الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: التَّباهي بالمساجِدِ

عَن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَتَباهى النَّاسُ في الْمَساجِدِ )) [1952] أخرجه أبو داود (449)، وابن ماجه (739)، وأحمد (12379). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (1614)، والنووي في ((الخلاصة)) (1/305)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (114)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (449)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (41). .
وفي رِوايةٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مِن أشراطِ السَّاعةِ أن يَتَباهى النَّاسُ في الْمَساجِدِ)) [1953] أخرجها النسائي (689) واللَّفظُ له، وابن خزيمة (1322)، والبغوي في ((شرح السنة)) (465) من حديث أنس رضي الله عنه. صحَّحها ابن خزيمة، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (689)، وصحَّح إسنادَها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (465). .
قال الْمظهريُّ: (قَولُه: ((إنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ)) «الأشراطُ»: جَمعُ شَرَطٍ، وهو: العَلامةُ. ((أن يَتَباهى)) أي: يَتَفاخَرَ، يَعني: مِن عَلاماتِ القيامةِ أن يَتَفاخَرَ كُلُّ واحِدٍ بمَسجِدٍ، ويَقولُ: مَسجِدي أرفَعُ وأكثَرُ زينةً مِن مَسجِدِ فُلانٍ) [1954] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 74). .
وقال عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما: (لتُزَخَرِفُنَّها كما زَخرَفَتِ اليَهودُ والنَّصارى) [1955] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (446)، وأخرجه موصولًا أبو داود (448). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (1615)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (448)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (600)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((الخلاصة)) (1/304) وقال: على شرط مسلم، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (5/531)، وأحمد شاكر في تخريج ((المحلى)) (4/44)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (448). .
قال المظهريُّ: (قَولُه: «لتُزَخرِفُنَّها» أي: يَأتي عليكم زَمانٌ تُزَيِّنونَ فيه الْمَساجِدَ بالنُّقوشِ وتُبَيِّضونَها بالجِصِّ، وتَتَفاخَرونَ بكَونِها رَفيعةً مُزَيَّنةً، وهذا بِدعةٌ لَم يَفعَلْه رَسولُ الله عليه السَّلامُ، ولِأنَّه إتلافٌ للمالِ، ولِأنَّه مُوافَقةٌ لليَهودِ والنَّصارى؛ فإنَّهم يُزَينونَ بِيَعَهم وكَنائِسَهم) [1956] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 74). .
وعَنِ ابنِ عَبَّاس رَضِيَ الله عَنهما قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما أُمِرْتُ بتَشييدِ الْمَساجِدِ )) [1957] أخرجه أبو داود (448)، وابن حبان (1615) واللَّفظُ لهما، والطبراني (12/243) (13003) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (448)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (600)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((الخلاصة)) (1/304) وقال: على شرط مسلم، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (5/531)، وأحمد شاكر في تخريج ((المحلى)) (4/44)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (448). .
قال البَغَويُّ: (الْمُرادُ مِنَ التَّشييدِ: رَفعُ البِناءِ وتَطويلُه، ومِنه قَولُه سُبحانَه وتعالى: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] ، وهيَ الَّتي طُوِّلَ بِناؤُها... وقيلَ: البُروجُ الْمُشَيَّدةُ: الحُصونُ الْمُجَصَّصةُ، والشِّيدُ: الجِصُّ.
وأمرَ عُمَرُ ببِناءِ مَسجِدٍ، وقال: أكنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وإيَّاكَ أن تُحمِّرَ وتُصَفِّرَ، فتَفتِنَ النَّاسَ.
ورُوِيَ أنَّ عُثمانَ رَأى أُترُجَّةً مِن جِصٍّ مُعَلَّقةً في الْمَسجِدِ، فأمرَ بها فقُطِعَت.
وكان الْمَسجِدُ على عَهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَبنيًّا باللَّبِنِ، وسَقْفُه الجَريدُ، وعُمُدُه خَشَبُ النَّخلِ، فلَم يَزِد فيه أبو بَكرٍ شَيئًا، وزادَ فيه عُمرُ، وبَناه على بُنيانِه في عَهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، باللَّبِنِ والجَريدِ، وأعادَ عُمُدَه خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَه عُثمانُ، فزادَ فيه زيادةً كثيرةً، وبَنى جِدارَه بالحِجارةِ الْمَنقوشةِ والقصَّةِ، وجَعلَ عُمُدَه مِن حِجارةٍ مَنقوشةٍ، وسَقْفَه بالسَّاجِ.
قُلتُ: لَعَلَّ الذي كَرِه مِنه الصَّحابةُ هذا، ولا يَجوزُ تَنقيشُ الْمَساجِدِ بما لا إحكامَ فيه.
وقَولُ ابنِ عَبَّاسٍ: «لتُزَخْرِفُنَّها كما زَخرَفَتِ اليَهودُ والنَّصارى» مَعناه: أنَّ اليَهودَ والنَّصارى إنَّما زَخرَفوا الْمَساجِدَ عِندَما حَرَّفوا وبَدَّلوا أمرَ دينِهم، وأنتَم تَصيرونَ إلى مِثلِ حالِهم، وسَيَصيرُ أمرُكم إلى الْمُراءاة بالمَساجِدِ، والمَباهاةِ بتَشييدِها وتَزيينِها) [1958] يُنظر: ((شرح السنة)) (2/ 349). .
وقال ابنُ رسلان: (هذا الحَديثُ فيه مُعجِزةٌ ظاهِرةٌ؛ لإخبارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَّا سَيَقَعُ بَعدَه، فإنَّ تَزويقَ الْمَساجِدِ والمَباهاةَ بزَخرَفَتِها كَثُرَ مِنَ الْمُلوكِ والأمراءِ في هذا الزَّمانِ بالقاهِرةِ، والشَّامِ، وبَيتِ الْمَقدِسِ، وغَيرِها، بأخذِهم أموالَ النَّاسِ ظُلمًا وعُدوانًا، وعِمارَتِهم بها الْمَدارِسَ على شَكلٍ بَديعٍ، فنَسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ) [1959] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) (3/ 258). .
وعَن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ الله عَنه قال: (إذا زَخرَفتُم مَساجِدَكم، وحَلَّيتم مَصاحِفَكم، فالدَّمارُ عليكم) [1960] أخرجه عبد الرزاق (5132)، وابن أبي داود في ((المصاحف)) (ص340)، والخطيب في ((تلخيص المتشابه)) (2/788) باختلافٍ يسيرٍ. وأخرجه الحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (3/256) مرفوعًا. وقال السبكي في ((طبقات الشافعية الكبرى)) (6/355) لم أره مرفوعًا، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/500): موقوفًا على أبي الدرداء، وقال الشوكاني في ((الفوائد المجموعة)) (25): لا يصحُّ رفعُه. وأخرجه ابن أبي شيبة (8891) عن أبي بن كعب قال: إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم ، فالدبار عليكم. قال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/577): إسناده لا بأس به .
قال ابنُ بطالٍ: (السُّنةُ في بُنيانِ الْمَساجِدِ: القَصدُ، وتَركُ الغُلوِّ في تَشييدِها؛ خَشيةَ الفِتنةِ والمَباهاةِ ببِنائِها؛ ألا تَرى أنَّ عُمرَ قال للَّذي أمرَه ببِناءِ الْمَسجِدِ: «أكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وإياكَ أن تُحمِّرَ أو تُصَفِّرَ فتَفَتِنَ النَّاسَ»، ويُمكِنُ أن يَفهَمَ هذا عُمَرُ مِن رَدِّ الرَّسولِ الخَميصةَ إلى أبي جَهمٍ حينَ نَظَرَ إلى أعلامِها في الصَّلاةِ، وقال: «أخافَ أن تَفتِنَني» [1961] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم بعد حديث (373) مُطَولًا. . وكان عُمرُ قَد فتَحَ الله الدُّنيا في أيَّامِه، ومَكَّنَه مِنَ الْمالِ، فلَم يُغَيِّرِ الْمَسجِدَ عَن بنيانِه الذي كان عليه في عَهدِ النَّبيِّ، ثُمَّ جاءَ الأمرُ إلى عُثمانَ، والمالُ في زَمانِه أكثَرُ، فلَم يَزِد أن جَعَلَ في مَكانِ اللَّبِنِ حِجارةً قِصَّةً، وسَقَفَه بالسَّاجِ مَكان الجَريدِ، فلَم يقصرْ هو وعُمَرُ عَنِ البُلوغِ في تَشييدِه إلى أبلَغِ الغاياتِ إلَّا عَن عِلمٍ مِنهما عَنِ الرَّسولِ بكَراهةِ ذلك، وليُقتَدى بهما في الأخذِ مِنَ الدُّنيا بالقَصدِ والكِفايةِ، والزُّهدِ في مَعالي أمورِها، وإيثارِ البُلغةِ مِنها) [1962] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (2/ 97). .
قال السَّفارينيُّ في أقسامِ أشراطِ السَّاعةِ: ( «الثَّانيةُ» الأماراتُ الْمُتَوَسِّطةُ، وهيَ الَّتي ظَهَرَت ولَم تَنقَضِ، بَل تَزايَدُ وتَكْثُرُ، وهيَ كثيرةٌ جِدًّا. «مِنها»:... قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَتَباهى النَّاسُ في الْمَساجِدِ )). أخرجه الإمامُ أحمَدُ وأبو داوُدَ وابنُ ماجَهْ وابنُ حِبَّانَ عَن أنسٍ رَضِيَ الله عَنه)  [1963]يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 68). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (إنَّه لا يَنبَغي للنَّاسِ أن يَتَباهوا بالمَساجِدِ، أي: إنَّه عِندَ عِمَارَتِها يُشيِّدونَها ويُزخرِفونَها ويَجعَلونَها وكَأنَّها قُصورُ الْمُلوكِ؛ فإنَّ هذا مِن عَلاماتِ السَّاعةِ؛ حَيثُ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَتَباهى النَّاسُ بالمَساجِدِ)) فتَباهي النَّاسِ في الْمَساجِدِ يُخرِجُها عَنِ الحالِ الَّتي يَنبَغي أن تَكونَ عليها؛ لأنَّه لا يَنبَغي أن تَكونَ مَحَلًّا للزِّينةِ والتِفاتِ القُلوبِ لِما فيها مِن زينةٍ، وإنَّما تَكونُ مُتَواضِعةً حَتَّى تَكونَ أقرَبَ للقُلوبِ؛ ولِهذا قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما أُمِرْتُ بتَشييدِ الْمَساجِدِ )) تَشييدُها يَعني طَلْيَها بالشِّيدِ وهو الجِصُّ وشِبهُه، والمُرادُ زَخرَفَتُها والتَّباهي بها، وقَد كان بَعضُ الجُهَّالِ يَقولُ مُنتَقِدًا على بَعضِ الْمَساجِدِ الَّتي لَم تُزخْرَفْ، يَقولُ: أليسَت لَو كانت بَيتًا لَكَ لحَسَّنْتَها وجَمَّلْتَها وأدخَلْتَ عليها شَيئًا مِنَ الزِّينةِ والزَّخرَفةِ؟ فظَنَّ أنَّ بَيتَ اللهِ المَبنيَّ للعِبادةِ وقِراءةِ القُرآنِ والذِّكرِ مِثلُ بَيتِ الإنسانِ الذي يُريدُ أن يَفخَرَ به على غَيرِه أو أن يُجارِيَ غَيرَه في زَخرَفةِ البَيتِ، وهذا غَلطٌ مَحضٌ. الْمَساجِدُ للعِبادةِ) [1964] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (1/ 621). .

انظر أيضا: