الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الخَامسُ: أنهارُ الجَنَّةِ

قال اللهُ تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة: 25] .
قال ابنُ جَريرٍ: (هذا أمرٌ مِنَ اللهِ نَبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإبلاغِ بشارَتِه خَلْقَه الَّذينَ آمَنُوا به وبمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبما جاءَ به مِن عِندِ رَبِّه، وصَدَّقُوا إيمانَهم ذَلِكَ وإقرارَهم بأعمالِهمُ الصَّالِحةِ، فقال لَه: يا مُحَمَّدُ بَشِّرْ مَن صَدَّقَكَ أنَّكَ رَسولي، وأنَّ ما جِئْتَ به مِنَ الهُدى والنُّورِ فمِن عِندي، وحَقَّقَ تَصديقَه ذَلِكَ قَولًا بأداءِ الصَّالِحِ مِن الأعمالِ الَّتي افتَرَضتُها عليه وأوجَبتُها في كتابي على لِسانِك عليه- أنَّ لَه جَناتٍ تجري مِن تَحتِها الأنهارُ خاصَّةً، دُونَ مَن كَذَّبَ بكَ وأنكَرَ ما جِئْتَ به مِنَ الهُدى مِن عِندي وعاندَكَ، ودُونَ مَن أظهَرَ تَصديقَكَ وأقَرَّ بأنَّ ما جِئْتَه به فمِن عِندي قَولًا، وجَحَدَه اعتِقادًا ولَم يُحَقِّقْه عَمَلًا؛ فإنَّ لأولئك النَّارَ الَّتي وَقُودُها النَّاسُ والحِجارةُ مُعَدَّة عِندي. والجَنَّاتُ جَمعُ جَنَّةٍ، والجَنَّةُ: البُستانُ. وإنَّما عَنى جَلَّ ذِكرُه بذِكرِ الجَنَّةِ ما في الجَنَّةِ مِن أشجارِها وثِمارِها وغُرُوسِها دُونَ أرضِها؛ فلِذَلِكَ قال عَزَّ ذِكرُه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ؛ لِأنَّه مَعلومٌ أنَّه إنَّما أرادَ جَلَّ ثَناؤُه الخَبَرَ عَن ماءِ أنهارِها أنَّه جارٍ تَحتَ أشجارِها وغُرُوسِها وثِمارِها، لا أنَّه جارٍ تَحتَ أرضِها؛ لِأنَّ الماءَ إذا كانَ جاريًا تَحتَ الأرضِ فلا حَظَّ فيها لِعُيُونِ مَن فَوقَها إلَّا بكَشفِ السَّاتِرِ بينها وبينه) [4547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 406). .
وقال النَّسَفيُّ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الجُملةُ في مَوضِعِ النِّصْبِ صِفةً لِجَناتٍ، والمُرادُ مِن تَحتِ أشجارِها، كَما تُرى الأشجارُ النَّابتةُ على شَواطِئِ الأنهارِ الجاريةِ وأنهارُ الجَنَّةِ تَجري في غيرِ أُخدُودٍ. وأنزَهُ البَساتينِ ما كانَت أشجارُها مُظِلَّةً، والأنهارُ في خِلالِها مُطَّرِدةً) [4548] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (1/ 69). .
وقال السَّفارينيُّ: (قال تعالى: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البَقرةُ: 25] ، وقال تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ [يونس: 9] .
فدَلَّ على أنَّ الأنهارَ مَوجُودةٌ حَقيقةً، وأنَّها جاريةٌ، وأنَّها تَحتَ غُرَفِهم وقُصُورِهم وبَساتينِهم) [4549] يُنظر: ((البحور الزاخرة)) (3/ 1103). .
قال ابنُ القيِّمِ: (فصلٌ: في أنهارِ الجَنَّةِ
أنهارُها في غيرِ أخدُودٍ جَرَت ... سُبحانَ مُمسِكِها عَنِ الفَيضَانِ
مِن تَحتِهم تَجري كَما شاؤُوا مُفَجَّـ ... ـرةً وما لِلنَّهرِ مِن نُقصانِ) [4550] يُنظر: ((الكافية الشافية)) (ص: 968). .
وقال مُحَمَّد خَليل هراس في شَرحِ الأبياتِ السَّابقةِ: (يَعني أنَّ أنهارَ الجَنَّةِ تَجري على وَجهِ الأرضِ في غيرِ أخاديدَ، وأمَّا قَولُه تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة: 25] فالمُرادُ أنَّها تَجري تَحتَ غُرَفِهم وقُصُورِهم وبَساتينِهم، واللهُ سُبحانَه يُمسِكُها أن تَفيضَ على الجانِبينِ، وهي أنهارٌ مُطَّرِدةٌ دائِمةُ الجَرَيانِ لا يَطرَأُ لَها غيضٌ ولا نُقصانٌ، وتَتَفَجَّرُ لَهم كَما شاءُوا وأينَما كانُوا، كَما قال تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 6] ) [4551] يُنظر: ((شرح القصيدة النونية)) (2/ 374). .
وأنهارُ الجَنَّةِ تُفَجَّرُ مِنَ الفِردَوسِ.
عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فإذا سَألتُمُ اللَّهَ، فاسألُوه الفِردَوسَ؛ فإنَّه أوسَطُ الجَنَّةِ وأعلى الجَنَّةِ -أُراه- فوقَه عَرْشُ الرَّحمَنِ، ومِنه تُفجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ )) [4552] أخرجه البخاري (2790) مطولًا. .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: ((ومِنه تُفجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ)) أي مِنَ الفِردَوس، ووَهِمَ من زَعَم أنَّ الضَّميرَ لِلعَرْشِ) [4553] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 13). .
وقال أيضًا: (إنَّ الضَّميرَ لِلفِردَوس جَزمًا، ولا يَستَقيمُ أن يَكُونَ لِلجِنانِ كُلِّها) [4554] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 414). .
وعَن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الجَنَّةُ مِئةُ دَرَجةٍ، ما بينَ كُلِّ دَرَجَتينِ مِنهما كَما بينَ السَّماءِ والأرضِ، الفِردَوسُ أعلاها دَرَجةً، ومِنها تُفجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ الأربَعةُ، ومِن فوقِها يَكُونُ العَرشُ، وإذا سَألتُمُ اللهَ فاسألُوه الفِردَوسَ )) [4555] أخرجه الترمذي (2531)، وأحمد (22738). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2531)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22738)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (269). .
قال ابنُ القيِّمِ: (أنهارُ الجَنَّةِ تَتَفَجَّرُ مِن أعلاها، ثُمَّ تَنحَدِرُ نازِلةً إلى أقصى دَرَجاتِها) [4556] يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 180). .
وعَن مالِكِ بنِ صَعصَعةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رُفِعَت لي سِدْرةُ المُنتَهى، فإذا نَبْقُها كَأنَّه قِلالُ هَجَرٍ وورَقُها كَأنَّه آذانُ الفيُولِ، في أصلِها أربَعةُ أنهارٍ، نَهرانِ باطِنانِ، ونَهرانِ ظاهرانِ، فسَألْتُ جِبريلَ، فقال: أمَّا الباطِنانِ: ففي الجَنةِ، وأمَّا الظَّاهرانِ: النِّيلُ والفُراتُ )) [4557] أخرجه مطولًا البخاري (3207) واللَّفظُ له، ومسلم (164). .
قال النَّوويُّ: (قال مُقاتِلٌ: الباطِنانِ هما السَّلْسبيلُ والكَوثَرُ [4558] قال مقاتل: (ينبع من ساق السِّدرة عينان أحدُهما السلسبيلُ، والأخرى الكوثَرُ، فينفجِرُ من الكوثَرِ أربعةُ أنهارٍ التي ذكر اللهُ تعالى فى سورةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ الماءُ، واللَّبَن والعَسَل والخَمر) ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 161). . قال القاضي عياضٌ رَحِمه اللَّهُ: هذا الحَديثُ يَدُلُّ على أنَّ أصلَ سِدْرةِ المُنتَهى في الأرضِ لِخُرُوجِ النِّيلِ والفُراتِ مِن أصلِها [4559] قال عياض: (قولُه في ذكر الأنهار الأربعة، وأنَّه رآها تخرجُ من أصلها، كذا جاء فى الأمِّ، أي: من أصلِ سِدرةِ المنتهى، وكذا جاء مبيَّنًا فى البُخاري. وقوله: (وأمَّا النهرانِ الظَّاهِرانِ فالنِّيلُ والفُراتُ): يُشعِرُ أنَّ أصلَ سِدرةِ المنتهى فى الأرضِ، واللهُ أعلَمُ) ((إكمال المعلم)) (1/ 503). . قُلتُ: هذا الَّذي قاله ليسَ بلازِمٍ، بَل مَعناه أنَّ الأنهارَ تَخرُجُ مِن أصلِها ثُمَّ تَسيرُ حيثُ أرادَ اللهُ تعالى حَتَّى تَخرُجَ مِنَ الأرضِ وتَسيرَ فيها، وهذا لا يَمنَعُه عَقلٌ ولا شَرعٌ، وهو ظاهرُ الحَديثِ؛ فوجَبَ المَصيرُ إليه. واللهُ أعلَمُ) [4560] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/ 224). .
وقال ابنُ حَجَرٍ في حَديثٍ: ((فإذا هو في السَّماءِ الدُّنيا بنَهرينِ يطردانِ، فقال: ما هذانِ النَّهرانِ يا جِبريلُ؟ قال: هذا النِّيلُ والفُراتُ عُنصُرُهما )) [4561] أخرجه البخاري (7517) من حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه. : (ظاهِرُ هذا يُخالِفُ حَديثَ مالِكِ بنِ صَعصَعةَ؛ فإنَّ فيه بَعدَ ذِكرِ سِدرةِ المُنتَهى: فإذا في أصلِها أربَعةُ أنهارٍ، ويُجمَعُ بأنَّ أصلَ نَبعِهما مِن تَحتِ سِدْرةِ المُنتَهى، ومَقرُّهما في السَّماءِ الدُّنيا، ومِنها يَنزِلانِ إلى الأرضِ) [4562] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 482). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سيحانُ وجيحانُ والفُراتُ والنِّيلُ كُلٌّ مِن أنهارِ الجَنَّةِ )) [4563] أخرجه مسلم (2839). .
قال عِياضٌ: (قيلَ: يُحتَمَلُ أنَّ المُرادَ بذَلِكَ أنَّ الإيمانَ عَمَّ بلادَها وفاضَ عليها، وأنَّ الأجسامَ المُتَغَذِّيةَ بهذه المياه صائِرةٌ إلى الجَنَّةِ، ويُحتَمَلُ أنَّه على ظاهِرِه، وأنَّ لَها مادَّةً مِنَ الجَنَّةِ؛ إذِ الجَنةُ مَوجُودةٌ مَخلُوقةٌ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ) [4564] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 372). .
وقال النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ سيحانَ وجيحانَ غيرُ سيَحُون وجيحُون؛ فأمَّا سيَحانُ وجيحانُ المَذكُورانِ في هذا الحَديثِ اللَّذانِ هما مِن أنهارِ الجَنَّةِ في بلادِ الأرمنِ، فجيحانُ نَهرُ المصيصةِ، وسيحانُ نَهرُ أذَنة، وهما نَهرانِ عَظيمانِ جِدًّا أكبَرُهما جيحانُ، فهذا هو الصَّوابُ في مَوضِعِهما... وأمَّا قَولُ القاضي عياضٌ: هذه الأنهارُ الأربَعةُ أكبَرُ أنهارِ بلادِ الإسلامِ؛ فالنِّيلُ بمِصرَ، والفُراتُ بالعِراقِ، وسيحانُ وجيحانُ -ويُقالُ سيحُونُ وجيحُون- ببلادِ خُراسانَ، ففي كَلامِه إنكارٌ مِن أوجُهٍ؛ أحَدُها: قَولُه الفُراتُ بالعِراقِ، وليسَ بالعِراقِ بَل هو فاصِلٌ بينَ الشَّامِ والجَزيرةِ، والثَّاني: قَولُه: سيَحانُ وجيحانُ -ويُقالُ سيحُونُ وجيحُون- فجَعَلَ الأسماءَ مُتَرادِفةً، وليسَ كَذَلِكَ، بَل سيحانُ غيرُ سيَحُونٍ وجيحانُ غيرُ جيحُونٍ باتِّفاقِ النَّاسِ كَما سَبَقَ، الثَّالِثُ: أنَّه ببلادِ خُراسانَ، وأمَّا سيَحانُ وجيحانُ ببلادِ الأرمَنِ بقُرب الشَّامِ، واللهُ أعلَمُ، وأمَّا كَونُ هذه الأنهارِ مِن ماءِ الجَنَّةِ ففيه تَأويلانِ ذَكرَهما القاضي عياضٌ؛ أحَدُهما: أنَّ الإيمانَ عَمَّ بلادَها أوِ الأجسامُ المُتَغَذِّيةُ بمائِها صائِرةٌ إلى الجَنةِ، والثَّاني وهو الأصَحُّ أنَّها على ظاهِرِها وأنَّ لَها مادَّةً مِنَ الجَنَّةِ، والجَنَّةُ مَخلُوقةٌ مَوجُودةٌ اليَومَ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ) [4565] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 176). .
وقال الألبانيُّ: (لَعَلَّ المُرادَ مِن كَونِ هذه الأنهارِ مِنَ الجَنَّةِ أنَّ أصلَها مِنها، كَما أنَّ أصلَ الإنسانِ مِنَ الجَنَّةِ، فلا يُنافي الحَديثُ ما هو مَعلُومٌ مُشاهَدٌ مِن أنَّ هذه الأنهارَ تَنبعُ مِن مَنابعِها المَعرُوفةِ في الأرضِ، فإذا لَم يَكُن هذا هو المَعنى أو ما يُشبِهُه، فالحَديثُ مِن أُمُورِ الغيبِ الَّتي يَجِبُ الإيمانُ بها، والتَّسليمُ لِلمُخْبِرِ عَنها) [4566] يُنظر: ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/ 229). .
ومِن أنهارِ الجَنَّةِ الكَوثَرُ الَّذي أعطاه اللهُ لِرَسُولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال اللهُ تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] .
وعَن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بينَما أنا أسيرُ في الجَنَّةِ إذ أنا بنَهرٍ حافَتاه قِبابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قُلتُ: ما هذا يا جِبريلُ؟ قال: هذا الكَوثَرُ الَّذي أعطاكَ رَبُّكَ، فإذا طِينُه -أو طِيبُه [4567] هذا الشَّكُّ مِن هُدبة بن خالد أحدِ الرواةِ في سلسلة إسنادِ هذا الحديث. - مِسْكٌ أذفَرُ [4568] قال القاري: (أي: شديدُ الرائحةِ. قال الطِّيبي رحمه الله: أي طَيِّبُ الرِّيحِ، والذَّفَر -بالتحريكِ- يقعُ على الطَّيِّبِ والكَريهِ، ويُفرَّق بينهما بما يضافُ إليه ويوصَفُ به) ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3536). ) [4569] أخرجه البخاري (6581). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: أيِ البُخاريِّ في بابِ الحَوضِ وقَولُ الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أشارَ إلى أنَّ المُرادَ بالكَوثَرِ النَّهرُ الَّذي يَصُبُّ في الحَوضِ، فهو مادَّةُ الحَوضِ كَما جاءَ صَريحًا في سابعِ أحاديثِ البابِ [4570] وهو الحديث السابق. [4571] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/ 467). .
وقال ابنُ باز: (الكَوثرُ نَهرٌ في الجَنَّةِ عَظيمٌ يَصُبُّ مِنه ميزابانِ في الحَوضِ في الأرضِ يَومَ القيامةِ، وهذا ما أكرَمَ اللهُ به نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [4572] يُنظر: ((الحلل الإبريزية)) (3/ 444). .
وأنهارُ الجَنَّةِ ليسَت ماءً فحَسبُ، بَل مِنها الماءُ، ومِنها اللَّبَنُ، ومِنها الخَمرُ، ومِنها العَسَلُ المُصفَّى.
قال اللهُ تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد: 15] .
قال ابنُ القيِّمِ: (ذَكَر سُبحانَه هذه الأجناسَ الأربَعةَ، ونَفى عَن كُلِّ واحِدٍ مِنها الآفةَ الَّتي تَعرِضُ لَه في الدُّنيا؛ فآفةُ الماءِ أن يَأسَنَ ويَأجَنَ مِن طُولِ مُكْثِه، وآفةُ اللَّبَنِ أن يَتَغيَّرَ طَعْمُه إلى الحُمُوضةِ وأن يَصيرَ قارِصًا، وآفةُ الخَمرِ كَراهةُ مَذاقِها المُنافي في اللَّذَّةِ وشربها، وآفةُ العَسَلِ عَدَمُ تَصفيتِه.
وهذا مِن آياتِ الرَّبِّ تعالى أن تَجريَ أنهارٌ مِن أجناسٍ لَم تَجرِ العادةُ في الدُّنيا بإجرائِها، ويُجريها في غيرِ أخدُودٍ، ويَنفي عَنها الآفاتِ الَّتي تَمنَعُ كَمالَ اللَّذَّةِ بها) [4573] يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 179). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ قال عِكرِمةُ: مَثَلُ الجَنَّةِ أي: نَعْتُها: فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ قال ابنُ عَبَّاس، والحَسَنُ، وقَتادةُ: يَعني غيرَ مُتَغيِّرٍ. وقال قَتادةُ والضَّحَّاكُ وعَطاءٌ الخُراسانيُّ: غيرُ مُنتِنٍ. والعَرَبُ تَقُولُ: أَسِنَ الماءُ: إذا تَغيَّرَ ريحُه... وَأَنْهَارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ أي: بَل في غايةِ البياضِ والحَلاوةِ والدُّسُومةِ... وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشارِبِينَ أي: ليسَت كِريهةَ الطَّعمِ والرَّائِحةِ كَخَمْرِ الدُّنيا، بَل هي حَسنةُ المَنظَرِ والطَّعمِ والرَّائِحةِ والفِعلِ، لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [الصافات: 47] ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [الواقعة: 19] ، بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات: 46] ... وقَولُه: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي: وهو في غايةِ الصَّفاءِ، وحُسنِ اللَّونِ والطَّعمِ والرِّيحِ... وفي الصَّحيحِ: ((إذا سَألتُمُ اللهَ فاسألُوه الفِردَوسَ؛ فإنَّه أوسَطُ الجَنَّةِ وأعلى الجَنَّةِ، ومِنه تُفجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ، وفَوقَه عَرْشُ الرَّحمَنِ )) [4574] أخرجه البخاري (2790) مطولًا من حديث أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. [4575] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 312). .
وقال السَّعْديُّ: (أي: مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي أعَدَّها اللهُ لِعَبادِه، الَّذينَ اتَّقَوا سَخَطَه، واتَّبَعُوا رِضْوانَه، أي: نَعْتُها وصِفَتُها الجَميلةُ.
فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي: غيرِ مُتَغيِّرٍ، لا بوخمٍ ولا بريحٍ مُنتِنةً، ولا بمَرارةٍ، ولا بكُدُورةٍ، بَل هو أعذَبُ المياهِ وأصفاها، وأَطيَبُها ريحًا، وألذُّها شُرْبًا. وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغيَّرْ طَعْمُهُ بحُمُوضةٍ ولا غيرِها. وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي: يَلتَذُّ به شارِبُه لَذةً عَظيمةً، لا كَخَمرِ الدُّنيا الَّذي يُكرهُ مَذاقُه ويُصدِّعُ الرَّأسَ، ويَغُولُ العَقلَ. وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى مِن شَمعِه، وسائِرِ أوساخِه) [4576] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 786). .
وعَن مُعاويةَ بنِ حَيدةَ القُشَيريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجَنةِ بَحرَ الماءِ، وبَحرَ العَسَلِ، وبَحرَ اللَّبَنِ، وبَحرَ الخَمرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الأنهارُ بعْدُ )) [4577] أخرجه الترمذي (2571) واللَّفظُ له، وأحمد (20052). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (7409)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2571)، وحسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (20052). .
قال علي القاري: (الظَّاهرُ أنَّ المُرادَ بالبِحارِ المَذكُورةِ هي أُصولُ الأنهارِ المَسطُورةِ في القُرآنِ، كَما قال تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَم يَتَغيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] ، وقَولُه: "ثُمَّ تَشَقَّقُ" بحَذفِ إحدى التَّاءينِ، أي: تَفتَرِقُ الأنهارُ إلى الجَداوِلِ بَعدَ تَحَقُّقِ الأنهارِ إلى بساتينِ الأبرارِ وتَحتَ قُصُورِ الأخيارِ، على أنَّه قَد يُقالُ: المُرادُ بالبِحارِ هي الأنهارُ، وإنَّما سُمِّيَت أنهارًا لِجَريانِها بخِلافِ بِحارِ الدُّنيا؛ فإنَّ الغالِبَ مِنها أنَّها في مَحَلِّ القَرارِ) [4578] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (9/ 3598). .
وقال الصَّنعانيُّ: ( ((إنَّ في الجَنَّةِ بَحرَ الماءِ)) غيرَ آسِنٍ. ((وبَحرَ العَسَلِ)) مُصفًّى. ((وبَحرَ اللَّبَنِ)) الَّذي لَم يَتَغيَّرْ طَعمُه. ((وبَحرَ الخَمرِ)) الَّذي ليسَ فيه غَولٌ ولا هم عَنه يُنزَفُونَ، وهو لَذَّةٌ لِلشَّاربِينَ. ((ثُمَّ تَشَقَّقُ الأنهارُ)) أي مِن هذه البِحارِ) [4579] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (4/ 20). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (فصلٌ: في أنهارِ الجَنَّةِ...
عَسَلٌ مُصفًّى ثُمَّ ماءٌ ثُمَّ خَمـ ... ـرٌ ثُمَّ أنهارٌ مِنَ الألبانِ
واللَّهِ ما تِلكَ المَوادُّ كَهذه ... لَكِن هما في اللَّفظِ مُجتَمِعانِ
هذا وبينَهما يَسيرُ تَشابُهٍ ... وهو اشتِراكٌ قامَ بالأذهانِ) [4580] يُنظر: ((الكافية الشافية)) (ص: 968). .
وقال مُحَمَّد خَليل هراس في شَرحِ الأبياتِ السَّابقةِ: (هي أنهارٌ تَجري بأنواعٍ مُختَلِفةٍ مِنَ الأشرِبةِ، كَما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] وليسَت هذه الأشرِبةُ كالمَعهودِ مِنها في الدُّنيا، بَل بينَها مِنَ التَّفاوُتِ في الطَّعمِ والشَّكلُ ما لا يَعلَمُه إلَّا اللَّهُ، ولا اشتِراكَ بينَها إلَّا في اللَّفظِ، كَما قال ابنُ عَبَّاسٍ: ليسَ في الجَنةِ مِمَّا في الدُّنيا إلَّا الأسماءُ، وبينَها كَذَلِكَ قَدرٌ يَسيرٌ مِنَ التَّشابُه، وهو اشتِراكُها في المَعنى الكُلِّيِّ الحاصِلِ في الأذهانِ) [4581] يُنظر: ((شرح القصيدة النونية)) (2/ 374). .

انظر أيضا: