الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الرَّابعُ: مِن ثَمَراتِ الإيمانِ بالقَدَرِ: مُواجَهةُ الصِّعابِ والأخطارِ بقَلبٍ ثابتٍ

إذا آمن العبدُ بأنَّ كُلَّ ما يصيبُه مكتوبٌ، وآمَنَ أنَّ الأرزاقَ والآجالَ بيَدِ اللهِ؛ فإنَّه يقتَحِمُ الصِّعابَ والأهوالَ بقَلبٍ ثابتٍ وعزيمةٍ قَويَّةٍ، وقد كان هذا الإيمانُ من أعظَمِ ما دفع المجاهدين إلى الإقدامِ في ميدانِ النِّزالِ غيرَ هيَّابينَ ولا وَجِلين؛ لإيقانهم بأنَّ الآجالَ محَدَّدةٌ لا تتقَدَّمُ ولا تتأخَّرُ لحظةً واحِدةً.
ولما وُجد من المثَبِّطين من المنافقين وغيرِهم من يتخَلَّفُ عن الجهادِ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُدَّعيًا أنَّ السَّلامةَ في تخلُّفِه، ومتربصًا بالمؤمِنين الدوائِرَ، كان الرَّدُّ عليهم يأتي من اللهِ تعالى مبيِّنًا أنَّ المؤمنين يقومون بما أوجبه اللهُ عليهم طاعةً للهِ ورسولِه، وهم يعتَقِدون أنَّ كُلَّ ما يصيبُهم قد جرت به المقاديرُ.
قال اللهُ تعالى: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ [التوبة: 51-52] .
وقال اللهُ سُبحانَه: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154] .
وكان هذا الإيمانُ من أعظَمِ ما ثبَّت قلوبَ الصَّالحين في مواجَهةِ الظَّلَمةِ والطُّغاةِ، ولا يخافون في اللهِ لومةَ لائمٍ؛ لأنهم يَعلَمُون أنَّ الأمرَ بيدِ اللهِ، وما قُدِّرَ لهم سيأتيهم. وكانوا لا يخافون من قولِ كَلِمةِ الحَقِّ خَشيةَ انقِطاعِ الرِّزقِ؛ فالرِّزقُ بيَدِ اللهِ، وما كتبه اللهُ من رِزقٍ لا يستطيعُ أحدٌ منْعَه، وما منعه اللهُ لعبدٍ من عبيدِه لا يستطيعُ أحدٌ إيصالَه إليه.
عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: كنتُ خَلْفَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا فقال: ((يا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعَت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمعت على أن يضُرُّوك بشَيءٍ لم يضرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُفُ ))( أخرجه الترمذي (2516) واللَّفظُ له، وأحمد (2669). صَحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وصَحَّحه لغيره الوادعي في ((الصَّحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (699)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). ، وفي روايةٍ أخرى: ((...احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامكَ، تعَرَّفْ إليه في الرَّخاءِ يَعرِفْك في الشِّدَّةِ.. فلو أنَّ الخَلْقَ كُلَّهم جميعًا أرادوا أن يَنفَعوك بشَيءٍ لم يَكتُبْه اللهُ عليك، لم يَقدِروا عليه، وإن أرادوا أن يَضُرُّوك بشَيءٍ لم يكتُبْه اللهُ عليك، لم يَقدِروا عليه، واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تَكرَهُ خيرًا كثيرًا، وأنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وأنَّ مع العُسْرِ يُسرًا ))( أخرجها من طُرُقٍ: أحمد (2803) واللفظ له، والطبراني (11/123) (11243)، والحاكم (6303) باختِلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2803)، وحَسَّنه ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/459)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327)، والسخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (188)، وقال الحاكم: هذا حديثٌ كبيرٌ عالٍ وقد رُوِيَ بأسانيدَ عن ابنِ عَبَّاسٍ غيرِ هذا. ، وهذا الحديثُ يدُلُّ على أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ يبعَثُ على الشجاعةِ والاتجاهِ إلى اللهِ وَحْدَه في وقتِ الشَّدائِدِ، فيبقى المؤمنُ عزيزًا لا يَذِلُّ إلَّا للهِ وَحدَه.

انظر أيضا: