الموسوعة العقدية

الْمَبحَثُ الثَّامنُ والثَّلاثونَ: صِدْقُ رُؤيا الْمُؤمِنِ

عَن أبى هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه عَنِ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا اقتَرَبَ الزَّمانُ لَم تَكُد رُؤيا الْمُسْلِمِ تَكذِبُ، وأصدَقُكم رُؤيا أصدَقُكم حَديثًا )) [2222] أخرجه مُطَولًا البخاري (7017)، ومسلم (2263) واللَّفظُ له .
قال الخَطابيُّ: (في اقتِرابِ الزَّمانِ قَولانِ؛ أحَدُهما: أنَّه قُرْبُ زَمانِ السَّاعةِ ودُنُوُّ وقتِها.
والقَولُ الآخَرُ: أنَّ مَعنى اقتِرابِ الزَّمانِ اعتِدالُه واستِواءُ اللَّيلِ والنَّهارِ، والمُعَبِّرونَ يَزعُمونَ أنَّ أصدَقَ الرُّؤيا ما كان في أيَّامِ الرَّبيعِ ووَقتِ اعتِدالِ اللَّيلِ والنَّهارِ) [2223] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/ 139). .
وقال ابنُ بطالٍ: (قَولُه عليه السَّلامُ: ((إذا اقتَرَبَ الزَّمانُ لَم تَكَدْ تَكذِبُ رُؤيا الْمُؤمِنِ))، فمَعناه -والله أعلَمُ- إذا اقتَرَبَتِ السَّاعةُ وقُبِضَ أكثَرُ العِلمِ ودَرَسَت مَعالِمُ الدِّيانةِ بالهَرجِ والفِتنةِ، فكان النَّاسُ على فترةٍ مِنَ الرُّسُلِ يَحتاجُونَ إلى مُذكِّرٍ ومُجَدِّدٍ لِما دَرَسَ مِنَ الدِّين كما كانتِ الأمَمُ قَبلَنا تُذَكَّرُ بالنُّبوَّةِ، فلَمَّا كان نَبيُّنا مُحَمَّدٌ عليه السَّلامُ خاتَمَ الرُّسُلِ، وما بَعدَه مِنَ الزَّمانِ ما يُشبِه الفَترةَ؛ عُوِّضوا ممَّا مُنِعَ مِنَ النُّبوَّةِ بَعدَه بالرُّؤيا الصَّادِقةِ الَّتِى هى جُزءٌ من سِتَّة وأربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ الآتيةِ بالتَّبشيرِ والإنذارِ. وقَد ذَكرَ أبو سُليمانَ الخَطابي في غَريبِ الحَديثِ عَن أبي داوُدَ السِّجِستاني أنَّه كان يَقولُ في تَأويلِ قَولِه عليه السَّلامُ: ((إذا تَقارَبَ الزَّمانُ لَم تَكُد رُؤيا الْمُؤمِنَ تَكذِبُ)) قال: تَقارُبُ الزَّمانِ هو استِواءُ اللَّيلِ والنَّهارِ، قال: والمُعَبِّرونَ يَزعُمونَ أنَّ أصدَقَ الأزمانِ لوُقوعِ التَّعبيرِ وقتُ انبِثاقِ الأنوارِ، ووَقتُ يَنْعِ الثِّمارِ وإدراكِها، وهما الوَقْتانِ اللَّذانِ يَتَقارَبُ الزَّمانُ فيهما، ويَعتَدِلُ اللَّيلُ والنَّهارُ. قال الْمُؤَلِّفُ يَعني: ابنَ بطالٍ: والتَّأويلُ الأوَّلُ هو الصَّوابُ الذي أرادَه النَّبيُّ عليه السَّلامُ)  [2224]يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 538). .
وقال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه: ((إذا اقتَرَبَ الزَّمانُ لَم تَكُد رُؤيا الْمُسْلِمِ تَكذِبُ)) قيلَ في اقتِرابِ الزَّمانِ قَولانِ:
أحَدُهما: تَقارُبُ اللَّيلِ والنَّهارِ في الِاعتِدالِ، وهو الزَّمانُ الذي تَتَفَتَّقُ فيه الأزهارُ، وتينعُ فيه الثِّمارُ، ومُوجِبُ صَدقِ الرُّؤيا في ذلك الزَّمانِ اعتِدالُ الأمزِجةِ فيه، فلا يَكونُ في الْمَنامِ أضغاثُ الأحلامِ؛ فإنَّ من موجِباتِ التَّخليطِ فيها غَلَبةُ بَعضِ الأخلاطِ على صاحِبِها.
وثانيهما: أنَّ الْمُرادَ بذلك: آخِرُ الزَّمانِ الْمُقارِبِ للقيامةِ. وقَد رُويَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من طَريقِ مَعْمَرٍ، عَن أيوبَ، عَنِ ابنِ سِيرين، عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه، أنَّه قال: في آخِرِ الزَّمانِ لا تَكذِبُ رُؤيا الْمُؤمِنِ.
قُلتُ: ويَعني -والله أعلَمُ- بآخِرِ الزَّمانِ الْمَذكورِ في هذا الحَديثِ: زَمانُ الطَّائِفةِ الباقيةِ مَعَ عيسى عليه السَّلامُ بَعدَ قَتلِه الدَّجَّالَ، الْمَذكور في حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو الذي قال فيه: فيَبعَثُ اللهُ عيسى بنَ مَريَم، ثُمَّ يَمكُثُ في النَّاسِ سَبعَ سِنينَ لَيسَ بينَ اثنين عَداوةٌ، ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ ريحًا بارِدةً من قِبَلِ الشَّامِ، فلا تُبقي على وجه الأرضِ أحَدًا في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ من خَيرٍ أو إيمانٍ إلَّا قَبَضَتْه [2225] أخرجه مسلم (2940) مُطَولًا. ، فكان أهلُ هذا الزَّمانِ أحسَنَ هَذِه الأمَّة بَعدَ الصَّدرِ الْمُتَقَدِّمِ حالًا، وأصدَقَهم أقوالًا، وكانت رُؤياهم لا تَكذِبُ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أصدَقُكم رُؤيا أصدَقُكم حَديثًا))، وكَما قال: ((رُؤيا الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزءٌ مِنَ النُّبوَّةِ )).
وقَولُه: ((لَم تَكَدْ تَكذِبُ، أي: لَم تُقارِبِ الكَذبَ)) [2226] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 10). .
وقال النَّوَويُّ: (قال الخَطَّابيُّ وغَيرُه: قيلُ: الْمُرادُ إذا قاربَ الزَّمانُ أن يَعتَدِلَ لَيلُه ونَهارُه، وقيلَ: الْمُرادُ إذا قارَبَ القيامةَ، والأوَّلُ أشهَرُ عِندَ أهلِ غَيرِ الرُّؤيا، وجاءَ في حَديثٍ ما يُؤَيِّدُ الثَّانيَ، والله أعلَمُ. قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأصدَقُكم رُؤيا أصدَقُكم حَديثًا)) ظاهِرُه أنَّه على إطلاقِه، وحَكى القاضي عَن بَعضِ العُلَماءِ أنَّ هذا يَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ عِندَ انقِطاعِ العِلمِ ومَوتِ العُلَماءِ والصَّالِحين ومَن يُستَضاءُ بقَولِه وعَمَلِه، فجَعله الله تعالى جابِرًا وعِوَضًا ومُنبِّهًا لَهم، والأوَّلُ أظهَرُ؛ لأنَّ غَيرَ الصَّادِقِ في حَديثِه يَتَطَرَّقُ الخَللُ إلى رُؤياه وحِكايَتِه إيَّاها) [2227] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/ 20). .

انظر أيضا: