الموسوعة العقدية

المَطلَب السَّابعُ: آخِرُ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ

عَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رَضيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنِّي لأعلَمُ آخِرَ أهلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنها، وآخِرَ أهلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ: رَجُلٌ يَخرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فيَقُولُ اللهُ تباركَ وتعالى لَه: اذهَب فادخُلِ الجَنَّةَ، فيَأتيها فيُخَيَّلُ إليه أنَّها مَلأى، فيَرجِعُ فيَقُولُ: يا رَبِّ، وجَدْتُها مَلأى، فيَقُولُ اللهُ تباركَ وتعالى لَه: اذهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ، قال: فيَأتيها فيُخَيَّلُ إليه أنَّها مَلأى، فيَرجِعُ فيَقُولُ: يا رَبِّ، وجَدْتُها مَلأى، فيَقُولُ اللهُ لَه: اذهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ؛ فإنَّ لَكَ مِثلَ الدُّنيا وعَشَرةَ أمثالِها -أو إنَّ لَكَ عَشَرةَ أمثالِ الدُّنيا- قال: فيَقُولُ: أتَسخَرُ بي -أو أتضحَكُ بي- وأنتَ المَلِكُ؟ قال: لَقَد رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَحِكَ حَتَّى بَدَت نَواجِذُه، قال: فكانَ يُقالُ: ذاكَ أدنى أهلِ الجَنَّةِ مَنزِلةً)) [4380] أخرجه البخاري (6571)، ومسلم (186) واللَّفظُ له. .
قال القسطلانيُّ: ( ((آخِرُ أهلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنها)) مِنَ النَّارِ نَفسِها أو مِن مُرُورِه على الصِّراطِ المَنصُوبِ عليها ((وآخِرُ أهلِ الجَنَّةِ دُخُولًا: رَجُلٌ يَخرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا))... أيْ: زَحفًا وزنًا ومَعنًى، وفي رِوايةِ أنسٍ عَنِ ابنِ مَسعُودٍ عِندَ مُسلِمٍ: آخِرُ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ رَجُلٌ، فهو يَمشي مَرَّةً ويَكبُو مَرَّةً، وتَسفَعُه النَّارُ مَرَّةً، فإذا جاوزَها التَفَتَ إليها فقال: تباركَ الَّذي نَجَّاني مِنكِ! [4381] أخرجه مسلم (187) مطولًا. ... ((تَسخَرُ مِني))...((أو)) قال ((تَضحَكُ مِني)) بالشَّكِّ ((وأنتَ المَلِكَ)) بكَسرِ اللَّامِ، ولِمُسلِمٍ مِن رِوايةِ أنسٍ عَنِ ابنِ مَسعُودٍ: ((أتَستَهزِئُ عَليَّ وأنتَ رَبُّ العالَمينَ؟ [4382] أخرجه مسلم (187) مطولًا من حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه بلفظ: ((.. يا ربِّ، أتستهزئُ مني وأنت ربُّ العالَمين؟)). )، وهذا وارِدٌ مِنه على سَبيلِ الفَرحِ غيرُ ضابطٍ لِما نالَه مِنَ السُّرُورِ ببُلُوغِ ما لَم يَخطُر ببالِه، فلَم يَضبِطْ لِسانَه دَهشةً وفَرَحًا، وجَرى على عادَتِه في الدُّنيا مِن مُخاطَبةِ المَخلُوقِ، ونَحوُه في حَديثِ التَّوبةِ قَولُ الرَّجُلِ عِندَ وِجْدانِ زادِه مَعَ راحِلَتِه مِن شِدَّةِ الفَرحِ: أنتَ عَبدي وأنا رَبُّكَ! [4383] لفظ الحديث: عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبده حين يتوب إليه من أحَدِكم كان على راحِلَتِه بأرضٍ فَلاةٍ، فانفلتت منه، وعليها طعامُه وشرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرةً، فاضطجع في ظِلِّها، قد أَيِسَ من راحلتِه، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخطامِها، ثم قال من شِدَّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك. أخطأ من شِدَّةِ الفَرَحِ)). أخرجه مسلم (2747). . قال عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ: ((فلَقَد رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَحِكَ)) أي: تَعجُّبًا وسُرُورًا مِمَّا رَأى مِن كَمالِ رَحمةِ الله ولُطفِه بعَبدِه المُذنِب وكَمالِ رِضاه عَنه ((حَتَّى بَدَت)) ظَهَرَت ((نَواجِذُه))... قال ابنُ الأثيرِ: النَّواجِذُ مِنَ الأسنانِ الضَّواحِكُ وهي الَّتي تَبدُو عِندَ الضَّحِكِ [4384] يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 20). . قال الرَّاوي نَقلًا عَنِ الصَّحابةِ أو عَن غيرِهم: ((وكانَ يُقالُ: ذَلِكَ))... ((أدنى)) أقَلُّ ((أهلِ الجَنَّةِ مَنزِلةً)) [4385] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (9/ 329). .
وقال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فيَقُولُ اللهُ تعالى لَه: اذهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ؛ فإنَّ لَكَ مِثلَ الدُّنيا وعَشَرةَ أمثالِها)) [4386] أخرجه البخاري (6571)، ومسلم (186) مطولًا من حديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. ، وفي الرِّوايةِ الأُخرى ((لَكَ الَّذي تَمنَّيتَ وعَشَرةُ أضعافِ الدُّنيا)) [4387] أخرجها مسلم (186) مطولًا من حديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. هاتانِ الرِّوايَتانِ بمَعنًى واحِدٍ، وإحداهما تَفسيرُ الأُخرى؛ فالمُرادُ بالأضعافِ الأمثالُ؛ فإنَّ المُختارَ عِندَ أهلِ اللُّغةِ أنَّ الضِّعفَ المِثْلَ، وأمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأُخرى في الكِتاب ((فيَقُولُ الله تعالى: أيُرضِيكَ أن أُعطيَكَ الدُّنيا ومِثْلَها مَعَها)) [4388] أخرجه مسلم (187) مطولًا من حديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. وفي الرِّوايةِ الأُخرى: ((أترَضى أن يَكُونَ لَكَ مِثلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِن مُلوكِ الدُّنيا؟ فيَقُولُ: رَضيتُ رَبِّ، فيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ ومِثلُه ومِثلُه ومِثلُه ومِثلُه ومِثلُه، فقال في الخامِسةِ: رَضيتُ رَبِّ، فيَقُولُ: هذا لَكَ وعَشَرةُ أمثالِه )) [4389] أخرجه مسلم (189) مطولًا من حديث المغيرة بن شعبة رَضِيَ اللهُ عنه. فهاتانِ الرِّوايَتانِ لا تُخالِفانِ الأُولَيَينِ؛ فإنَّ المُرادَ بالأُولى مِن هاتينِ أن يُقالَ لَه أولًا: لَكَ الدُّنيا ومِثلُها، ثُمَّ يَزادُ إلى تَمامِ عَشَرةِ أمثالِها كَما بيَّنَه في الرِّوايةِ الأخيرةِ، وأمَّا الأخيرةُ فالمُرادُ بها أنَّ أحَدَ مُلُوكِ الدُّنيا لا يَنتَهي مُلكُه إلى جَميعِ الأرضِ، بَل يَملِكُ بَعضًا مِنها، ثُمَّ مِنهم مَن يَكثُرُ البَعضُ الَّذي يَملِكُه ومِنهم مَن يَقِلُّ بَعضُه، فيُعطى هذا الرَّجُلُ مِثلَ أحَدِ مُلوكِ الدُّنيا خَمسَ مَرَّاتٍ، وذَلِكَ كُلُّه قَدْرُ الدُّنيا كُلِّها، ثُمَّ يُقالُ لَه: لَكَ عَشَرةُ أمثالِ هذا، فيَعُودُ مَعنى هذه الرِّوايةِ إلى مُوافَقةِ الرِّواياتِ المُتقَدِّمةِ، وللهِ الحَمدُ، وهو أعلَمُ) [4390] يُنظر: ((شرح مسلم)) (3/ 41). .
وعَن عَبد اللهِ بن مَسعُودٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((آخِرُ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ رَجُلٌ، فهو يَمشي مَرَّةً، ويَكبُو مَرَّةً، وتَسفَعُه النَّارُ مَرَّةً، فإذا ما جاوزها التَفَتَ إليها، فقال: تباركَ الَّذي نَجَّاني مِنكِ، لَقَد أعطاني اللهُ شيئًا ما أعطاه أحَدًا مِنَ الأوَّلينَ والآخِرينَ، فتُرفَعُ لَه شَجَرةٌ، فيَقُولُ: يا رَبِّ، أدنِني مِن هذه الشَّجَرةِ فلأستَظِلَّ بَظِلِّها، وأشرَب مِن مائِها، فيَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ: يا ابنَ آدَم لَعَلِّي إنْ أَعطيتُكَها سَألتَني غيرَها؟ فيَقُولُ: لا، يا رَبِّ ويُعاهدُه أن لا يَسألَه غيرَها، قال: ورَبُّه عَزَّ وجَلَّ يَعذِرُه؛ لِأنَّه يَرى ما لا صَبْرَ لَه عليه، فيُدْنيه مِنها، فيَستَظِلُّ بَظِلِّها، ويَشرَبُ مِن مائِها، ثُمَّ تُرفَعُ لَه شَجَرةٌ هي أحسَنُ مِنَ الأُولى، فيَقُولُ: أيْ رَبِّ، أدنِني مِنَ الشَّجَرةِ لِأشرَبَ مِن مائِها وأستَظِلَّ بَظِلِّها، لا أسألُكَ غيرَها، فيَقُولُ: يا ابنَ آدَم، ألَم تُعاهِدْني أن لا تَسألَني غيرَها؟ فيَقُولُ: لَعَلِّي إنْ أدنيتُكَ مِنها تَسألُني غيرَها؟ فيُعاهدُه أن لا يَسألَه غيرَها، ورَبُّه تعالى يَعذِرُه؛ لِأنَّه يَرى ما لا صَبْرَ لَه عليه، فيُدْنيه مِنها، فيَستَظِلُّ بَظِلِّها، ويَشرَبُ مِن مائِها، ثُمَّ تُرفَعُ لَه شَجَرةٌ عِندَ باب الجَنَّةِ، وهي أحسَنُ مِنَ الأُولَيينِ، فيَقُولُ: أيْ رَبِّ أدنِني مِن هذه لِأستَظِلَّ بَظِلِّها، وأشرَبَ مِن مائِها، لا أسألُكَ غيرَها، فيَقُولُ: يا ابنَ آدَم، ألَم تُعاهِدْني أن لا تَسألَني غيرَها؟ قال: بلى، يا رَبِّ لا أسألُكَ غيرَها، ورَبُّه عَزَّ وجَلَّ يَعذِرُه؛ لِأنَّه يَرى ما لا صَبْرَ لَه عليه، فيُدْنيه مِنها، فإذا أدناه مِنها سَمِعَ أصَواتَ أهلِ الجَنَّةِ، فيَقُولُ: أي رَبِّ أدخِلْنيها، فيَقُولُ: يا ابنَ آدَم، ما يَصْريني مِنكَ، أيُرضِيكَ أن أُعطيَكَ الدُّنيا ومِثلَها مَعَها؟ قال: يا رَبِّ، أتَستَهزِئُ مِني وأنتَ رَبُّ العالَمينَ؟ فضَحِكَ ابنُ مَسعُودٍ، فقال: ألَا تَسألُوني مِمَّ أضحَكُ؟ فقالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قال: هَكَذا ضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فقال: مِن ضَحِكِ رَبِّ العالَمينِ، حينَ قال: أتَستَهزِئُ مِني وأنتَ رَبُّ العالَمينَ؟ فيَقُولُ: إنِّي لا أستَهزِئُ مِنكَ، ولَكِنِّي على ما أشاءُ قادِرٌ )) [4391] أخرجه مسلم (187). .
قال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((آخِرُ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ رَجُلٌ فهو يَمشي مَرَّةً ويَكبُو مَرَّةً وتَسفَعُه النَّارُ مَرَّةً)) أمَّا يَكبُو فمَعناه يَسقُطُ على وَجهِه. وأمَّا تَسفَعُه فهو بفَتحِ التَّاءِ وإسكانِ السِّينِ المُهمَلةِ وفَتحِ الفاءِ، ومَعناه: تَضرِبُ وجهَه وتُسَوِّدُه وتُؤَثِّرُ فيه أثَرًا. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لِأنَّه يَرى ما لا صَبْرَ لَه عليه)) كَذا هو في الأُصولِ في المَرَّتينِ الأُولَيينِ، وأمَّا الثَّالِثةُ فوقَعَ في أكثَرِ الأصُولِ ما لا صَبْرَ لَه عليها، وفي بَعضِها: عليه، وكِلاهما صَحيحٌ، ومَعنى عليها، أي: نِعمة لا صَبْرَ لَه عليها، أيْ: عَنها. قَولُه عَزَّ وجَلَّ: ((يا بنَ آدَمَ ما يَصْريني مِنكَ)) هو بفَتحِ الياءِ وإسكانِ الصَّادِ المُهمَلةِ، ومَعناه: يَقطَعُ مَسألَتَكَ مِني. قال أهلُ اللُّغةِ: الصَّرْيُ -بفَتحِ الصَّادِ وإسكانِ الرَّاءِ- هو القَطعُ... والمَعنى: أيُّ شيءٍ يُرضيكَ ويَقطَعُ السُّؤالُ بيني وبينَكَ؟ واللهُ أعلَمُ) [4392] يُنظر: ((شرح مسلم)) (3/ 42). .
وعَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أدنى أهلِ الجَنَّةِ مَنزِلةً: رَجُلٌ صَرفَ اللهُ وَجْهَه عَنِ النَّارِ قِبَلَ الجَنَّةِ، ومَثَّلَ لَه شَجَرةً ذاتَ ظِلٍّ، فقال: أيْ رَبِّ، قَدِّمني إلى هذه الشَّجَرةِ لِأكُونَ في ظِلِّها، وساقَ الحَديثَ بنَحوِ حَديثِ ابنِ مَسعُودٍ، ولَم يَذكُرْ: فيَقُولُ: يا ابنَ آدَمَ، ما يَصِريني مِنكَ؟... إلى آخِرِ الحَديثِ)). وزادَ فيه: ((ويُذَكِّرُه اللهُ، سَلْ كَذا وكَذا، فإذا انقَطَعَت به الأمانيُّ، قال اللهُ: هو لَكَ وعَشَرةُ أمثالِه، قال: ثُمَّ يَدخُلُ بيتَه، فتَدخُلُ عليه زَوجَتاه مِنَ الحُورِ العِينِ، فيَقُولانِ: الحَمدُ للهِ الَّذي أحياكَ لَنا، وأحيانَا لَكَ، قال: فيَقُولُ: ما أُعطِيَ أحَدٌ مِثلَ ما أُعطِيتُ! )) [4393] أخرجه مسلم (188). .
قال الطِّيبيُّ: ( ((الحَمدُ للهِ الذي أحياكَ لَنا، وأحيانَا لَكَ)) مَعناه: خَلقَكَ لَنا وخَلَقنا لَكَ، وُضِعَ أحيا مَوضِعَ خَلقَ إشعارًا بالخُلُودِ، وأنَّه تعالى جَمعَ بينَهما في هذه الدَّارِ الَّتي لا مَوتَ فيها، وأنَّها دائِمةُ السُّرُورِ والحياةِ، قال اللهُ تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ. واللهُ أعلَمُ) [4394] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (11/ 3538). .

انظر أيضا: