الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الخامِسُ: مَن يَشمَلُهمُ الحِسابُ

1- الأنبياءُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ:
قال اللهُ تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] .
قال الرَّازي: (الآيةُ تَدُلُّ على أنَّه تعالى يُحاسِبُ كُلَّ عِبادِه لأنَّهم لا يَخرُجونَ عن أن يَكونوا رُسُلًا أو مُرسَلًا إليهم، ويَبطُلَ قَولُ مَن يَزعُمُ أنَّه لا حِسابَ على الأنبياءِ والكُفَّارِ) [3696] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/ 201). .
وقال أيضًا: (الذينَ أُرسِلَ إليهم همُ الأمَّةُ، والمُرسَلونُ همُ الرُّسُلُ، فبيَّنَ تعالى أنَّه يَسألُ هَذينَ الفَريقينِ. ونَظيرُ هذه الآيةِ قَولُه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93]...
فإنْ قيلَ: فما الفائِدةُ في سُؤالِ الرُّسُلِ مَعَ العِلمِ بأنَّه لَم يَصدُرْ عنهم تَقصيرٌ البَتَّةَ؟
قُلنا: لأنَّهم إذا أثبَتوا أنَّه لَم يَصدُرْ عنهم تَقصيرٌ البَتَّةَ التَحَقَ التَّقصيرُ بَكُلِّيَّةٍ بالأمَّةِ فيَتَضاعَفُ إكرامُ الله في حَقِّ الرُّسُلِ لظُهورِ براءَتِهم عن جَميعِ موجِباتِ التَّقصيرِ، ويَتَضاعَفُ أسبابُ الخِزيِ والإهانةِ في حَقِّ الكُفَّارِ لَمَّا ثَبَتَ أنَّ كُلَّ التَّقصيرِ كان منهم) [3697] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/200). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (الرَّبُّ تَبارَك وتعالى يَومَ القيامةِ يَسألُ الأُمَمَ عَمَّا أجابوا رُسُلَه فيما أرسَلَهم به، ويَسألُ الرُّسُلُ أيضًا عن إبلاغِ رِسالاتِه؛ ولِهذا قال عليُّ بنُ أبي طَلحةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ في تَفسيرِ هذه الآيةِ: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ قال: يَسألُ الله النَّاسَ عَمَّا أجابوا المُرسَلينَ، ويَسألُ المُرسَلينَ عَمَّا بَلَّغوا) [3698] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/388). .
وقال السَّفارينيُّ: (لا حِسابَ على الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ على سَبيلِ المُناقَشةِ والتَّقريعِ... وعُمومُ الآياتِ الكَريمةِ مَخصوصٌ بأحاديثِ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ؛ ولِهذا قال عُلَماؤُنا في عَقائِدِهم: ويُحاسَبُ المُسلِمونَ المُكَلَّفونَ إلَّا من شاءَ اللهُ أن يُدخِلَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، وكُلٌّ مُكَلَّفٌ مَسؤولٌ، يَسألُ من شاءَ من الرُّسُلِ عن تَبليغِ الرِّسالةِ، ومن شاءَ من الكُفَّارِ عن تَكذيبِ الرُّسُلِ) [3699] يُنظر: ((لوامع الأنوار)) (2/175). .
وقال النَّسَفيُّ: (إنَّ الأنبياءَ ليس عليهم حِسابٌ ولا عَذَابٌ ولا سُؤالُ القَبرِ، وكَذلك أطفالُ المُؤمِنينَ ليس عليهم حِسابٌ ولا عَذَابٌ ولا سُؤالُ القَبرِ، وكَذلك العَشَرةُ الذينَ بشَّرهمُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجَنَّةِ ليس عليهم حِسابٌ، هذا كُلُّه حِسابُ المُناقَشةِ. أمَّا حِسابُ العَرضِ للأنبياءِ والصَّحابةِ جَميعًا يُقالُ: فعَلتَ كذا وعَفَوْتُ عنك. وحِسابُ المُناقَشةِ يُقالُ: لمَ فعَلتَ كذا؟) [3700] يُنظر: ((بحر الكلام)) (ص: 179). .
وقال الشِّنقيطيُّ: (سُؤالُ اللهِ للرُّسُلِ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائِدةُ: 109] لتَوبيخِ الذينَ كذَّبوهم، كسُؤالِ المَوءودةِ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ لتَوبيخِ قاتِلِها) [3701] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) (ص: 100). .
2- المؤمِنون:
يُحاسِبُ اللهُ تعالى المُؤمِنينَ مُحاسَبةَ من تُوزَنُ حَسَناتُه وسيِّئاتُه، وبِالحِسابِ يَمتازُ بَعضُهم على بَعضٍ بالدَّرَجاتِ؛ تَبَعًا لثِقلِ مَوازينِهم وخِفَّتِها.
قال اللهُ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8] .
قال ابنُ جَريرٍ: (وقَولُه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7] يَقولُ: فمَن عَمِلَ في الدُّنيا وزنَ ذَرَّةٍ من خَيرٍ، يَرى ثَوابَه هنالِك، وقَولُه: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 8] يَقولُ: ومَن كان عَمِلَ في الدُّنيا وزنَ ذَرَّةٍ من شَرٍّ يَرى جَزاءَه هنالِك) [3702] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 562). .
قال ابنُ جُزَي: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ المِثقالُ هو الوَزنُ، والذَّرَّةُ هيَ النَّملةُ الصَّغيرةُ... وهذه الآيةُ هيَ في المُؤمِنينَ؛ لأنَّ الكافِرَ لا يُجازى في الآخِرةِ على حَسَناتِه؛ إذ لَم تُقبَلْ منه... وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ هذا على عُمومِه في حَقِّ الكافِرِ، وأمَّا المُؤمِنونَ فلا يُجازَونَ بذُنوبِهم إلَّا بسِتَّةِ شُروطٍ: وهيَ أن تَكونَ ذُنوبُهم كبائِرَ، وأن يَموتوا قَبلَ التَّوبةِ منها، وألَّا تَكونَ لهم حَسَناتٌ أرجَحُ في الميزانِ منها، وألَّا يُشفَعُ فيهم، وألَّا يَكونَ مِمَّنِ استَحَقَّ المَغفِرةَ بعَمَلٍ كأهلِ بَدرٍ، وألَّا يَعفوَ اللهُ عنهم، فإنَّ المُؤمِنَ العاصيَ في مَشيئةِ الله؛ إنْ شاءَ عَذَّبَه، وإن شاءَ غَفرَ له) [3703] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 503). .
ويُستَثْنَى منهم سبعون ألفًا مع زيادة عظيمة ورَدَ النصُّ بأنهم لا يُحاسَبون.
قال السَّفارينيُّ: (ثبَت في عِدَّةِ أخبارٍ عن النَّبيِّ المُختارِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -ما كَرَّ الليلُ على النَّهارِ- أنَّ طائِفةً من هذه الأمَّةِ بلا ارتيابٍ يَدخُلونَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، فيَدخُلونَ جَناتِ النَّعيمِ قَبلَ وضعِ المَوازينِ، وأخْذِ الصُّحُفِ بالشِّمالِ واليَمينِ) [3704] يُنظر: ((لوامع الأنوار)) (2/177). .
عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ الله عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ وعَدَني أن يُدخِلَ من أمَّتي الجَنَّةَ سَبْعينَ ألفًا بغَيرِ حِسابٍ))، فقال يَزيدُ بنَ الأخنَسِ السُّلَميُّ: واللهِ ما أولَئِك في أمَّتِك إلَّا كالذُّبابِ الأصهَبِ [3705] قال ابن الأثير: (الأصهب: الذي يعلو لونَه صُهبةٌ، وهي كالشقرة... والمعروف أن الصُّهبةَ مختصَّةٌ بالشعر، وهي حمرةٌ يعلوها سوادٌ). ((النهاية)) (3/ 62). في الذُّبَّانِ [3706] (واحدُ الذبَّانِ ذُبابٌ). يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 1484). ! فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فإنَّ رَبِّي قد وعَدني سَبْعينَ ألفًا مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبعونَ ألفًا، وزادَني ثَلاثَ حَثَيَاتٍ [3707] قال عياض: (ثلاثُ حَثَياتٍ ويروى حَفَناتٍ بفتح الحاء والفاء والثاء، قيل: هو الغَرْفُ ملءَ اليدِ، وقيل: الحَثْيةُ باليدِ الواحدةِ، والحَفنةُ بهما جميعًا). ((مشارق الأنوار)) (1/ 180). ...)) [3708] أخرجه أحمد (22156) واللفظ له، وابن حبان (7246)، والطبراني (8/181) (7665) صححه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (3614)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22156)، وصحح إسناده ابن حجر في ((الإصابة)) (3/651)، وحسنه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/82). والحديث روي بلفظ: ((وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، ولا عذاب مع كل ألف سبعين ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي)) أخرجه الترمذي (2437)، وابن ماجه (4286)، وأحمد (22303) واللفظ له صححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4286)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22303)، وحسنه الوادعي في ((الشفاعة)) (130)، وقوى إسناده الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (16/460)، وجوده ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/82). وقال الترمذي: حسن غريب. .
قال ابنُ بازٍ: (هذه الحَثَيَّاتُ لا يَعلَمُ مِقدارَها إلَّا الله سُبحانَه وتعالى. والجامِعُ في هذا أنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ استِقامٍ على أمرِ الله وعلى تَركِ مَحارِمِ الله ووَقِفَ عِندَ حُدودِ الله هو داخِلٌ في السُّبعينَ، داخِلٌ في حُكمِهم بأنَّه يَدخُلُ الجَنةَ بغَيرِ حِسابٍ ولا عَذَاب) [3709] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 70). .

انظر أيضا: