الموسوعة العقدية

المَطلَبُ السَّابِعُ: قُصورُ الجنَّةِ وخِيامُها

قال اللهُ تعالى: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [التوبة: 72] .
قال ابنُ جريرٍ: (يقول: ومنازِلَ يسكنونَها طَيِّبةً) [4604] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 558). .
وقال السَّمعانيُّ: (أي: يَستطيبونَها) [4605] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 427). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (أي: حَسَنةَ البناءِ، طيِّبةَ القرارِ) [4606] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 175). .
وقال السَّعْديُّ: (قَد زُخرِفَت وحُسِّنَتْ وأُعِدَّتْ لِعِبادِ الله المُتَّقينَ، قَد طابَ مَرآها، وطابَ مَنزِلُها ومَقيلُها، وجَمَعتْ مِن آلاتِ المَساكِنِ العاليةِ ما لا يَتَمَنَّى فوقَه المُتَمَنُّونَ، حَتَّى إنَّ اللهَ تعالى قَد أعَدَّ لَهم غُرفًا في غايةِ الصَّفاءِ والحُسنِ، يُرى ظاهرُها مِن باطِنِها، وباطِنُها مِن ظاهِرِها. فهذه المَساكِنُ الأنيقةُ الَّتي حَقيقٌ بأن تَسكُنَ إليها النُّفُوسُ، وتَنزِعَ إليها القُلُوبُ، وتَشتاقَ لَها الأرواحُ؛ لِأنَّها في جَناتِ عَدْنٍ، أي: إقامةٍ لا يَظعَنُونَ عَنها، ولا يَتَحَوَّلُونَ مِنها) [4607] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 344). .
وقال ابنُ عُثيمين: (مَساكِنُ طيِّبةٌ: طيبةٌ في بنائِها، طيبةٌ في غُرَفِها، طيِّبةٌ في مَنظَرِها، طيبةٌ في مَسكِنِها، طيبةٌ مِن كُلِّ ناحيةٍ، والسَّاكِنُ فيها حُورٌ مَقصُوراتٌ في الخيامِ؛ خيامٍ مِن لُؤْلُؤٍ مُرتَفِعةٍ مِن أحسَنِ ما تَراه بَصَرًا، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: جَنَّتانِ مِن ذَهَبٍ آنيَتُهما وما فيهما، وجَنَّتانِ مِن فِضَّةٍ آنيَتُهما وما فيهما [4608] أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (180) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه بلفظ: ((جنَّتانِ من فِضَّةِ آنيَتُهما وما فيهما، وجنَّتانِ من ذَهَبٍ آنيتُهما وما فيهما)). اللَّبِنُ: لَبِنُ البناءِ ليسَ مِنَ الطُّوب والتُّرابِ بَل هو مِنَ الذَّهَبِ أو مِنَ الفِضَّةِ؛ ولِهذا وصَفَها اللهُ بالطِّيبِ. ثُمَّ إنَّ مِن طيبِها أنَّ ساكِنَها لا يَبغي عَنها حِوَلًا.. مَساكِنُ الدُّنيا مهما حَسُنَت سَتَرى ما هو أحسَنُ مِن بيتِكَ فتَقُولُ: ليتَ هذا لي! لَكِن في الجَنةِ لا تَبغي حِوَلًا عَن مَسكَنِكَ ولا انتِقالًا؛ كُلُّ إنسانٍ يَرى أنَّه هو أنعَمُ أهلِ الجَنَّةِ؛ لِكي لا يَنكَسِرَ قَلبُه لَو رَأى مَن هو أفضَلُ مِنه، ولَكِن يَرى أنَّه أنعَمُ أهلِ الجَنَّةِ، عَكسُ ذَلِكَ أهلُ النَّارِ؛ أهلُ النَّارِ يَرى أنَّه أشَدُّ أهلِ النَّارِ عَذابًا وإن كانَ هو أهوَنَهم!) [4609] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (5/ 350). .
وقَد سَمَّى اللهُ في مَواضِعَ مِن كِتابِه بَعضَ أبنيةِ الجَنَّةِ ومَنازِلِها بالغُرُفاتِ.
قال اللهُ سُبحانَه: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37] .
قال ابنُ الجَوزي: (قَولُه تعالى: وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ يَعني غُرفَ الجَنَّةِ، وهي البُيُوتُ فوقَ الأبنيةِ.
وقَرَأ حَمزةُ: في الغُرفةِ على التَّوحيدِ أرادَ اسمَ الجِنسِ... آمِنُون مِنَ المَوتِ والغِيَرِ) [4610] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/ 501). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ أي: في مَنازِلِ الجَنَّةِ العاليةِ آمِنُونَ مِن كُلِّ بَأسٍ وخَوفٍ وأذًى، ومِن كُلِّ شَرٍّ يُحذَرُ مِنه) [4611] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 522). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ في جزاءِ عِبادِ الرَّحمنِ: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [الفرقان: 75] .
قال ابنُ جَريرٍ: (الْغُرْفَةَ وهي مَنزِلةٌ مِن مَنازِلِ الجَنَّةِ رَفيعةٌ) [4612] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/ 534). .
وقال البَغَويُّ: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ يَعني ينالُونَ، الْغُرْفَةَ يَعني الدَّرَجةَ الرَّفيعةَ في الجَنَّةِ، والغُرفةُ: كُلُّ بناءٍ مُرتَفِعٍ عالٍ) [4613] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 460). .
وقال النَّسَفيُّ: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أيِ الغُرُفاتِ، وهي العَلاليُّ في الجَنَّةِ، فوحَّدَ اقتِصارًا على الواحِدِ الدَّالِّ على الجِنسِ، دَليلُه: وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [4614] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/ 552). .
وقال الشِّنقيطيُّ: (الظَّاهرُ أنَّ المُرادَ بالغُرفةِ في هذه الآيةِ الكَريمةِ جِنسُها الصَّادِقُ بغُرَفٍ كَثيرةٍ، كَما يَدُلُّ عليه قَولُه تعالى: وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ، وقَولُه تعالى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الآيةُ) [4615] يُنظر: ((أضواء البيان)) (6/ 81). .
وقال اللهُ تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر: 20] .
قال القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَمَّا بيَّنَ أنَّ لِلكُفَّارِ ظِلًّا مِنَ النَّارِ مِن فوقِهم ومِن تَحتِهمْ بيَّنَ أنَّ لِلمُتَّقينَ غُرَفًا فوقَها غُرفٌ؛ لِأنَّ الجَنَّةَ دَرَجاتٍ يَعلُو بَعضُها بَعضًا... تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ أي هي جامِعةٌ لِأسباب النُّزهةِ) [4616] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/ 245). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (أخبَرَ عَن عِبادِه السُّعداءِ أنَّهم لَهم غُرَفٌ في الجَنةِ، وهي القُصُورُ الشَّاهقةُ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ أي: طِباقٌ فوقَ طِباقٍ، مَبنيَّاتٌ مُحكَماتٌ مُزخْرَفاتٌ عالياتٌ) [4617] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 91). .
وقال السَّعْديُّ: (لَكِنَّ الغِنى كُلَّ الغِنى والفَوزَ كُلَّ الفَوزِ، لِلمُتَّقينَ الَّذينَ أُعِدَّ لَهم مِنَ الكَرامةِ وأنواعِ النَّعيمِ ما لا يُقادَرُ قَدرُه.
لَهُمْ غُرَفٌ أي: مَنازِلُ عاليةٌ مُزخْرَفةٌ، مِن حُسنِها وبهائِها وصَفائِها، أنَّه يُرى ظاهرُها مِن باطِنِها، وباطِنُها مِن ظاهرِها، ومِن عُلُوِّها وارتِفاعِها أنَّها تُرى كَما يُرى الكَوكَبُ الغابرُ في الأفُقِ الشَّرقيِّ أوِ الغَربِّي؛ ولِهذا قال: مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ أي: بَعضُها فوقَ بَعضٍ مَبْنِيَّةٌ بذَهَبٍ وفضةٍ، ومِلاطُها المِسْكُ الأذفَرُ. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ المُتَدَفِّقةُ المَسقيَّةُ لِلبَساتينِ الزَّاهرةِ والأشجارِ الطَّاهرةِ، فتَغلُّ بأنواعِ الثِّمارِ اللَّذيذةِ، والفاكِهةِ النَّضيجةِ) [4618] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 722). .
وقد أخبرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ في الجنَّةِ خيامًا.
قال اللهُ تعالى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن: 72].
قال السَّعْديُّ: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ أي: مَحبُوساتٌ في خيامِ اللُّؤلُؤِ، قَد تَهيَّأن وأَعدَدْنَ أنفُسَهنَّ لِأزواجِهنَّ، ولا يَنفي ذَلِكَ خُرُوجَهنَّ في البساتينِ ورياضِ الجَنَّةِ، كَما جَرَتِ العادةُ لِبَناتِ المُلُوكِ ونَحوِهنَّ) [4619] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 832). .
وقال ابنُ عُثيمين: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ الحَوراءُ هي الجَميلةُ الَّتي جُمِّلَت في جَميعِ خَلقِها، وبالأخَصِّ العينُ: شَديدةُ البياضِ، شَديدةُ السَّوادِ، واسِعةٌ مُستَديرةٌ مِن أحسَنِ ما يَكُونُ، مَقْصُوراتٌ أي: مُخَبَّآتٌ، في الخِيَامِ: جَمعُ خيمةٍ، والخيمةُ مَعرُوفةٌ، هي بناءٌ لَه عَمُودٌ وأَرْوِقةٌ، لَكِنَّ الخيمةَ في الآخِرةِ ليسَت كالخيمةِ في الدُّنيا، بَل هي خيمةٌ مِن لُؤَلؤةٍ طُولُها في السَّماءِ مُرتَفِعٌ جِدًّا، ويُرى مَن في باطِنِها مِن ظاهرِها، ولا تَسألْ عَن حُسنِها وجَمالِها، هَؤُلاءِ الحُورُ مَقصُوراتٌ مُخَبَّآتٌ في هذه الخيامِ على أكمَلِ ما يَكُونُ مِنَ الدَّلالِ والتَّنعيمِ) [4620] يُنظر: ((تفسير الحجرات - الحديد)) (ص: 322). .
وعَن أبي مَوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الخيمةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفةٌ طُولُها في السَّماءِ ثَلاثُونَ ميلًا، في كُلِّ زاويةٍ مِنها لِلمُؤمِن أهلُ لا يَراهمُ الآخَرُونَ )) [4621] أخرجه البخاري (3243). .
وفي رِوايةٍ عَن أبي مُوسى رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ لِلمُؤمِن في الجَنَّةِ لخَيمةً مِن لؤْلؤةٍ واحِدةٍ مُجَوَّفةٍ، طُولُها سِتُّونَ ميلًا، لِلمُؤمِن فيها أهلُونَ، يَطُوفُ عليهمُ المُؤمِنُ، فلا يَرى بَعضُهم بَعضًا)) [4622] أخرجه مسلم (2838). .
وفي رِوايةٍ: ((في الجَنَّةِ خيمةٌ مِن لُؤلؤةٍ مُجَوَّفةٍ عَرضُها سِتُّونَ ميلًا، في كُلِّ زاويةٍ مِنها أهلٌ ما يَرَونُ الآخَرينَ، يَطَوفُ عليهمُ المُؤمِنُ )) [4623] أخرجها مسلم (2838). .
قال عياضٌ: (قَولُه: ((إنَّ لِلمُؤمِن في الجَنَّةِ خيمةً مِن لُؤلؤةٍ واحِدةٍ مُجَوَّفةٍ)): كَذا لَهم بالفاءِ، وعِندَ السَّمَرقَندي: مُجَوبةٌ بالباءِ في حَديثِ سَعيدِ بن مَنصُورٍ، والمَعنى مُتَقارِبٌ. ومَعنى رِوايةِ الباءِ: مَثقُوبةٌ مُفرَّغٌ داخِلُها، وهو مِثلُ مُجَوَّفةٍ، قال اللهُ تعالى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ أي: نَقَبُوه ومَزجُوه، وجَعلُوا فيه بُيُوتًا ومَنازِلَ، كَما قال: وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا، والخيمةُ: بيتٌ مُستَديرٌ مِن بُيُوتِ الأعرابِ، مَعرُوفٌ.
وقَولُه: ((في كُلِّ زاويةٍ مِنها أهلٌ لِلمُؤمِنِ لا يراهمُ الآخَرُونَ)): أي ناحيةٍ، يَعني: لِسَعَتِه وبُعدِ أقطارِه. وإذا كانَ طُولُه في السَّماءِ سِتِّينَ ميلًا، أي في الِارتِفاعِ، كَما ذُكِرَ في الحَديثِ، فما ظَنُّكَ بطُولِه في الأرضِ وعَرضِه؟!) [4624] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 371). .
وقال المُناويُّ: ( ((إن لِلمُؤمِن في الجَنَّةِ لخَيمةً)) بفَتحِ لامِ التَّوكيدِ، بيتٌ شَريفُ المِقدارِ ((مِن لُؤلؤةٍ واحِدةٍ مُجَوَّفةٍ طُولُها سِتُّونَ ميلًا)) أي في السَّماءِ، وفي رِوايةٍ: ثَلاثُونَ، وفي أُخرى غيرُ ذَلِكَ، ولا تَعارُضُ لِتَفاوُتِ الطُّولِ بتَفاوُتِ دَرَجاتِ المُؤمِنينَ ((لِلمُؤمِنِ فيها أهلُون)) أي زَوجاتٌ كَثيرةٌ ((يَطُوفُ عليهمُ المُؤمِنُ)) أي لِجِماعِهنَّ ونَحوِه ((فلا يرى بَعضُهم بَعضًا)) مِن سَعةِ الخيمةِ وعِظَمِها) [4625] يُنظر: ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (1/ 338). .
وقَد أخبَرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن صِفاتِ قُصُورِ بَعضِ أزواجِه وأصحابِه رَضِيَ اللهُ عَنهم.
عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: أتى جِبريلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((يا رَسولَ اللهِ، هذه خَديجةُ قَد أتَت مَعَها إناءٌ فيه إدامٌ وطَعامٌ، فإذا أتَتْكَ فاقرَأْ عليها السَّلامَ مِن رَبِّها ومِني، وبَشِّرْها ببيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ )) [4626] أخرجه البخاري (3820)، ومسلم (2432). .
قال الخَطَّابي: (البيتُ: القَصْرُ. قال ابنُ الأعرابيِّ: يُقالُ: هذا بيتُ فُلانٍ، أي قَصْرُه. والقَصَبُ: الدُّرُّ المُجَوَّفُ. ومَعنى اشتِراطِه نَفيَ السَّخبِ والنِّصَبِ أنَّه ما مِن بيتٍ في الدُّنيا يَجتَمِعُ فيه السَّكنُ إلَّا كانَ بينَ أهلِه صَخبٌ وجَلَبةٌ، وإلَّا كانَ في بنائِه وإصلاحِه نَصَبٌ وتَعَبُّ، فأخبَرَ أنَّ قُصُورَ الجَنةِ وبُيُوتَها بخِلافِ ذَلِكَ، ليسَ فيها شيءٌ مِنَ الآفاتِ الَّتي تَعتَري أهلَ الدُّنيا فيها) [4627] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (2/ 911). .
وقال البَغَويُّ: (أرادَ بالبيتِ: القَصْرَ، يُقالُ: هذا بيتُ فلانٍ، أي: قَصْرُه، وبيتُ الرَّجُلِ: قَصْرُه، قال أهلُ العِلمِ واللُّغةِ: القَصَبُ في هذا الحَديثِ: لُؤْلُؤٌ مُجَوَّفٌ واسِعٌ، كالقَصْرِ المُنيفِ، والصَّخبُ: اختِلاطُ الأصَواتِ، والنَّصَب والنُّصْب: التَّعَبُ، ومِنه قَولُه سُبحانَه وتعالى: بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41] ، فنفى عَنه النَّصَبَ والصَّخَبَ) [4628] يُنظر: ((شرح السنة)) (14/ 156). .
وقال ابنُ عُثيمين: (بَشَّر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَديجةَ رَضِيَ اللهُ عَنها ببيتٍ في الجَنةِ مِن قَصَبٍ ليسَ فيه صَخبٌ ولا نَصَبٌ، ولَكِنَّ القَصَبَ الَّذي بُني مِنه قَصْرُ خَديجةَ في الجَنَّةِ ليسَ كالقَصَبِ الَّذي في الدُّنيا، الِاسمُ هو الِاسمُ، والحَقيقةُ غيرُ الحَقيقةِ، كَما أنَّه في الجَنةِ نَخلٌ ورُمَّانٌ وفاكِهةٌ ولَحمُ طيرٍ وغيرُ ذَلِكَ، لَكِنَّ التَّشابُهَ في الِاسمِ فقَط؛ فالِاسمُ هو الِاسمُ، والحَقيقةُ غيرُ الحَقيقةِ...
ثُمَّ قال: ليسَ فيه صَخبٌ ولا نَصَبٌ، والصَّخَبُ: أيِ الأصَواتُ المُزعِجةَ الشَّديدةُ، أهلَ الجَنَّةِ كُلُّهم أهلُ ليسَ عِندَهم صَخبٌ ولا نَصَبٌ ولا كَلامٌ لَغْوٌ، كَما قال تعالى: لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ فكَلامُهم طيِّبٌ؛ لِأنَّهم جِوارُ الطَّيِّبِ جَلَّ وعلا، فهمُ طيبُونَ في جَنَّاتِ عَدْنٍ، مَساكِنُ طيِّبةٌ عِندَ الطَّيِّب جَلَّ وعلا، كَما أنَّ قُلُوبَهم في الدُّنيا طيِّبةٌ وأفعالَهم طيبةٌ؛ لِأنَّ اللهَ لا يَقبَلُ إلَّا الطّيَبَ، وأفعالُهم مَقبُولةً فهم كَذَلِكَ في الآخِرةِ؛ فقَصْرُ خَديجةَ ليسَ فيه صَخبٌ وليسَ فيه نَصَبٌ، وليسَ فيه تَعَبٌ، لا يَحتاجُ إلى كَنسِ القِمامةِ ولا غيرِه، بَل كُلُّه طَيبٌ، وهذه بشارةٍ لِأُمِّ المُؤمِنينَ خَديجةَ رَضِيَ اللهُ عَنها) [4629] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (4/ 121-123). .
وعَن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رَأيتُني دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فإذا أنا بالرُّمَيصاءِ امرَأةِ أبي طَلحةَ، وسَمِعتُ خَشَفةً، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال: هذا بلالُ، ورَأيتُ قَصرًا بفِنائِه جاريةٌ، فقُلتُ: لِمَن هذا؟ فقال: لِعُمَرَ، فأرَدتُ أن أدخُلَه فأنظُرَ إليه، فذَكَرتُ غيرَتَكَ، فقال عُمَرُ: بأبي وأُمِّي يا رَسولَ اللهِ! أعليكَ أغارُ؟)) [4630] أخرجه البخاري (3679) واللَّفظُ له، ومسلم (2394). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: ((رَأيتُني دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فإذا أنا بالرُّمَيصاءِ امرَأةِ أبي طَلحةَ)) هي أمُّ سُلَيمٍ والرُّميصاءُ بالتَّصغيرِ صِفةٌ لَها لِرَمصٍ كانَ بعينِها، واسمُها سَهلةُ، وقيلَ: رُميلةُ، وقيلَ غيرُ ذَلِكَ... قَولُه: وسَمِعتُ خَشَفةً -بفَتحِ المُعجَمَتينِ والفاءِ- أي حَرَكةً... ووقَعَ لِأحمَدَ: سَمِعتُ خَشَفًا [4631] أخرجه أحمد (15002)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8235) بلفظ: ((وسمعتُ خَشفًا أمامي فقُلتُ: مَن هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا بِلالٌ)). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3478)، وصحَّح إسنادَه على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (15002). يَعني صَوتًا... ومَعنى الحَديثِ هنا ما يُسمَعُ مِن حِسِّ وقَعِ القَدَمِ. قَولُه: فقُلتُ: مَن هذا؟ فقال: هذا بلالٌ... قَولُه: ورَأيتَ قَصرًا بفِنائِه جاريةٌ، في حَديثِ أبي هُرَيرةَ الَّذي بَعدَه: تَتَوضَّأُ إلى جانِب قَصْرٍ، وفي حَديثِ أنسٍ عِندَ التِّرمذيِّ: قَصَرٌ مِن ذَهَبٍ [4632] أخرجه الترمذي (3688)، وأحمد (13775)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8127) ولفظ الترمذي: عن أنس رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((دخلتُ الجنَّةَ فإذا أنا بقَصرٍ مِن ذَهَبٍ فقُلتُ: لِمَن هذا القَصرُ؟ قالوا لشابٍّ، فظننتُ أني أنا هو، فقُلتُ: ومن هو؟ فقالوا: عُمَرُ بنُ الخطَّابِ)). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (54)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (19/132)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3688)، وصحَّح إسنادَه على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13775). ، والفِناءُ -بكَسرِ الفاءِ وتَخفيفِ النُّونِ مَعَ المَدِّ- جانِبُ الدَّارِ. قَولُه: فقُلتُ: لِمَن هذا؟... الظَّاهرُ أنَّ المُخاطَبَ لَه بذَلِكَ جِبريلُ أو غيرُه مِنَ المَلائِكةِ... وقَولُه: بأبي وأُمِّي، أي: أفدِيكَ بهما) [4633] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 44). .
وقَد أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَعضِ الوسائِلِ الَّتي يَحصُلُ بها المُؤمِنُ على مَزيدٍ مِنَ البُيُوتِ في الجَنَّةِ.
فمَن بنى للهِ مَسْجِدًا بنى اللهُ لَه بيتًا في الجَنةِ.
عَن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّه قال عِندَ قَولِ النَّاسِ فيه حينَ بنى مَسجِدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّكم قَد أكثَرتُم، وإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: ((مَن بنى مَسْجِدًا، -قال بكيرٌ: حَسِبتُ أنَّه قال- يَبتَغي به وجهَ اللهِ، بنى اللهُ لَه مِثلَه في الجَنَّةِ )) [4634] أخرجه البخاري (450) واللَّفظُ له، ومسلم (533). . وفي رِوايةِ هارُون: ((بَنى اللهُ لَه بيتًا في الجَنَّةِ)) [4635] أخرجها مسلم (533). .
قال ابنُ بطالٍ: (المَساجِدُ بيُوتُ اللهِ، وقَد أضافَها اللهُ إلى نَفسِه بقَولِه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة: 18] ، حَسْبُكَ بهذا شَرفًا لَها! وقال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور: 36] ، الآية، فهى أفضَلُ بيُوتِ الدُّنيا وخيرُ بِقاعِ الأرضِ، وقَد تَفَضَّلَ اللهُ على بانيها بأنْ بنى لَه قَصْرًا في الجَنَّةِ، وأجْرُ المَسجِدِ جارٍ لِمَن بناه في حياتِه وبَعدَ مَماتِه ما دامَ يُذكَرُ اللهُ فيه ويُصلَّى فيه، وهذا مِمَّا جازَتِ المُجازاةُ فيه مِن جِنسِ الفِعلِ) [4636] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (2/ 101). .
وقال ابنُ المُلقنِ: (قَولُه: ((يَبتَغي به وَجهَ اللهِ)) أي: مُخْلِصًا في بنائِه له... وقَولُه: ((بَنى اللهُ لَه مِثلَه في الجَنَّةِ)) يُحتَمَلُ أن يَكُونَ مِثلَه في المُسَمَّى، وأمَّا السَّعةُ فمَعلُومٌ فَضلُها، أو فَضْلُه على بُيُوتِ الجَنَّةِ كفَضلِ المَسجِدِ على بُيُوتِ الدُّنيا؛ بسَبَب إضافَتِه إلى الرَّبِّ تعالى) [4637] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (5/ 547). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (مَن بنى للهِ مَسجِدًا يُذكَرُ فيه اسمُ اللهِ في الدُّنيا بنى اللهُ لَه في الجَنَّةِ بيتًا.
وأمَّا قَولُه: ((مِثلَه)) فليسَ المُرادُ أنَّه على قَدْرِه، ولا على صِفَتِه في بُنيانِه، ولَكِنَّ المُرادَ -واللهُ أعلَمُ- أنَّه يُوسَّعُ بُنيانُه بحَسَبِ تَوسعَتِه، ويُحكَمُ بنيانُه بحَسَبِ إحكامِه، لا مِن جِهةِ الزَّخرَفةِ، ويَكمُلُ انتِفاعُه بما يُبنى لَه في الجَنَّةِ بحَسَب كَمالِ انتِفاعِ النَّاسِ بما بناه لَهم في الدُّنيا، ويَشرُفُ على سائِرِ بُنيانِ الجَنَّةِ كَما تَشرُفُ المَساجِدُ في الدُّنيا على سائِرِ البُنيانِ، وإن كانَ لا نِسبةَ لِما في الدُّنيا إلى ما في الآخِرةِ...  وقَد دَلَّ على ما قُلناه: ما خَرَّجَه الإمامُ أحمَدُ مِن حَديثِ أسماءَ بنتِ يَزيدَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن بنى للهِ مَسجِدًا في الدُّنيا فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَبني لَه بيتًا أوسَعَ مِنه في الجَنَّةِ)) [4638] أخرجه أحمد (27612)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1554)، والعقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (2/126) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27612)، ووثق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/11). [4639] يُنظر: ((فتح الباري)) (2/ 503). .
وعَن أُمِّ حَبيبةَ رَضِيَ اللهُ عَنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن عَبدٍ مُسلِمٍ يُصَلِّي للهِ كُلَّ يَومٍ ثِنْتي عَشَرة رَكعةً تَطَوُّعًا، غيرَ فريضةٍ، إلَّا بنى اللهُ لَه بيتًا في الجَنةِ، أو إلَّا بُني لَه بيتٌ في الجَنةِ )) قالت أم حَبيبةَ: فما بَرِحْتُ أصلِّيهنَّ بَعدُ [4640] أخرجه مسلم (728). .
قال ابنُ باز: (مَن حافَظَ عليها فهو على خيرٍ عَظيمٍ، وفي هذا الحَديثِ أنَّه مَوعُودٌ بالجَنَّةِ إذا صَلاها في اليَومِ تَطَوُّعًا بنى اللهُ لَه بيتًا في الجَنةِ، وهي كَما تقَدَّم أربَعٌ قَبلَ الظُّهرِ، يُسَلِّمُ مِن كُلِّ ثِنْتَينِ، وثِنتانِ بَعدَ الظُّهرِ -يَعني رَكعَتينِ- ورَكعَتانِ بَعدَ المَغرِب، ورَكعَتانِ بَعدَ العِشاءِ، ورَكعَتانِ قَبلَ صَلاةِ الصُّبحِ. هذه يُقالُ لَها: الرَّواتِبُ) [4641] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (10/ 290). .
وقال ابنُ عُثيمين: (اعلَمْ أنَّ مِن نِعمةِ الله عَزَّ وجَلَّ أنْ شَرعَ لِعِبادِه نَوافِلَ زائِدةً عَنِ الفَريضةِ لِتُكمَلَ بها الفَرائِضُ؛ لِأنَّ الفَرائِضَ لا تَخلُو مِن نَقصٍ، ولَولا أنَّ اللهَ شَرعَها لَكانَت بِدعةً، لَكِن مِن نِعمةِ الله أنْ شَرعَ هذه النَّوافِلَ حَتَّى تُكمِلَ نَقصَ الفَرائِضِ، والنَّوافِلُ أنواعٌ مُتَعَدِّدةٌ وأجناسٌ؛ مِنها الرَّواتِبُ التَّابعةُ لِلمَفرُوضاتِ، وهي اثنَتا عَشَرة رَكعةً؛ أربَعٌ قَبلَ الظُّهرِ يُسلِّمُ بينَ كُلِّ رَكعَتينِ، ورَكعَتانِ بَعدَها، ورَكعَتانِ بَعدَ المَغرِب، ورَكعَتانِ بَعدَ العِشاءِ، ورَكعَتانِ قَبلَ صَلاةِ الفَجْرِ، مَن صَلاهنَّ في كُلِّ يَومٍ وليلةٍ بنى اللهُ لَه بيتًا في الجَنةِ، كَما في حَديثِ أمِّ حَبيبةَ رَضِيَ اللهُ عَنها) [4642] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (5/ 121). .

انظر أيضا: