الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: مِن ثَمَراتِ الإيمانِ بالقَدَرِ: أنَّه يدعو إلى العَمَلِ الصَّالِحِ والسَّعيِ إلى مرضاةِ اللهِ تعالى

الإيمانُ بالقَدَرِ من أكبرِ الدَّواعي التي تدعو إلى النَّشاطِ وبَذْلِ الجُهدِ، وهو من أقوى الحوافِزِ للمؤمِنِ؛ كي يعمَلَ ويُقْدِمَ على عظائمِ الأمورِ بثباتٍ وعزمٍ ويقينٍ.
فالإيمانُ بالقَضاءِ والقَدَرِ لا يعني مُطلقًا التسليمَ لِما يُقَدِّرُه اللهُ بالقُعودِ عن تغييرِ ما أصاب الإنسانَ من فقرٍ أو مرَضٍ أو جَهلٍ، وتَرْكَ مقاومةِ ذلك، ولا يعني الإيمانُ بالقَدَرِ أنَّه لا حاجةَ إلى السَّعيِ في طَلَبِ الرِّزقِ.
إنَّ المؤمنين مأمورون بالأخذِ بالأسبابِ مع التوكُّلِ على اللهِ تعالى، فالأسبابُ لا تعطي النتائجَ إلَّا بإذنِ اللهِ الذي خلق الأسبابَ، وخلق النتائِجَ، ويَحرُمُ على المسلِمِ تَرْكُ الأخذِ بالأسبابِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (كُلُّ داعٍ شافِعٍ دعا اللهَ سُبحانَه وتعالى وشَفَع، فلا يكونُ دعاؤه وشفاعتُه إلَّا بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه ومشيئتِه، وهو الذي يجيبُ الدُّعاءَ ويَقبَلُ الشَّفاعةَ، فهو الذي خلق السَّبَبَ والمسَبَّبَ، والدعاءُ من جملةِ الأسبابِ التي قدَّرها اللهُ سُبحانَه وتعالى. وإذا كان كذلك فالالتفاتُ إلى الأسبابِ شِركٌ في التوحيدِ، ومحوُ الأسبابِ أن تكونَ أسبابًا نَقْصٌ في العَقلِ، والإعراضُ عن الأسبابِ بالكُليَّةِ قَدحٌ في الشَّرعِ، بل العبدُ يجِبُ أن يكونَ توكُّلُه ودعاؤه وسؤالُه ورغبتُه إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، واللهُ يُقَدِّرُ له من الأسبابِ مِن دُعاءِ الخَلْقِ وغيرِهم)( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/131). .
وقال أيضًا: (من ظَنَّ أنَّ التوكُّلَ يُغني عن الأسبابِ المأمورِ بها فهو ضالٌّ، وهذا كمن ظَنَّ أنَّه يتوكَّلُ على ما قُدِّرَ عليه من السعادةِ والشقاوةِ بدون أن يفعَلَ ما أمره اللهُ)( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/528). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المؤمِنُ القَوِيُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُك، واستَعِنْ باللهِ ولا تَعْجَز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقُلْ: لو أنِّي فعَلْتُ كان كذا وكذا، ولكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وما شاء فَعَلَ، فإنَّ لَوْ تفتَحُ عَمَلَ الشَّيطانِ ))( رواه مسلم (2664). .
قال ابنُ أبي العزِّ: (ظَنَّ بعضُ النَّاسِ أنَّ التوكُّلَ ينافي الاكتسابَ وتعاطي الأسبابِ، وأنَّ الأمورَ إذا كانت مُقَدَّرةً فلا حاجةَ إلى الأسبابِ، وهذا فاسِدٌ؛ فإنَّ الاكتسابَ: منه فَرضٌ، ومنه مُستحَبٌّ، ومنه مباحٌ، ومنه مكروهٌ، ومنه حرامٌ، كما قد عُرِف في موضِعِه. وقد كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ المتوكِّلين يَلبَسُ لَأْمَةَ الحَربِ، ويمشي في الأسواقِ للاكتِسابِ)( يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 351). .
وقد قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه لأبي عُبَيدةَ لَمَّا جاء الخبرُ بانتشارِ الوَباءِ في الشَّامِ، ورأى عُمَرُ الرُّجوعَ، فقال له أبو عُبَيدةَ: (أفِرارًا من قَدَرِ اللهِ؟ فقال عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عُبَيدةَ! نعم نَفِرُّ من قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ، أرأيتَ لو كان لك إبلٌ هبَطَت واديًا له عُدْوَتانِ؛ إحداهما خِصبةٌ، والأُخرى جَدْبةٌ، أليس إن رعيتَ الخِصبةَ رعَيتَها بقَدَرِ اللهِ، وإن رعَيتَ الجَدْبةَ رَعَيتَها بقَدَرِ اللهِ؟)( أخرجه مُطَوَّلًا البخاري (5729) واللَّفظُ له، ومسلم (2219) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
فالأخذُ بالأسبابِ داخِلٌ في معنى الإيمانِ بالقَدَرِ ولا ينافيه.

انظر أيضا: