الموسوعة العقدية

المَبحثُ الأوَّلُ: تعريفُ الإيمانِ لُغةً

الإيمانُ لُغةً:
الإيمانُ لغةً: التصديقُ، وهو (إفعالٌ) من الأمْنِ الذي هو الإقرارُ والطُّمَأنينةُ، وذلك إنما يحصُلُ إذا استقرَّ في القَلْبِ التصديقُ والانقيادُ، وأصل (أمن): يدُلُّ على التصديقِ [1] يُنظَر: ((العين)) للخليل (8/ 389)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/ 368)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/ 133)، ((المخصص)) لابن سيده (4/ 54)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 69)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 22)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (3/967)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 40). .
قال الرَّاغِبُ: (أصلُ الأَمْنِ طُمأنينةُ النَّفسِ وزوالُ الخَوفِ) [2] يُنظر: ((المفردات)) (ص: 90). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (اشتقاقُه من الأمنِ الذي هو القَرارُ والطُّمَأنينةُ، وذلك إنما يحصُلُ إذا استقرَّ في القَلْبِ التصديقُ والانقيادُ) [3] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/967). .
وله في اللُّغةِ استِعمالانِ:
الاستِعمالُ الأوَّلُ: أن يتعدَّى بنَفْسِه، فيكونُ معناه التأمينَ، أي: إعطاءَ الأمانِ، وآمَنْتُه ضِدُّ أخَفْتُه.
قال اللهُ تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [قريش: 4] .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ )) [4] أخرجه مسلم (2531) مطولاً. .
 قال ابنُ الأثيرِ: (الأَمَنةُ في هذا الحَديثِ جمعُ أَمينٍ، وهو الحافِظُ) [5] يُنظر: ((النهاية)) (1/71). .
الاستِعمالُ الثَّاني: أن يتعدَّى بالباءِ أو اللَّامِ، فيكونُ معناه التصديقَ (ومع التصديق ِمعانٍ أُخرى، كالأمْنِ والطُّمَأنينةِ أو الاستسلامِ أو الإقرارِ).
قال اللهُ تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] .
وقال اللهُ سُبحانَه حكايةً عن قَولِ إخوةِ يُوسُفَ لأبيهم يعقوبَ عليه السَّلامُ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] ، أي بمصَدِّقٍ لنا.
قال الأزهريُّ: (لم يختَلِفْ أهلُ التفسيرِ أنَّ معناه: وما أنت بمصَدِّقٍ لنا) [6] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) (15/369). .
قال الأزهريُّ: (إنَّما قلتُ: إنَّ المؤمِنَ معناه المصَدِّقُ؛ لأنَّ الإيمانَ مأخوذٌ مِن الأمانةِ؛ لأنَّ اللهَ جَلَّ وعَزَّ، تولى عِلْمَ السَّرائرِ ونِيَّاتِ العَقدِ، وجعل ذلك أمانةً ائتمَنَ كُلَّ مُسلِمٍ على تلك الأمانةِ، فمن صدَّقَ بقَلْبِه ما أظهرَهَ لسانُه فقد أدَّى الأمانةَ واستوجبَ كريمَ المآبِ إذا مات عليه، ومن كان قَلْبُه على خِلافِ ما أظهر بلسانِه فقد حَمَل وِزْرَ الخيانةِ، واللهُ حَسيبُه.
وقيل: المصَدِّقُ مؤمِنٌ، وقد آمن؛ لأنَّه دخل في حَدِّ الأمانةِ التي ائتَمَنه اللهُ عليها.
وكذلك سائِرُ الأعمالِ التي تظهَرُ مِن العبدِ وهو مُؤتمَنٌ عليها) [7] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) (12/ 313). .
وقال الرَّاغِبُ: (قال تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] قيل: معناه: بمصَدِّقٍ لنا، إلَّا أنَّ الإيمانَ هو التصديقُ الذي معه أمْنٌ) [8] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 91). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (أمَّا الإيمانُ في اللُّغةِ فيُطلَقُ على التصديقِ المحْضِ، وقد يُستعمَلُ في القرآنِ، والمرادُ به ذلك، كما قال تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] ، وكما قال إخوةُ يوسُفَ لأبيهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] ، وكذلك إذا استعمِلَ مقرونًا مع الأعمالِ، كقَولِه: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الانشقاق: 25، والتين: 6] ، فأمَّا إذا استُعمِلَ مُطلقًا فالإيمانُ الشَّرعيُّ المطلوبُ لا يكونُ إلَّا اعتقادًا وقَولًا وعَمَلًا) [9] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 165). .
وقال ابنُ عُثيمين: (الإيمانُ في اللُّغةِ بمعنى التصديقِ، لكِنَّه إذا قُرِنَ بالباءِ صار تصديقًا متضَمِّنًا للطُّمَأنينةِ والثَّباتِ والقَرارِ، فليس مجرَّدَ تصديقٍ، ولو كان تصديقًا مُطلقًا لكان يُقالُ: آمَنَه، أي: صَدَّقه، لكِنْ «آمن به» مُضَمَّنةٌ معنى الطُّمأنينةِ والاستقرارِ لهذا الشَّيءِ، وإذا عُدِّيَت باللَّامِ، مِثلُ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] فمعناه أنَّها تضَمَّنت معنى الاستسلامِ والانقيادِ) [10] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/ 275). .
واختار ابنُ تيميَّةَ معنى (الإقرار) للإيمانِ، باعتبارِ أنَّ لفظةَ (أقَرَّ) أصدَقُ في الدَّلالةِ والبيانِ على معنى الإيمانِ الشَّرعيِّ.
 قال ابنُ تيميَّةَ: (فكان تفسيرُه أي: الإيمانِ بلفظِ الإقرارِ أقرَبَ من تفسيرِه بلَفظِ التصديقِ، مع أنَّ بينهما فرقًا) [11] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/291). .
وقال أيضًا: (معلومٌ أنَّ الإيمانَ هو الإقرارُ لا مجرَّدُ التصديقِ، والإقرارُ ضِمنَ قَولِ القَلبِ الذي هو التصديقُ، وعمَلِ القَلبِ الذي هو الانقيادُ) [12] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/638). .
وقال أيضًا: (إنَّه أي: الإيمانَ ليس مُرادِفًا لِلَفظِ التصديقِ في المعنى؛ فإنَّ كُلَّ مُخبٍر عن مشاهَدةٍ أو غيبٍ يقالُ له في اللُّغةِ: صَدَقْتَ، كما يُقالُ: كَذَبْتَ؛ فمن قال: السَّماءُ فوقَنا، قيل له: صَدَق، كما يقالُ: كَذَب.
وأمَّا لَفظُ الإيمانِ فلا يُستعمَلُ إلَّا في الخبَرِ عن غائبٍ؛ لم يُوجَدْ في الكلامِ أنَّ من أخبر عن مُشاهدةٍ، كقَول: طَلَعت الشَّمسُ وغَرَبت؛ أنَّه يقال: آمَنَّاه، كما يُقالُ: صَدَّقناه.
ولهذا المحدِّثون والشُّهودُ ونحوُهم، يقال: صَدَّقْناهم، وما يقالُ: آمَنَّا لهم؛ فإن الإيمانَ مُشتَقٌّ من الأمنِ، فإنَّما يُستعمَلُ في خبرٍ يُؤتَمَنُ عليه المخبِرُ؛ كالأمرِ الغائِبِ الذي يؤتَمَنُ عليه المخبِرُ؛ ولهذا لم يوجَدْ قطُّ في القرآنِ وغيرِه لفظُ: آمَنَ له، إلَّا في هذا النَّوعِ) [13] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/291). .
وقال أيضًا: (إنَّ لفظَ الإيمانِ في اللُّغةِ لم يقابَلْ بالتكذيبِ كلفظ التصديقِ؛ فإنَّه من المعلومِ في اللُّغةِ أنَّ كُلَّ مخبِرٍ يقالُ له: صدَقْتَ، أو كذَبْتَ، ويقالُ: صَدَّقْناه، أو كَذَّبْناه، ولا يقالُ: لكلِّ مخبِرٍ: آمَنَّا له، أو كَذَّبْناه. ولا يقالُ: أنت مؤمِنٌ له، أو مُكَذِّبٌ له، بل المعروفُ في مُقابَلةِ الإيمانِ لفظُ الكُفرِ، يقالُ: هو مؤمِنٌ أو كافِرٌ، والكفرُ لا يختَصُّ بالتكذيبِ) [14] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/292). .
وقال ابنُ عثيمين: (أكثَرُ أهلِ العِلمِ يقولون: إنَّ الإيمانَ في اللغةِ: التصديقُ، ولكِنْ في هذا نَظرٌ؛ لأنَّ الكَلِمةَ إذا كانت بمعنى الكَلِمةِ فإنَّها تتعدَّى بتعَدِّيها، ومعلومٌ أنَّ التصديقَ يتعدَّى بنَفْسِه، والإيمانُ لا يتعدَّى بنَفْسِه؛ فنقول مثلًا: صَدَّقْتَه، ولا تقولُ: آمَنْتُه، بل تقولُ: آمَنْتُ به، أو آمَنْتُ له. فلا يمكِنُ أن نُفَسِّرَ فِعلًا لازمًا لا يتعدَّى إلَّا بحرفِ الجَرِّ بفِعلٍ متعَدٍّ ينصِبُ المفعولَ به بنَفْسِه، ثمَّ إنَّ كَلِمةَ «صَدَّقْتُ» لا تُعطي معنى كَلِمةُ «آمنتُ»؛ فإنَّ «آمنتُ» تدُلُّ على طُمأنينةِ بخَبَرِه أكثَرَ مِن «صَدَّقتُ»؛ ولهذا لو فُسِّرَ «الإيمانُ» بـ «الإقرار» لكان أجوَدَ؛ فنقولُ: الإيمانُ: الإقرارُ، ولا إقرارَ إلَّا بتصديقٍ، فتقولُ: أَقَرَّ به، كما تقول: آمَنَ به، وأقَرَّ له كما تقولُ: آمَنَ له) [15] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/229). .

انظر أيضا: