعَمِّدًا؛ فسُمِّيَ كافرًا، وأمَّا عُلَماءُ اليهودِ فعَرَفوا نَعْتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه نبيٌّ رَسولٌ، كما يعرِفون أبناءَهم، وأقَرُّوا به باللِّسانِ، ولم يَتَّبِعوا شريعَتَه؛ فسَمَّاهم اللهُ عزَّ وجَلَّ كُفَّارًا، فركوبُ المحارِم مِثلُ ذَنبِ آدَمَ عليه السَّلامُ وغيرِه من الأنبياءِ، وأمَّا تَركُ الفرائِضِ جُحودًا فهو كُفرٌ مثِلُ كُفرِ إبليسَ لعنه الله، وترْكُها على معرفةٍ من غيرِ جُحودٍ، فهو كُفرٌ، مِثلُ كُفرِ عُلَماءِ اليَهودِ. واللهُ أعلَمُ) [238] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/347). .
الأصلُ الثَّاني: إجماعُ أهلِ السُّنَّةِ على عَدَمِ التَّكفيرِ بالذَّنبِ إنَّما يرادُ به فِعلُ المعاصي لا تَرْكُ مباني الإسلامِ
قال ابنُ تيميَّةَ: (نحنُ إذا قُلْنا: أهلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقون على أنَّه لا يُكَفَّرُ بالذَّنبِ، فإنَّما نُريدُ به المعاصِيَ: كالزِّنا والشُّربِ، وأمَّا هذه المباني ففي تكفيرِ تارِكِها نزاعٌ مَشهورٌ، وعن أحمَدَ في ذلك نزاعٌ، وإحدى الرِّواياتِ عنه: أنَّه يَكفُرُ مَن تَرَك واحدةً منها، وهو اختيارُ أبي بكرٍ وطائفةٍ من أصحابِ مالِكٍ، كابنِ حَبيبٍ.
وعنه روايةٌ ثانيةٌ: لا يَكفُرُ إلَّا بتَرْكِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ فقط.
وروايةٌ ثالثةٌ: لا يَكفُرُ إلَّا بتَرْكِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ إذا قاتل الإمامُ عليها.
ورابعةٌ: لا يَكفُرُ إلَّا بتَرْكِ الصَّلاةِ.
وخامِسةٌ: لا يَكفُرُ بتَرْكِ شَيءٍ مِنهنَّ.
وهذه أقوالٌ معروفةٌ للسَّلَفِ.
قال الحَكَمُ بنُ عُتَيبةَ: من تَرَك الصَّلاةَ متعَمِّدًا فقد كَفَر، ومن ترك الزكاةَ متعَمِّدًا فقد كَفَر، ومن ترك الحَجَّ متعَمِّدًا فقد كَفَر، ومن ترك صومَ رَمضانَ متعمِّدًا فقد كفر.
وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: من ترك الصَّلاةَ متعَمِّدًا فقد كفر باللهِ، ومن ترك الزكاةَ متعمِّدًا فقد كفر باللهِ، ومن تَرَك صومَ رَمَضانَ متعمِّدًا فقد كفر باللهِ.
وقال الضَّحَّاكُ: لا تُرفَعُ الصَّلاةُ إلَّا بالزكاةِ.
وقال عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ: من أقام الصَّلاةَ ولم يؤتِ الزكاةَ فلا صلاةَ له. رواهُنَّ أسدُ بنُ موسى.
وقال عبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو: من شَرِبَ الخَمْرَ ممسيًا أصبح مُشرِكًا، ومن شَرِبَه مُصبحًا أمسى مُشرِكًا، فقيل لإبراهيمَ النَّخعيِّ: كيف ذلك؟ قال: لأنَّه يتركُ الصَّلاةَ) [239] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/302). .
 قال ابنُ رَجَبٍ: (قال ابنُ مسعودٍ: مَن لم يُزَكِّ فلا صلاةَ له. ونَفيُ القَبولِ هنا لا يرادُ به نَفْيُ الصِّحَّةِ، ولا وجوبُ الإعادةِ بتَرْكِه، وإنما يرادُ بذلك انتفاءُ الرِّضا به، ومَدْحِ عامِلِه، والثَّناءِ بذلك عليه في الملأِ الأعلى، والمباهاةِ به للملائِكةِ، فمن قام بهذه الأركانِ على وَجْهِها حصل له القَبولُ بهذا المعنى، ومن قام ببَعْضِها دونَ بَعضٍ لم يحصُلْ له ذلك، وإن كان لا يعاقَبُ على ما أتى به منها عقوبةَ تارِكِه، بل تبرَأُ به ذِمَّتُه، وقد يُثابُ عليه أيضًا.
ومن هاهنا يُعلَمُ أنَّ ارتكابَ بَعضِ المحَرَّماتِ التي يَنقُصُ بها الإيمانُ تكونُ مانعةً مِن قَبولِ بعضِ الطَّاعاتِ، ولو كان من بعضِ أركانِ الإسلامِ بهذا المعنى الذي ذكَرْناه، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من شَرِبَ الخَمْرَ لم يَقبَلِ اللهُ له صلاةً أربعينَ يومًا ))  [240]أخرجه من طُرُقٍ: النسائي (5664)، وأحمد (6854) باختلافٍ يسيرٍ، وابن ماجه (3377) مطوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (5357)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (5664)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (769)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6854). ، وقال: ((من أتى عَرَّافًا فصَدَّقه بما يقولُ، لم تُقبَلْ له صلاةٌ أربعين يومًا )) [241] أخرجه مسلم (2230) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ بعضِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ، وقال: ((أيُّما عَبدٍ أَبِقَ مِن مَواليه، لم تُقبَلْ له صلاةٌ )) [242] أخرجه مسلم (70) باختلافٍ يسيرٍ مِن حديثِ جَريرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. [243] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/150). .
 وقال ابنُ عثيمين: (لو قائِلٌ قال: إذا ترك الإنسانُ واحِدًا من هذه الأركانِ هل يَكفُرُ أم لا؟
فالجوابُ: أن نقولَ: إذا لم يشهَدْ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ فهو كافِرٌ بالإجماعِ، ولا خِلافَ في هذا. وأمَّا إذا ترك الصَّلاةَ والزكاةَ والصِّيامَ والحَجَّ أو واحِدًا منها، ففي ذلك خِلافٌ؛ فعن الإمامِ أحمدَ رحمه الله روايةٌ: أنَّ من ترك واحِدًا منها فهو كافِرٌ، يعني: من لم يُصَلِّ فهو كافرٌ، ومن لم يُزَكِّ فهو كافِرٌ، ومن لم يَصُمْ فهو كافِرٌ، ومن لم يحُجَّ فهو كافرٌ. لكِنْ هذه الروايةُ من حيثُ الدَّليلُ ضعيفةٌ. والصَّوابُ: أنَّ هذه الأربعةَ لا يَكفُرُ تاركُها إلَّا الصَّلاةَ؛ لقولِ عبدِ اللهِ بنِ شقيقٍ رحمه الله: كان أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَرَون شيئًا من الأعمالِ تَرْكُه كُفرٌ إلَّا الصَّلاةَ؛ ولذلك أدِلَّةٌ معروفةٌ. وكذا لو أنكَرَ وجوبَها وهو يفعَلُها فإنَّه يَكفُرُ؛ لأنَّ وُجوبَها أمرٌ معلومٌ بالضَّرورةِ من دينِ الإسلامِ) [244] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 58). .
الأصلُ الثَّالثُ: في بيانِ الفَرقِ بين تَرْكِ الصَّلاةِ وتَرْكِ العَمَلِ بالكُلِّيَّةِ
يخلِطُ بعضُ النَّاسِ بين مسألةِ تَرْكِ الصَّلاةِ، ومسألةِ تَرْكِ العَمَلِ الصَّالحِ من حيثُ الجملةُ، فلم يميِّزْ بينهما؛ إمَّا لدُخولِ الشُّبهةِ عليه، وإمَّا للتشغيبِ على مُخالِفِه.
فهناك فُروقٌ بين المسألتينِ، وبيانُ ذلك فيما يلي:
أوَّلًا: شِعارُ المُسلمين الصَّلاةُ:
فلذا يُقال: اختلف أهلُ الصَّلاةِ، واختلف أهلُ القِبلةِ، والمصَنِّفون لمقالات المُسلِمين يقولون: مقالاتُ الإسلاميِّين، واختلافُ المصَلِّين.
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من صَلَّى صلاتَنا واستقبَلَ قِبْلَتَنا وأكَلَ ذَبيحَتَنا، فذلك المسلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللهِ وذِمَّةُ رَسولِه؛ فلا تُخْفِروا اللهَ في ذِمَّتِه )) [245] أخرجه البخاري (391) باختلافٍ يسيرٍ. . وأمثالُ هذه النُّصوص ِكثيرةٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ [246] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/613). .
ثانيًا: إجماعُ الصَّحابةِ على تكفيرِ تارِكِ الصَّلاةِ
قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه بعد أن أفاق مِن طَعْنَتِه: (لا حَظَّ في الإسلامِ لِمن تركَ الصَّلاةَ) [247] أخرجه مالك في (1/39)، والبيهقي (1741). صحَّح إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (1/225) وقال: على شرطِ الشيخينِ، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (330)، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (2/408): له شاهِدٌ. .
قاله بمحضَرٍ مِن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولم يُنكِروه عليه.
وقال ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (من تَرَك الصَّلاةَ فلا دينَ له) [248] أخرجه محمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (935). حَسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب )) (574). .
وقال أبو الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه: (لا إيمانَ لِمن لا صلاةَ له) [249] أخرجه محمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (945)، واللالكائي (1536). صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب )) (574). .
وقد حكى جماعةٌ من أهلِ العِلمِ إجماعَ الصَّحابةِ على تكفيرِ تاركِ الصَّلاةِ:
قال مجاهِدٌ: قلتُ لجابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ما كان يفْرُقُ بين الكُفرِ والإيمانِ عِندَكم من الأعمالِ في عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: (الصَّلاةُ) [250] أخرجه محمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (892)، والخَلَّال في ((السنة)) (1379)، واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (1538). .
وقال عبدُ اللهِ بنُ شَقيقٍ: (لم يكن أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرَونَ شيئًا من الأعمالِ تَرْكُه كُفرٌ غيرَ الصَّلاةِ) [251] أخرجه الترمذي (2622)، وابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (137)، ومحمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (948). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2622)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/245)، والعراقي في ((طرح التثريب)) (2/146)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/819)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (8/16)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (9/79). .
وقال الحَسَنُ البَصريُّ: (بلغني أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا يقولون: بين العبدِ وبين أن يُشرِكَ فيَكفُرَ أن يَدَعَ الصَّلاةَ مِن غيرِ عُذرٍ) [252] أخرجه الخَلَّال في ((السنة)) (1372)، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (877)، واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (1539). .
وقال أيُّوبُ السَّختيانيُّ: (تَرْكُ الصَّلاةِ كُفرٌ لا يُختَلَفُ فيه) [253] أخرجه محمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (978). .
وقال محمَّدُ بنُ نَصرٍ المَرْوزيُّ: (ذكَرْنا الأخبارَ المرويَّةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إكفارِ تارِكِها، وإخراجِه إيَّاه من المِلَّةِ، وإباحةِ قَتْلِ من امتَنَع من إقامَتِها، ثم جاءنا عن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم مِثلُ ذلك، ولم يجِئْنا عن أحدٍ منهم خِلافُ ذلك، ثم اختلف أهلُ العِلمِ بعد ذلك في تأويلِ ما رُوِيَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ عن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم في إكفارِ تاركِها، وإيجابِ القَتْلِ على من امتَنَع من إقامتِها) [254] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/925). .
فالخِلافُ في كُفرِ تارِكِ الصَّلاةِ بالكُلِّيَّةِ حادِثٌ بعد الصَّحابةِ، ولا خِلافَ بين أهلِ السُّنَّةِ أنَّ الإيمانَ اعتِقادٌ وقَولٌ وعَمَلٌ، وأنَّ من لم يأتِ بهذه الثَّلاثةِ فليس مُؤمِنًا.
قال إسحاقُ بنُ راهَوَيه: (غَلَت المُرجِئةُ حتى صار من قَولِهم أنَّ قومًا يقولون: من تَرَك الصَّلَواتِ المكتوباتِ، وصَوْمَ رَمَضانَ، والزكاةَ والحَجَّ وعامَّةَ الفرائِضِ، من غَيرِ جُحودٍ لها؛ إنَّا لا نُكَفِّرُه، يُرجَأُ أمرُه إلى اللهِ بَعْدُ؛ إذ هو مُقِرٌّ، فهؤلاء الذين لا شَكَّ فيهم، يعني: في أنَّهم مُرجِئةٌ) [255] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/21). .
وممَّا تقَدَّم يُعلَمُ أمران:
الأوَّلُ: أنَّ القولين متَّفقان على تكفيرِ تاركِ جِنسِ العمَلِ؛ لأنَّ هذا الأمرَ مبنيٌّ على تعريفِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ للإيمانِ، وأنَّه قَولٌ وعَمَلٌ.
الثَّاني: أنَّهما يفتَرِقانِ في تحديدِ العَمَلِ الذي يَكفُرُ به تاركُه؛ فأصحابُ القَولِ الأوَّلِ يَرَون أنَّه عَمَلٌ مخصوصٌ، وهو الصَّلاةُ، ومِن ثَمَّ فتارِكُ الصَّلاةِ عندهم كافِرٌ، ولو أتى بسائِرِ الأعمالِ.
وأمَّا أصحابُ القَولِ الثَّاني فلا يَكفُرُ عِندَهم تاركُ الصَّلاةِ ما دام يقومُ ببعضِ الأعمالِ.
وهذا الأمرُ -وهو تحديدُ العَمَلِ الذي يَكفُرُ به تاركُه- مبناه على النُّصوصِ الدَّالَّةِ على كُفرِ تارِكِ الصَّلاةِ وعَدَمِه، وهو محَلُّ خِلافٍ، كما تقَدَّم بيانُه.
 قال ابنُ تيميَّةَ -مُبَيِّنًا ما بين الأمرينِ من ارتباطٍ-: (فإنَّ الإيمانَ عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: قَولٌ وعمَلٌ، كما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، وأجمع عليه السَّلَفُ، وعلى ما هو مُقَرَّرٌ في مَوضِعِه.
فالقَولُ: تصديقُ الرَّسولِ.
والعَمَلُ: تصديقُ القَولِ، فإذا خلا العبدُ عن العَمَلِ بالكُلِّيَّةِ لم يكُنْ مُؤمنًا.
والقَولُ الذي يصيرُ به مؤمنًا قَولٌ مخصوصٌ، وهو الشَّهادتانِ؛ فكذلك العَمَلُ هو الصَّلاةُ) [256] يُنظر: ((شرح العمدة – كتاب الصلاة)) (ص: 86). .
 وسُئِلَ ابنُ باز عن الأعمالِ: أهي شَرطُ صِحَّةٍ أم شَرطُ كَمالٍ؟
فقال: (مِن الأعمالِ شَرطُ صِحَّةٍ للإيمانِ لا يَصِحُّ الإيمانُ إلَّا بها، كالصَّلاةِ، فمن تركَها فقد كَفَر، ومنها ما هو شَرطُ كَمالٍ يَصِحُّ الإيمانُ بدُونِها، مع عصيانِ تاركِها وإثمِه).
فقال السَّائِلُ: من لم يُكَفِّرْ تارِكَ الصَّلاةِ مِن السَّلَفِ، أيكونُ العَمَلُ عنده شَرطُ كَمالٍ أم شَرطُ صِحَّةٍ؟
فقال: (لا، بل العَمَلُ عند الجميعِ شَرطُ صِحَّةٍ، إلَّا أنَّهم اختلفوا فيما يصِحُّ الإيمانُ به منه؛ فقالت جماعةٌ: إنَّه الصَّلاةُ، وعليه إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، كما حكاه ابنُ شَقيقٍ، وقال آخَرونَ بغَيرِها، إلَّا أنَّ جِنسَ العَمَلِ لا بدَّ منه لصِحَّةِ الإيمانِ عند السَّلَفِ جميعًا؛ لهذا الإيمانُ عندهم قَولٌ وعَمَلٌ واعتِقادٌ، لا يصِحُّ إلَّا بها مجتَمِعةً) [257] يُنظر: ((الإيمان عند السلف)) لمحمد آل خضير (2/232)، وهو منقولٌ عن جريدة الرياض، العدد 12506، بتاريخ 13 / 7 /1423هـ. .
وقال صالح آل الشَّيخِ: (ينبغي أن يُعلَمَ هنا أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يقولون: لا نُكَفِّرُ بذنبٍ، ويقصِدون بذلك لا يُكَفِّرون بعمَلِ المعاصي، أمَّا مباني الإسلامِ العِظامُ التي هي الصَّلاةُ والزكاةُ والصِّيامُ والحَجُّ، ففي تكفيرِ تاركِها والعاصي بتركِها خِلافٌ مشهورٌ عندهم، فقَولُهم: إنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ يقولون: لا نُكَفِّرُ بذَنبٍ ما لم يستحِلَّه بإجماعٍ. يعني: المعصيةَ، أمَّا المباني العِظامُ فإنَّ التكفيرَ عندهم الخِلافُ فيه مشهورٌ؛ منهم من يُكَفِّرُ بتركِ مباني الإسلامِ العِظامِ أو أحَدِ تلك المباني، ومنهم من لا يُكَفِّرُ. كذلك ينبغي أن يُعلَمَ أنَّ قَولَنا: العَمَلُ داخِلٌ في مُسَمَّى الإيمانِ وركنٌ فيه لا يقومُ الإيمانُ إلَّا به، نعني به جِنسَ العَمَلِ، وليس أفرادَ العَمَلِ؛ لأنَّ المؤمِنَ قد يترُكُ أعمالًا كثيرةً صالحةً مفروضةً عليه، ويبقى مؤمِنًا، لكِنَّه لا يسَمَّى مؤمِنًا، ولا يصِحُّ منه إيمانٌ إذا ترك كُلَّ العَمَلِ، يعني: إذا أتى بالشَّهادتينِ وقال: أقولُ ذلك، وأعتَقِدُه بقلبي، وأترُكُ كُلَّ الأعمالِ، بعد ذلك أكونُ مؤمِنًا؟ فالجوابُ: أنَّ هذا ليس بمؤمِنٍ؛ لأنَّه تركٌ مُسقِطٌ لأصلِ الإيمانِ، يعني: تَرْكُ جنسِ العَمَلِ مُسقِطٌ للإيمانِ، فلا يوجَدُ مؤمِنٌ عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يصِحُّ إيمانُه إلَّا ولا بُدَّ أن يكونَ معه مع الشَّهادتين جِنسُ العَمَلِ الصَّالح، يعني: جِنسَ الامتثالِ للأوامِرِ، والاجتِنابِ للنَّواهي) [258] يُنظر: ((شرح لمعة الاعتقاد)) (ص: 111). .
الأصلُ الرَّابِعُ: دَرَجاتُ الإيمانِ
المؤمِنون متفاوِتون في مراتِبِ إيمانِهم؛ فمنهم من معه أصلُ الإيمانِ، أي: الحَدُّ الأدنى منه، ومنهم من بلَغَ دَرَجاتِ الكَمالِ الواجِبِ، ومنهم مَن بَلَغ دَرَجاتِ الكَمالِ المستحَبِّ.
قال اللهُ سُبحانَه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] .
قال البَغَويُّ في تفسيرِ هذه الآيةِ: (فيه دليلٌ على أنَّه ليس لكُلِّ أحَدٍ أن يصِفَ نفسَه بكونِه مُؤمِنًا حَقًّا؛ لأنَّ اللهَ تعالى إنَّما وَصَف بذلك قومًا مخصوصين على أوصافٍ مخصوصةٍ، وكُلُّ أحَدٍ لا يتحَقَّقُ وجودُ تلك الأوصافِ فيه) [259] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 268). .
وقال السعديُّ: (لَمَّا كان الإيمانُ قِسمَينِ: إيمانًا كاملًا يترتَّبُ عليه المدحُ والثَّناءُ، والفوزُ التَّامُّ، وإيمانًا دونَ ذلك؛ ذكَرَ الإيمانَ الكامِلَ فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الألِفُ واللَّامُ للاستغراقِ لشَرائِعِ الإيمانِ. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي: خافت ورَهِبَت، فأوجبت لهم خشيةُ اللهِ تعالى الانكفافَ عن المحارمِ؛ فإنَّ خَوفَ الله تعالى أكبَرُ علاماتِه أن يَحجُزَ صاحِبَه عن الذُّنوبِ. وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ووَجْهُ ذلك أنَّهم يُلقُون له السَّمعَ ويُحضِرون قُلوبَهم لتدَبُّرِه، فعند ذلك يزيدُ إيمانُهم؛ لأنَّ التدَبُّرَ من أعمالِ القُلوبِ، ولأنَّه لا بُدَّ أن يَبِينَ لهم معنًى كانوا يجهَلونَه، أو يتذكَّرون ما كانوا نَسُوه، أو يُحدِثَ في قُلوبِهم رَغبةً في الخيرِ، واشتياقًا إلى كرامةِ رَبِّهم، أو وجَلًا من العُقوباتِ، وازدِجارًا عن المعاصي، وكُلُّ هذا ممَّا يزدادُ به الإيمانُ. وَعَلَى رَبِّهِمْ وَحْدَه لا شريكَ له يَتَوَكَّلُونَ أي: يعتَمِدون في قلوبِهم على رَبِّهم في جَلْبِ مَصالحِهم ودَفعِ مَضارِّهم الدينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، ويَثِقون بأنَّ اللهَ تعالى سيفعَلُ ذلك.
والتوكُّلُ هو الحامِلُ للأعمالِ كُلِّها، فلا تُوجَدُ ولا تَكمُلُ إلَّا به. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ من فرائِضَ ونوافِلَ، بأعمالِها الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، كحُضورِ القَلْبِ فيها، الذي هو روحُ الصَّلاةِ ولُبُّها. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ النَّفَقاتِ الواجِبةَ، كالزَّكواتِ، والكَفَّاراتِ، والنَّفَقةِ على الزَّوجاتِ والأقارِبِ، وما ملَكَت أيمانُهم... والمستحبَّةَ، كالصَّدَقةِ في جميعِ طُرُقِ الخيرِ. أُولَئِكَ الذين اتَّصَفوا بتلك الصِّفاتِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا؛ لأنَّهم جمعوا بين الإسلامِ والإيمانِ، بين الأعمالِ الباطِنةِ والأعمالِ الظَّاهرةِ، بين العِلمِ والعَمَلِ، بين أداءِ حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ عِبادِه. وقَدَّم تعالى أعمالَ القُلوبِ؛ لأنَّها أصلٌ لأعمالِ الجوارحِ وأفضَلُ منها، وفيها دليلٌ على أنَّ الإيمانَ يزيدُ ويَنقُصُ، فيَزيدُ بفِعلِ الطَّاعةِ ويَنقُصُ بضِدِّها، وأنَّه ينبغي للعَبدِ أن يتعاهَدَ إيمانَه ويُنَمِّيَه، وأنَّ أَولى ما يحصُلُ به ذلك تدَبُّرُ كتابِ اللهِ تعالى والتأمُّلُ لمعانيه. ثمَّ ذَكَر ثوابَ المؤمنين حَقًّا فقال: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: عاليةٌ بحسَبِ عُلُوِّ أعمالِهم. وَمَغْفِرَةٌ لذُنوبِهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعَدَّ اللهُ لهم في دارِ كرامتِه، ممَّا لا عينٌ رأت، ولا أذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ. ودَلَّ هذا على أنَّ من يَصِلُ إلى درجَتِهم في الإيمانِ -وإن دخَلَ الجنَّةَ- فلن ينالَ ما نالوا من كرامةِ اللهِ التَّامَّةِ) [260] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 315). .
الأصلُ الخامِسُ: الإرادةُ الجازِمةُ للفِعلِ مع القُدرةِ التَّامَّةِ توجِبُ فِعلَ المُرادِ [261] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيميَّةَ (6/489). .
 قال ابنُ تيميَّةَ: (الإرادةُ الجازِمةُ مع القُدرةِ تستلزِمُ وجودَ المرادِ ووُجودَ المقدورِ عليه منه، فالعَبدُ إذا كان مُرِيدًا للصَّلاةِ إرادةً جازِمةً مع قُدرتِه عليها صَلَّى، فإذا لم يُصَلِّ مع القُدرةِ دَلَّ ذلك على ضَعفِ الإرادةِ.
وبهذا يزولُ الاشتباهُ في هذا المقامِ؛ فإنَّ النَّاسَ تنازعوا في الإرادةِ بلا عمَلٍ، هل يحصُلُ بها عقابٌ؟ وكَثُر النزاعُ في ذلك، ... والفصلُ في ذلك أن يقالَ: فرقٌ بين الهَمِّ والإرادةِ؛ فالهَمُّ قد لا يقتَرِنُ به شيءٌ من الأعمالِ الظَّاهرةِ، فهذا لا عقوبةَ فيه بحالٍ، ... وأمَّا الإرادةُ الجازمةُ فلا بُدَّ أن يقتَرِنَ بها مع القُدرةِ فِعلُ المقدور،ِ ولو بنَظرةٍ أو حَرَكةِ رأسٍ، أو لفظةٍ أو خُطوةٍ أو تحريكِ بَدَنٍ) [262] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/525-527). .
وقال أيضًا: (أمَّا إذا قُرِن الإيمانُ بالإسلامِ، فإنَّ الإيمانَ في القَلْبِ، والإسلامَ ظاهِرٌ،… ((الإيمانُ: أن تؤمِنَ باللهِ وملائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه والبَعثِ بعد الموتِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه )) [263] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (10) مطوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ومتى حَصَل له هذا الإيمانُ وجب ضرورةً أن يحصُلَ له الإسلامُ الذي هو الشَّهادتانِ والصَّلاةُ والزكاةُ والصِّيامُ والحَجُّ؛ لأنَّ إيمانَه باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه يقتضي الاستسلامَ للهِ والانقيادَ له، وإلَّا فمن الممتَنِعِ أن يكونَ قد حصل له الإقرارُ والحُبُّ والانقيادُ باطنًا، ولا يحصُلُ ذلك في الظَّاهِرِ مع القُدرةِ عليه، كما يمتَنِعُ وجودُ الإرادةِ الجازمةِ مع القُدرةِ بدونِ وُجودِ المرادِ) [264] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/553). .    

انظر أيضا: