الموسوعة العقدية

المَطْلَب الثَّاني: أعظَمُ جَرائِمِ الخالِدينَ في النَّارِ

بيَّنَ القُرآنُ الكَريمُ الجَرائِمَ الَّتي استَحَقَّ بها أصحابُها الخُلُودَ في النَّارِ، ومِنها:
1- الكُفْرُ والشِّرْكُ
قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 10] .
قال ابنُ جَريرٍ: (في هذا الكَلامِ مَترُوكٌ استُغني بدَلالةِ الظَّاهرِ مِن ذِكرِه عليه، وهو: فأُجيبُوا أنْ لا سَبيلَ إلى ذَلِكَ، هذا الَّذي لَكم مِنَ العَذابِ أيُّها الكافِرُون بأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ فأنكَرتُم أن تَكُونَ الألُوهةُ لَه خالِصةً، وقُلتُم: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص: 5] وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا يَقُولُ: وإن يُجعَلْ للهِ شَريكٌ تُصَدِّقُوا مَن جَعلَ ذَلِكَ لَه فَالحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الكَبِيرِ يَقُولُ: فالقَضاءُ للهِ العَليِّ على كُلِّ شيءٍ، الكَبيرِ الَّذي كُلُّ شيءٍ دُونَه مُتَصاغِرٌ لَه اليَومَ) [5104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 293). .
وقال اللهُ سُبحانَه: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 94-98] .
قال ابنُ القيِّمِ: (الشِّركُ الَّذي لا يَغفِرُه اللهُ لِعَبدِه: هو أن يُشرِكَ به في الحُبِّ والتَّعظيمِ، فيُحِبُّ غيرَه ويُعظِّمُ مِنَ المَخلُوقاتِ غيرَه، كَما يُحِبُّ اللهَ تعالى ويُعظِّمُه، قال تعالى: ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه فأخبَرَ سُبحانَه أنَّ المُشرِكَ يُحِبُّ النِّدَّ كَما يُحِبُّ اللهَ تعالى، وأنَّ المُؤمِنَ أشَدُّ حُبًّا للهِ مِن كُلِّ شيءٍ. وقال أهلُ النَّارِ في النَّارِ: تَاللِه إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ومِنَ المَعلُومِ: أنَّهم إنَّما سَوَّوهم به سُبحانَه في الحُبِّ والتَّأليهِ والعِبادةِ، وإلَّا فلَم يَقُلْ أحَدٌ قَطُّ: إنَّ الصَّنمَ أو غيرَه مِنَ الأندادِ مُساوٍ لِرَبِّ العالَمينَ في صِفاتِه وفي أفعالِه، وفي خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ، وفي خَلقِ عابدِه أيضًا. وإنَّما كانَتِ التَّسويةُ في المَحبَّةِ والعِبادةِ) [5105] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) (ص: 448). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد: 5] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: وإن تَعجَبْ يا مُحَمَّدُ مِن هَؤُلاءِ المُشرِكينَ المُتَّخِذينَ ما لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ آلِهةً يَعبدُونَها مِن دُوني، فعَجَبٌ قَولُهم: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وبَلِينا فعُدِمْنا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أئِنَّا لِمُجَدَّدٌ إنشاؤنا وإعادَتُنا خَلقًا جَديدًا، كَما كُنَّا قَبلَ وفاتِنا؟ تَكذيبًا مِنهم بقُدرةِ اللهِ، وجُحُودًا لِلثَّوابِ والعِقابِ والبَعثِ بَعدَ المَماتِ... وقَولُه: أُولَئِكَ الَّذينَ كَفَّرُوا بربهم يَقُولُ تعالى ذِكرُه: هَؤُلاءِ الَّذينَ أنكَرُوا البَعثَ وجَحَدُوا الثَّوابَ والعِقابَ، وقالُوا: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ همُ الَّذينَ جَحَدُوا قُدرةَ رَبِّهم وكَذَّبُوا رَسولَه، وهمُ الَّذينَ في أعناقِهمُ الأغلالُ يَومَ القيامةِ في نارِ جَهَنَّم، فأُولَئِكَ أصحابُ النَّارِ، يَقُولُ: هم سُكَّانُ النَّارِ يَومَ القيامةِ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَقُولُ: هم فيها ماكِثُون أبَدًا، لا يَمُوتُونَ فيها، ولا يَخرُجُونَ مِنها) [5106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/ 432-434). .
وقال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (كَذَلِكَ نُجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أي: هذا جَزاءُ كُلِّ مَن كَفرَ برَبِّه وكَذَّبَ بالحَقِّ) [5107] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 552). .
وقال ابنُ باز: (مَن خالَفَ الرُّسلَ في هذه الدَّارِ، وتابعَ الهوى والشَّيطانَ، فإنَّه يَنتَقِلُ مِن هذه الدَّارِ إلى دارِ الجَزاءِ، دارِ الهَوان والخُسرانِ، والعَذابِ والآلامِ والجَحيمِ، الَّتي أهلُها في عَذابٍ وشَقاءٍ دائِمٍ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطِر: 36] . كَما قال عَزَّ وجَلَّ: إنَّه مَنْ يَأتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [طه: 74] ) [5108] يُنظر: ((بيان التوحيد الذي بعث الله به الرسل جميعًا وبعث به خاتمهم محمدا عليه السلام)) (ص: 7). .
2- التَّكذيبُ بيَومِ الدِّينِ
قال اللهُ تعالى حِكايةً عَن أهلِ الجَنةِ وهم يَسألُونَ أهلَ النَّارِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 42-47] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (يَقُولُ تعالى مُخبِرًا أنَّ: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي: مُعتَقَلةٌ بعَمَلِها يَومَ القيامةِ، قاله ابنُ عَبَّاسٍ وغيرُه: إلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فإنَّهم فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، أي: يَسألُونَ المُجْرِمينَ وهم في الغُرُفاتِ، وأُولَئِكَ في الدَّرَكاتِ، قائِلينَ لَهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي: ما عَبَدْنا رَبَّنا ولا أحْسَنَّا إلى خَلقِه مِن جِنسِنا. وكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائِضينَ أي: نَتَكَلَّمُ فيما لا نَعلَمُ. وقال قَتادةُ: كُلَّما غَوِيَ غاوٍ غَوَينا مَعَه.
وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ يَعني: المَوتَ. كَقَولِه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ [الحجر: 99] وقال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمَّا هو -يَعني عُثمانَ بنَ مَظعُونٍ-فقَد جاءَه اليَقينُ مِن رَبِّه)) [5109] أخرجه البخاري (7003) من حديث أمِّ العلاءِ عمَّة حزامِ بنِ حكيمٍ رَضِيَ اللهُ عنها بلفظ: ((.. أمَّا هو فواللهِ لقد جاءه اليقينُ، واللهِ إني لأرجو له الخيرَ..)). .
قال اللهُ تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ أي: مَن كانَ مُتَّصِفًا بهذه الصِّفاتِ فإنَّه لا تَنفَعُه يَومَ القيامةِ شَفاعةُ شافِعٍ فيه؛ لِأنَّ الشَّفاعةَ إنَّما تَنجعُ إذا كانَ المَحَلُّ قابلًا، فأمَّا مَن وافى اللهَ كافِرًا يَومَ القيامةِ فإنَّه لَه النَّارُ لا محالةَ، خالِدًا فيها) [5110] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 273). .
وقال السَّعْديُّ: (قالُوا لَهم: مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ أي: أيُّ شيءٍ أَدخَلَكم فيها؟ وبأيِّ ذَنبٍ استَحْقَقتُمُوها؟ فـ قالُوا لَم نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينِ ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ فلا إخلاصَ لِلمَعبُودِ، ولا إحسانَ ولا نَفعَ لِلخَلقِ المُحتاجينَ. وكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ أي: نَخُوضُ بالباطِلِ، ونُجادِلُ به الحَقَّ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ هذا آثارُ الخَوضِ بالباطِلِ، وهو التَّكذيبُ بالحَقِّ، ومِن أحَقِّ الحَقِّ يَومُ الدِّينِ الَّذي هو مَحَلُّ الجَزاءِ على الأعمالِ، وظُهورِ مُلكِ اللهِ وحُكمِه العَدْلِ لِسائِرِ الخَلقِ. فاستَمرَّينا على هذا المَذهَب الفاسِدِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ أيِ: المَوتُ، فلَمَّا ماتُوا على الكُفْرِ تَعَذَّرتْ حينَئِذٍ عليهمُ الحِيَلُ، وانسَدَّ في وُجُوههم بابُ الأمَلِ) [5111] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 897). .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَالَّذِينَ كَفَروا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39] .
قال الشِّنقيطيُّ: (دَلَّ القُرآنُ أنَّ أصحابَ النَّارِ همُ الكُفَّارُ، كَما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَروا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39] . والخُلُودُ لا خُرُوجَ مَعَه، كَما في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 165 - 167] ) [5112] يُنظر: ((أضواء البيان)) (8/ 60). .
وقال ابنُ عُثيمين: (قَولُه تعالى: أُولَئِكَ أيِ المَذكُورُونَ، وأشارَ إليهم بإشارةِ البَعيدِ لِانحِطاطِ رُتبَتِهم لا تَرفيعًا لَهم وتَعليةً لَهم أَصْحَابُ النَّارِ أيِ المُلازِمُونَ لَها؛ ولِهذا لا تَأتي أصحابُ النَّارِ إلَّا في الكُفَّارِ؛ لا تَأتي في المُؤمِنينَ أبَدًا؛ لِأنَّ المُرادَ الَّذينَ هم مُصاحِبُونَ لَها، والمُصاحَبُ لا بُدَّ أن يُلازَمَ مِن صاحِبِه هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أي: ماكثُونَ، والمُرادُ بذَلِكَ المُكْثُ الدَّائِمُ الأبَدِيُّ) [5113] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/ 141). .
3- طاعةُ رُؤساءِ الضَّلالِ وزُعَماءِ الكُفْرِ في كُفرِهم وضَلالِهم
قال اللهُ تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 25-28] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَعني تعالى ذِكرُه بقَولِه: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ وبَعَثْنا لَهم نُظَراءَ مِنَ الشَّياطينِ، فجَعَلْناهم لَهم قُرَناءَ قَرَنَّاهم بهم يُزَينُونَ لَهم قَبائِحَ أعمالِهم، فزَيَّنُوا لَهم ذَلِكَ... وقَولُه: فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ يَقُولُ: فزَيَّن لِهَؤُلاءِ الكُفَّارِ قُرَناؤُهم مِنَ الشَّياطينِ ما بينَ أيديهم مِن أمرِ الدُّنيا فحَسَّنُوا ذَلِكَ لَهم وحَبَّبُوه إليهم حَتَّى آثَرُوه على أمرِ الآخِرةِ وَمَا خَلْفَهُمْ يَقُولُ: وحَسَّنُوا لَهم أيضًا ما بَعدَ مَماتِهم بأنْ دَعَوهم إلى التَّكذيب بالمَعادِ، وأنَّ مَن هَلَكَ مِنهم فلَن يُبعَثَ، وأنْ لا ثَوابَ ولا عِقابَ حَتَّى صَدَّقُوهم على ذَلِكَ، وسَهُلَ عليهم فِعلُ كُلِّ ما يَشتَهونَه، ورُكُوبُ كُلِّ ما يَلتَذُّونَه مِنَ الفَواحِشِ باستِحسانِهم ذَلِكَ لِأنفُسِهم... وقَولُه: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يَقُولُ تعالى ذِكرُه: ووجبَ لَهمُ العَذابُ برُكُوبهم ما رَكِبُوا مِمَّا زيَّنَ لَهم قُرَناؤُهم وهم مِنَ الشَّياطينِ) [5114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 415). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (يَذكُرُ تعالى أنَّه هو الَّذي أضَلَّ المُشرِكينَ، وأنَّ ذَلِكَ بمَشيئَتِه وكَونِه وقُدرَتِه، وهو الحَكيمُ في أفعالِه، بما قيَّضَ لَهم مِنَ القُرناءِ مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ: فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أي: حَسَّنُوا لَهم أعمالَهم في الماضي، وبالنِّسبةِ إلى المُستَقبَلِ فلَم يَرَوا أنفُسَهم إلَّا مُحسِنينَ، كَما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 36، 37].
وقَولُه تعالى: وحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: كَلِمةُ العَذابِ، كَما حَقَّ على أُمَمٍ قَد خَلَتْ مِن قَبلِهم، مِمَّن فَعلَ كَفِعلِهم مِنَ الجِنِّ والإنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ أي: استَوَوا هم وإيَّاهم في الخَسارِ والدَّمارِ. وقَولُه تعالى: وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ أي: تَواصَوا فيما بينَهم ألَّا يُطيعُوا لِلقُرآنِ، ولا يَنقادُوا لِأوامِرِه، وَالْغَوْا فيه أي: إذا تُليَ لا تَسمَعُوا لَه...
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ هذا حالُ هَؤُلاءِ الجَهَلةِ مِنَ الكُفَّارِ، ومَن سَلكَ مَسلَكَهم عِندَ سَماعِ القُرآنِ. وقَد أمرَ اللهُ سُبحانَه عِبادَه المُؤمِنينَ بخِلافِ ذَلِكَ، فقال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]) [5115] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 174). .
وقال اللهُ سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب: 64-67] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: وقال الكافِرُون يَومَ القيامةِ في جَهَنَّم: رَبَّنا إنَّا أطَعْنا أئِمَّتَنا في الضَّلالةِ وكُبراءَنا في الشِّركِ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا يَقُولُ: فأزالُونا عَن مَحَجَّةِ الحَقِّ، وطَريقِ الهُدى، والإيمانِ بكَ، والإقرارِ بوحدانيَّتِكَ، وإخلاصِ طاعَتِكَ في الدُّنيا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ يَقُولُ: عَذِّبْهم مِنَ العَذاب مِثلَ عَذابنا الَّذي تَعَذَّبْنا) [5116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/ 188). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (قال طاوُس: سادَتَنا: يَعني الأشرافَ، وكُبَراءَنا: يَعني العُلَماءَ. أخرجه ابنُ أبي حاتِمٍ. أي: اتَّبَعنا السَّادَّةَ وهمُ الأمراءُ والكُبراءُ مِنَ المَشيَخةِ، وخالَفْنا الرُّسُلَ واعتَقَدنا أنَّ عِندَهم شيئًا، وأنَّهم على شيءٍ، فإذا هم ليسُوا على شيءٍ) [5117] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 484). .
4- النِّفاقُ الأكبَرُ
قال اللهُ تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة: 68] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ باللهِ نَارَ جَهَنَّمَ أن يُصْلِيَهمُوها جَميعًا. خَالِدِينَ فِيهَا يَقُولُ: ماكثينَ فيها أبَدًا، لا يَحيَونَ فيها ولا يَمُوتُونَ. هِيَ حَسْبُهُمْ يَقُولُ: هي كافيَتُهم عِقابًا وثَوابًا على كُفرِهم باللهِ. وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ: وأبعَدَهمُ اللهُ وأسحَقَهم مِن رَحمَتِه. ولَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ يَقُولُ: ولِلفَريقينِ جَميعًا، يَعني مِن أهلِ النِّفاقِ والكُفْرِ، عِندَ اللهِ عَذابٌ مُقيمٌ دائِمٌ، لا يَزُولُ ولا يَبِيدُ) [5118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 550). .
وقال اللهُ سُبحانَه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة: 63] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: ألَم يَعلَمْ هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ الَّذينَ يَحلِفُونَ باللهِ كَذِبًا لِلمُؤمِنينَ ليُرضُوهم وهم مُقيمُونَ على النِّفاقِ، أنَّه مَن يُحارِبِ اللهَ ورَسولَه ويُخالِفْهما فيُناوِئْهما بالخِلافِ عليهما فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ في الآخِرةِ خَالِدًا فِيهَا يَقُولُ: لابثًا فيها، مَقيمًا إلى غيرِ نِهايةٍ. ذَلِكَ الخِزْيُ الْعَظيِمُ يَقُولُ: فلُبْثُه في نارِ جَهَنَّم وخُلُودُه فيها هو الهَوانُ والذُّلُّ العَظيمُ) [5119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 540). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] .
قال السَّعْديُّ: (يُخبرُ تعالى عَن مَآلِ المُنافِقينَ أنَّهم في أسفَلِ الدَّرَكاتِ مِنَ العَذابِ، وأشَرِّ الحالاتِ مِنَ العِقابِ. فهم تَحتَ سائِرِ الكُفَّارِ لِأنَّهم شاركُوهم بالكُفْرِ باللهِ ومُعاداةِ رُسُلِه، وزادُوا عليهمُ المَكْرَ والخَديعةَ والتَّمَكُّنَ مِن كَثيرٍ مِن أنواعِ العَداوةِ لِلمُؤمِنينَ على وَجهٍ لا يُشعَرُ به ولا يُحَسُّ. ورَتَّبُوا على ذَلِكَ جَرَيانَ أحكامِ الإسلامِ عليهم، واستِحقاقَ ما لا يَستَحِقُّونَه، فبذَلِكَ ونَحوه استَحَقُّوا أشَدَّ العَذابِ، وليسَ لَهم مُنقِذٌ مِن عَذابِه ولا ناصِرٌ يَدفَعُ عَنهم بَعضَ عِقابه، وهذا عامٌّ لِكُلِّ مُنافِقٍ إلَّا مَن مَنَّ اللهُ عليهم بالتَّوبةِ) [5120] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 211). .
5- الِاستِكبارُ عَنِ اتِّباعِ الحَقِّ
قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 36] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ جَلَّ ثَناؤُه: وأمَّا مَن كَذَّب بأنباءِ رُسلي الَّتي أرسَلتُها إليه، وجَحدَ تَوحيدي، وكَفرَ بما جاءَ به رُسُلي، واستَكبَرَ عَن تَصديقِ حُجَجي وأدِلَّتي فـ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَقُولُ: هم في نارِ جَهَنَّم ماكثُون، لا يَخرُجُونَ مِنها أبَدًا) [5121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 167). .
وقال اللهُ سُبحانَه: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60 ].
قال ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرينَ أي: أليسَت جَهَنَّمُ كافيةً لَهم سَجْنًا ومَوئِلًا، لَهم فيها دارُ الخِزيِ والهَوانِ، بسَبَب تَكبُّرِهم وتُجبرِهم وإبائِهم عَن الِانقيادِ لِلحَقِّ) [5122] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 111). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأحقاف: 20].
قال ابنُ جَريرٍ: (بما كُنتُم تَستَكبرُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ يَقُولُ: بما كُنتُم تَتَكَبَّرُونَ في الدُّنيا على ظَهرِ الأرضِ على رَبِّكم، فتَأبَونَ أن تُخلِصُوا لَه العِبادةَ، وأن تُذِعنُوا لِأمرِه ونَهيِه بغيرِ الحَقِّ، أي: بغيرِ ما أباحَ لَكم رَبُّكم، وأَذِنَ لَكم به وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ يَقُولُ: بما كُنتُم فيها تُخالِفُونَ طاعَتَه فتَعصُونَه) [5123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 150). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ النَّارَ قالت: ((يَدخُلُني الجَبَّارُون والمُتَكَبرُونَ)) [5124] أخرجه مسلم (2846). ، وفي رِوايةٍ قالت: ((أُوثِرْتُ بالمُتَكَبِّرينَ والمُتَجَبرينَ )) [5125] أخرجها البخاري (4850)، ومسلم (2846). .
وعَن حارِثةَ بنِ وهْبٍ الخُزاعيِّ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألا أُخبرُكم بأهلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَو أقسَمَ على اللهِ لأبَرَّه، ألا أُخبرُكم بأهلِ النَّارِ، كُلُّ عُتُلٍ جَوَّاظٍ مُستَكبِرٍ )) [5126] أخرجه البخاري (4918) واللَّفظُ له، ومسلم (2853). .
قال ابنُ عُثيمين: (العُتُلُّ: مَعناها الشَّديدُ الغَليظُ، ومِنه العَتلةُ الَّتي تُحفَرُ بها الأرضُ، فإنَّها شَديدةٌ غَليظةٌ، فالعُتُلُّ هو الشَّديدُ الغَليظُ. والعياذُ باللهِ. الجَوَّاظُ: يَعني أنَّه فيه زيادةٌ مِن سُوءِ الأخلاقِ. والمُستَكبِرُ -وهذا هو الشَّاهدُ-: هو الَّذي عِندَه كِبرٌ -والعياذُ باللهِ- وغَطرَسةٌ، وكِبرٌ على الحَقِّ، وكِبرٌ على الخَلقِ، فهو لا يَلينُ لِلحَقِّ أبَدًا، ولا يَرحَمُ الخَلقَ. والعياذُ باللهِ. هَؤُلاءِ هم أهلُ النَّارِ، أمَّا أهلُ الجَنَّةِ فهمُ الضُّعفاءُ المَساكينُ الَّذينَ ليسَ عِندَهم ما يَستَكبرُونَ به، بَل هم دائِمًا مُتَواضِعُونَ ليسَ عِندَهم كِبْرياءُ ولا غِلْظةٌ؛ لِأنَّ المالَ أحيانًا يُفسِدُ صاحِبَه، ويَحمِلُه على أن يَستَكبرَ على الخَلقِ ويَرُدَّ الحَقَّ، كَما قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7]) [5127] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 545-547). .
وعَن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: يُحشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجالِ يَغشاهمُ الذُّلُّ مِن كُلِّ مَكانٍ، فيُساقُونَ إلى سِجْنٍ في جَهَنَّمَ يُسَمَّى بولَس، تَعلُوهم نارُ الأنيارُ، يُسقَونَ مِن عُصارةِ أهلِ النَّارِ طِينةِ الخَبالِ [5128] قال أبو العباس القرطبي: (سُمِّي ذلك بطينةِ الخَبالِ؛ لأنها تُخبِّلُ عَقلَ شارِبِها، وتفسِدُ حاله. مأخوذٌ مِن الخَبلِ في العَقلِ. واللهُ تعالى أعلَمُ) ((المفهم)) (5/ 269). ) [5129] أخرجه الترمذي (2492) واللَّفظُ له، وأحمد (6677). صحَّحه الترمذي، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2492)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/157)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6677)، وجوَّده ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/431). .
قال ابنُ كَثيرٍ: (المُرادُ أنَّهم يُحْشَرُونَ يَومَ القِيامةِ في العَرَصاتِ كَذَلِكَ، فإذا سِيقُوا إلى النَّارِ ودَخلُوها عَظُمَ خَلْقُهم، كَما دَلَّتْ على ذَلِكَ الأحاديثُ الَّتي أورَدناها؛ ليَكُونَ ذَلِكَ أنكى وأشَدَّ في عَذابِهم، وأعظَمَ في خِزْيِهم، كَما قال: لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النِّساء: 56]. واللهُ سُبحانَه أعلَمُ) [5130] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (20/ 143). .
وقال علي القاري: ( ((يُساقُونَ)): بضَمِّ القافِ، أي: يُسحَبُونَ ويُجَرُّونَ ((إلى سِجْنٍ)) أي: مَكانِ حَبسٍ مُظلِمٍ مُضَيَّقٍ مُنقَطَعٍ فيه عَن غيرِه ((يُسَمَّى)) أي: ذَلِكَ السِّجْنُ ((بَوْلَس)): بفَتحِ مُوحَّدةٍ وسُكُونِ واوٍ وفَتحِ لامٍ، وسينٍ مُهمَلةٍ، وفي بَعضِ النُّسَخِ بضَمِّ أوَّلِه، ففي القامُوسِ: بُولَس بضَمِّ الباءِ وفَتحِ اللَّامِ: سِجْنُ جَهَنَّم، وقال المُنذِريُّ: هو بضَمِّ المُوحَّدةِ وسُكُونِ الواوِ وفَتحِ اللَّامِ، ذَكَرَه ميرك. وقال شارِحٌ: بفَتحِ المُوحَّدةِ وفَتحِ اللَّامِ وكَسرِها فَوْعَل، مِنَ الإبلاسِ بمَعنى اليَأسِ، سُمِّيَ به ليَأْسِ داخِلِه مِنَ الخَلاصِ، وفي النِّهايةِ: فكَذا جاءَ في الحَديثِ مُسَمًّى، ذَكَرَه الطِّيبيُّ مِن غيرِ تَعَرُّضٍ لِضَبطِه، فالِاعتِمادُ على ما ذَكَرَه المُنذِريُّ وصاحِبُ القامُوسِ أَولى مِن كَلامِ غَيرِهما لِجَلالَتِهما في عِلمِ الحَديثِ، واللهُ أعلَمُ. ((تَعلُوهم)) أي: تُحيطُ بهم وتَغشاهم كالماءِ يَعلُو الغَريقَ ((نارُ الأنيارِ)) أي: نارُ النِّيرانِ... قال القاضي: وإضافةُ النَّارِ إليها لِلمُبالَغةِ، كَأنَّ هذه النَّارَ لِفَرطِ إحراقِها وشِدَّةِ حَرِّها تَفعَلُ بسائِرِ النِّيرانِ ما تَفعَلُ النَّارُ بغيرِها. أقُولُ: أو لِأنَّها أصلُ نيرانِ العالَم؛ِ لِقَولِه تعالى: الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [الأعلى: 12] ، ولِقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نارُكم هذه جُزءٌ مِن سَبعينَ جُزءًا مِن نارِ جَهَنَّم)) [5131] أخرجه البخاري (3265)، ومسلم (2843) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديث أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، على ما ذَكرَه البيضاويُّ... ((يُسْقَونَ)): بصيغةِ المَجهولِ، وفيه إشارةٌ إلى الإكراه وإيماءٌ إلى زيادةِ الإحراقِ المُؤَثِّرِ إلى بُطُونِهم أيضًا ((مِن عُصارةِ أهلِ النَّارِ)) أي: صَديدِهمُ المُنتِنِ المُحْمَى غايةَ الحَرارةِ المُعَبَّرِ عَنه بحَميمٍ ((طينةِ الخَبالِ)): تَفسيرٌ لِما قَبلَه، وهو بفَتحِ الخاءِ بمَعنى الفَسادِ. قال شارِحٌ: هو اسمُ عُصارةِ أهلِ النَّارِ، وهو ما يَسيلُ مِنهم مِنَ الصَّديدِ والقَيحِ والدَّمِ) [5132] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3193). .
وعَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ. قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يَكُونَ ثَوبُه حَسَنًا، ونَعلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ. الكِبرُ: بَطَرُ الحَقِّ [5133] قال النووي: (هو دَفعُه وإنكارُه ترفُّعًا وتجبُّرًا) ((شرح مسلم)) (2/ 90). ، وغَمْطُ النَّاسِ [5134] قال عياض: (معناه: استحقارُهم واستهانتُهم) ((إكمال المعلم)) (1/ 361). ) [5135] أخرجه مسلم (91). .
قال السَّعْديُّ: (قَد أخبَرَ اللهُ تعالى: أنَّ النَّارَ مَثوى المُتَكَبرينَ، وفي هذا الحَديثِ أنَّه: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ))، فدَلَّ على أنَّ الكِبرَ مُوجِبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، ومانِعٌ مِن دُخُولِ الجَنَّةِ) [5136] يُنظر: ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 147). .

انظر أيضا: