الموسوعة العقدية

الفَرعُ الثَّاني: أرواحُ الشُّهداءِ

وهَؤُلاءِ أحياءٌ عِندَ رَبِّهم يُرزَقونَ.
قال اللهُ تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 16] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ: ولا تَحسَبَنَّهم يا مُحَمَّدُ أمواتًا لا يُحِسُّونَ شَيئًا، ولا يَلتَذُّونَ، ولا يَتَنَعَّمونَ؛ فإنَّهم أحياءٌ عِندي، مُتَنَعِّمونَ في رِزقي، فَرِحونَ مَسرورونَ بما آتيتُهم من كَرامَتي وفَضلي، وحَبَوتُهم به من جَزيلِ ثَوابي وعَطائي) [1666] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/ 227). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (يُخبرُ تعالى عَنِ الشُّهداءِ بأنَّهم وإن قُتِلوا في هَذِه الدَّارِ فإنَّ أرواحَهم حَيَّةٌ مَرزوقةٌ في دارِ القَرارِ) [1667] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 161). .
وقال السَّعديُّ: (أي: لا يَخطُرْ ببالِكَ وحُسْبانِكَ أنَّهم ماتوا وفُقِدوا، وذَهَبَت عَنهم لَذَّةُ الحَياةِ الدُّنيا والتَّمَتُّعِ بزَهرَتِها، الَّذي يَحذَرُ مِن فواتِه مَن جَبُنَ عَنِ القِتالِ، وزَهِدَ في الشَّهادةِ. بَلْ قَد حَصَلَ لَهم أعظَمُ مِمَّا يَتَنافسُ فيه المُتَنافِسونَ. فهمُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ في دارِ كَرامَتِه. ولَفظُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ يَقتَضي عُلوَّ دَرَجَتِهم، وقُرْبَهم من رَبّهِم، يُرْزَقُونَ من أنواعِ النَّعيمِ الَّذي لا يَعلَمُ وَصْفَه إلَّا من أنعَم به عليهم) [1668] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 156). .
وقَد سألَ مَسروقٌ عَبدَ اللَّهِ بنَ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عَنه عَن هَذِه الآيةِ، فقال: إنَّا قَد سأَلْنا عَن ذلك، فقال: ((أرواحُهم في أجوافِ طَيرٍ خُضُرٍ، لَها قَناديلُ مُعَلَّقةٌ بالعَرْشِ، تَسرَحُ مِنَ الجَنةِ حَيثُ شاءَت، ثُمَّ تأوي إلَى تِلكَ القَناديلِ )) [1669] أخرجه مسلم (1887) مُطَوَّلًا. .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَد تَضَمَّنَ هَذا الحَديثُ تَفسيرَ قَولِه تعالى: بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وأنَّ مَعنَى حَياةِ الشُّهداءِ: أنَّ لِأرواحِهم من خُصوصِ الكَرامةِ ما لَيسَ لِغَيرِهم، بأن جُعِلَتْ في جَوفِ طَيرٍ، كَما في هَذا الحَديثِ، أو في حَواصِلِ طَيرٍ خُضْرٍ، كَما في الحَديثِ الآخَرِ؛ صيانةً لِتِلكَ الأرواحِ، ومُبالَغةً في إكرامِها، لِإطلاعِها على ما في الجَنَّةِ مِنَ المُحاسِنِ والنِّعَمِ، كَما يَطَّلِعُ الرَّاكِبُ المُظَلَّلُ عليه بالهَوْدَجِ الشَّفَّافِ؛ الَّذي لا يُحجَبُ عَمَّا وراءَه، ثُمَّ يُدرِكونَ في تِلكَ الحالِ الَّتي يَسرَحونَ فيها من رَوائِحِ الجَنَّةِ، وطِيبها، ونَعيمِها، وسُرورِها ما يَليقُ بالأرواحِ مِمَّا تَرتَزِقُ وتَنتَعِشُ به. وأمَّا اللَّذاتُ الجُسمانيَّةُ فإذا أُعيدَتْ تِلكَ الأرواحُ إلَى أجسادِها استَوفَتْ مِنَ النَّعيمِ جَميعَ ما أعَدَّ اللَّهُ تعالى لَها، ثُمَّ إنَّ أرواحَهم بَعدَ سَرحِها في الجَنةِ تَرجِعُ تِلكَ الطَّيرُ بهم إلَى مَواضِعَ مُكَرَّمةٍ مُشرَّفةٍ مُنوَّرةٍ عَبَّرَ عَنها بالقَناديلِ؛ لِكَثرةِ أنوارِها، وشِدَّتِها. واللَّهُ تعالى أعلَمُ. وهَذِه الكَراماتُ كُلُّها مَخصوصةٌ بالشُّهداءِ، كَما دَلَّتَ عليه الآيةُ وهَذا الحَديثُ) [1670] يُنظر: ((المفهم)) (3/ 715). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (أمَّا الشُّهداءُ فأكثَرُ العُلَماءِ على أنَّهم في الجَنةِ، وقَد تَكاثَرَت بذلك الأحاديثُ) [1671] يُنظر: ((أهوال القبور)) (ص: 91). .
 وعَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقٍ -نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ- في قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا )) [1672] أخرجه أحمد (2390)، وابن حبان (4658)، والحاكم (2403) من حَديثِ عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه ابنُ حبان، وحسَّنه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1334)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/124)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2390)، وجوَّده ابن كثير في ((التفسير)) (2/142). .
قال ابنُ كَثيرٍ بَعدَ ذِكرِ هَذا الحَديثِ: (الشُّهداءُ أقسامٌ: مِنهم من تَسْرَحُ أرواحُهم في الجَنَّةِ، ومِنهم مَن يَكونُ على هَذا النَّهرِ ببابِ الجَنَّةِ، وقَد يُحتَمَلُ أن يَكونَ مُنتَهَى سَيرِهم إلَى هَذا النَّهرِ، فيَجتَمِعونَ هنالِكَ، ويُغْدَى عليهم برِزقِهم هناكَ ويُراحُ. واللَّهُ أعلَمُ) [1673] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 164). .
وقال الصَّنعانيُّ: ( ((الشُّهَداءُ على بارِقٍ)) بَيَّنَ مُسَمَّاه بالإبدالِ مِنه ((نَهرٍ ببابِ الجَنَّةِ)) ظاهِرٌ أنَّهم لَم يَدخُلوا الجَنَّةَ، وأنَّهم على بابها، وقَد تَقَدَّم حَديثُ: ((إنَّ أرواحَهم في طَيرٍ خُضْرٍ))، ولا مُنافاةَ؛ لِأنَّه يُحتَمَلُ أنَّهم أنواعٌ لِكُلٍّ مِنهم مَقامٌ وإنعامٌ قَبلَ قيامِ السَّاعةِ. ((في قُبَّةٍ خَضراءَ يَخرُجُ عليهم رِزْقُهم مِنَ الجَنَّةِ بُكْرةً وعَشِيًّا)) كَما قال تعالى: بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] ) [1674] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (6/ 554). .
وقال أحمَدُ البنا السَّاعاتي: ( ((بارِقٍ)) أي جانِبِ نَهرٍ، قال العُلَماءُ: هَذا في شُهداءَ عليهم ذُنوبٌ مَنعَتْهم من دُخولِ الجَنةِ مَعَ السَّابقينَ، فلا يُنافي ما ورَدَ من أنَّ أرواحَ الشُّهداءِ في أجوافِ طُيورٍ تَسرَحُ في الجَنةِ؛ لِأنَّ ذاكَ في حَقِّ من لا ذُنوبَ عليهم) [1675] يُنظر: ((الفتح الرباني)) (14/ 28). .
وذلك النَّعيمُ لِأرواحِ بَعضِ الشُّهداءِ لا جَميعِهم؛ لِأنَّ مِنهم من تُحبَسُ رُوحُه عَن دُخولِ الجَنَّةِ لِدَينٍ عليه.
عَن مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ جَحشٍ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ رَجُلًا جاءَ إلَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللَّهِ، ما لي إن قُتِلْتُ في سَبيلِ اللَّهِ؟ قال: ((الجَنةُ))، فلَمَّا ولَّى قال: ((إلَّا الدَّينَ، سارَّني به جِبريلُ آنِفًا )) [1676] أخرجه أحمد (17253)، وابن أبي شيبة (12144)، والطبراني (19/247) (557). صَحَّحه الألباني في ((شرح الطحاوية)) (403)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17253). .
عن أبي قَتادةَ أنَّه سَمِعَه يُحَدِّثُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أنَّه قام فيهم فذَكَرَ لهم: ((أنَّ الجِهادَ في سَبيلِ اللهِ والإيمانَ باللهِ أفضَلُ الأعمالِ)). فقام رجُلٌ فقال: يا رَسولَ اللهِ، أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيلِ اللهِ تُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سبيلِ اللهِ، وأنت صابِرٌ محتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيرُ مُدبِرٍ)). ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كيف قُلْتَ؟)). قال: أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيلِ اللهِ أتُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نَعَم، وأنت صابِرٌ محتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيرُ مُدبِرٍ، إلَّا الدَّينَ؛ فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ قال لي ذلك )) [1677] أخرجه مسلم (1885)  .
قال المظهريُّ: (قَولُه: ((مُحتَسِبًا))، أي: لِطَمعِ ثَوابِ اللَّهِ لا لِلرِّياءِ. قَولُه: ((إلَّا الدَّينَ)): هَذا يَدُلُّ على أنَّ الشَّهيدَ يُغْفَرُ لَه الذُّنوبُ الصَّغائِرُ والكَبائِرُ، إلَّا الدَّينَ، والمُرادُ بالدَّينِ: حُقوقُ الآدَميِّينَ من دِمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم، أعني: تَطويلَ اللِّسانِ في عِرْضِهم بالغِيبةِ والبُهتانِ والقَذفِ، وغَيرِ ذلك من حُقوقِ الآدَميِّينَ؛ فإنَّه لا يُعفى بالتَّوبةِ، بَلِ الطَّريقُ الاستِحلالُ مِنهم، أو دَفْعُ حَسَناتِ الظَّالِمِ إلَى المَظلومِ بقَدرِ حَقِّه، أو عِنايةُ اللَّه في حَقِّ الظَّالِمِ بأن يَتَوبَ ويَتَضَرَّعَ إلَى اللَّهِ، ويُبالِغَ في الأعمالِ الصَّالِحةِ، حَتَّى يَرضَى اللَّهُ عَنه ويُرضِيَ خَصمَه من خِزانةِ كَرَمِه) [1678] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (3/ 468). .
قال ابنُ القيِّمِ: (الأرواحُ مُتَفاوِتةٌ في مُستَقَرِّها في البَرزَخِ أعظَمَ تَفاوُتٍ... ومِنها: أرواحٌ في حَواصِلِ طَيرٍ خُضْرٍ تَسرَحُ في الجَنةِ حَيثُ شاءَت، وهيَ أرواحُ بَعضِ الشُّهداءِ لا جَميعِهم، بَل مِنَ الشُّهداءِ من تُحبَسُ روحُه عَن دُخولِ الجَنَّةِ لِدَينٍ عليه أو غَيرِه،... ومِنهم: مَن يَكونُ مَحبوسًا في قَبرِه، كَحَديثِ صاحِبِ الشَّملةِ الَّتي غَلَّها ثُمَّ استُشهِدَ، فقال النَّاسُ: هَنيئًا لَه الجَنةُ! فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ: ((كَلَّا، والَّذي نَفسي بيدِه إنَّ الشَّملةَ الَّتي غَلَّها لَتَشتَعِلُ عليه نارًا في قَبرِه )) [1679] أخرجه البخاري (4234)، ومسلم (115) باختلافٍ يسيرٍ من حَديثِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. [1680] يُنظر: ((الروح)) (1/346). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (وإنَّما تَدخُلُ أرواحُ المُؤمِنينَ والشُّهداءِ الجَنَّةَ إذا لَم يَمنَعْ من ذلك مانِعٌ، من كَبائِرَ تَستَوجِبُ العُقوبةُ، أو حُقوقِ آدَميِّينَ، حَتَّى يَبرأَ مِنها) [1681] يُنظر: ((أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور)) (ص: 106). .

انظر أيضا: