الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الثَّاني: نَماذِجُ من كَراماتِ الصَّحابةِ رضيَ اللهُ عنهم

قال القُشَيريُّ: (قد ظَهَرَ على السَّلَفِ من الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ثُمَّ على من بَعدَهم من الكراماتِ ما بَلَغَ حَدَّ الِاستِفاضةِ، وقد صُنِّف في ذلك كُتُبٌ كثيرةٌ) [1184] يُنظر: ((الرسالة القشيرية)) (2/ 529). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (مِن أُصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: التَّصديقُ بكراماتِ الأولياءِ وما يُجري اللهُ على أيديهم من خَوارِقِ العاداتِ في أنواعِ العُلومِ والمُكاشَفاتِ، وأنواعِ القُدرةِ والتَّأثيراتِ، كالمَأثورِ عَن سالِفِ الأُمَمِ في سورةِ الكهفِ وغيرِها، وعَن صَدرِ هذه الأمَّةِ من الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وسائِرِ قُرونِ الأمَّةِ، وهي مَوجودةٌ فيها إلى يَومِ القيامةِ) [1185] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 156). .
فمن تلك الكَراماتِ:
1- عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنهما قال: (جاءَ أبو بَكرٍ بضَيفٍ له أو بأضيافٍ له، فأمسى عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا جاءَ قالت له أمِّي: احتَبَسْتَ عن ضيفِك -أو عَن أضيافِك- اللَّيلةَ، قال: ما عَشَّيْتِهم؟! فقالت: عَرَضْنا عليه -أو عليهم- فأبَوا -أو فأبى- فغَضِبَ أبو بَكرٍ، فسَبَّ وجَدَّعَ، وحَلَف لا يَطعَمُه، فاختَبَأْتُ أنا، فقال: يا غُنْثَرُ [1186] قال عياض: (بضَمِّ الغينِ المُعجَمةِ وفَتحِ الثَّاءِ المُثلَّثة وضَمِّها معًا، قال الإمام: قال الهروى: أحسَبُه الثَّقيلُ الوَخيمُ، وقيل: هو الجاهِلُ. والغثارة: الجهلُ، يقال: رَجلٌ غثرٌ، والنون فيه زائدة... وقيل: الغُنثَر: سُفَهاءُ النَّاسِ. وقال كُراع: الغُنثَر: ذبابٌ أزرَقُ، وقال غيرُه: هو مأخوذٌ مِن الغثرِ وهو اللُّؤمُ والسُّقوطُ، كأنه قال له: يا لئيمُ. النون هاهنا زائدة، وهذه الكلمة إنما قالها له أبو بكرٍ على سبيلِ السَّبِّ والتعنيفِ له والتحقير؛ إذ لم يبلُغْه أمَله من بِرِّ أضيافِه وتقديمِهم، وظنَّ به التفريطَ فيهم، ألا تراه كيف قال: "فجدَّع وسَبَّ"). ((إكمال المعلم)) (6/ 550). ! فحَلَفتِ المَرأةُ لا تَطعَمُه حَتى يَطعَمَه، فحَلفَ الضَّيفُ أوِ الأضيافُ أنْ لا يَطعَمَه أو يَطعَمُوه حَتى يَطعَمَه، فقال أبو بَكرٍ: كأنَّ هذه من الشَّيطانِ! فدَعا بالطَّعامِ فأكلَ وأكلوا، فجَعَلوا لا يَرفَعونَ لُقمةً إلَّا رَبَا [1187] قال ابن حجر: (أي: زاد). ((فتح الباري)) (1/ 121). من أسفَلِها أكثَرُ منها، فقال: يا أختَ بني فِراسٍ، ما هَذا؟ فقالت: وقُرَّةِ عيني، إنَّها الآنَ لأكثَرُ قَبلَ أن نَأكُلَ، فأكلوا، وبَعَثَ بها إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذَكَرَ أنَّه أكلَ منها( [1188] رواه البخاري (6141) واللَّفظُ له، ومسلم (2057). .
قال عِياضٌ: (الذي ذُكِرَ في الحَديثِ فيه كراماتُ الصِّدِّيقينَ والأولياءِ، وإظهارُ اللهِ قُدرَتَه وبَركتَه على أيديهم) [1189] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (6/ 551). .
 وقال النَّوَويُّ: (فيه كرامةٌ ظاهِرةٌ لأبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عَنه، وفيه إثباتُ كراماتِ الأولياءِ، وهو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ خِلافًا للمُعتَزِلةِ) [1190] يُنظر: ((شرح مسلم)) (14/ 19). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (في هَذا الحَديثِ فوائِدُ كثيرةٌ:...
ومنها: إثباتُ كراماتِ الأولياءِ وخَرْقِ العَوائِدِ لهم.
وهو قَولُ عامَّةِ أهلِ السُّنَّةِ، ووافقَ على ذلك المُعتَزِلةُ في زَمَنِ الأنبياءِ خاصَّةً، كما جَرى لأبي بَكرٍ في هذه القَضيَّةِ، وجَعلوها من جُملةِ مُعجِزاتِهم حينَئِذٍ.
والتَّحقيقُ: أنَّها من جُملةِ مُعجِزاتِ الأنبياءِ على كُلِّ حالٍ، وفي كُلِّ زَمانِ؛ لأنَّ ما يُكرِمُ اللهُ بذلك أولياءَه فإنَّما هو من بَرَكةِ اتِّباعِهم للأنبياءِ، وحُسنِ اقتِدائِهم بهم، فدَوامُ ذلك لأتباعِهم وخَواصِّهم من جُملةِ مُعجِزاتِهم وآياتِهم) [1191] يُنظر: ((فتح الباري)) (3/ 383). .
2- عَنِ البَراءِ بْن عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما قال: ((كانَ رَجُلٌ يَقرَأ سورةَ الكهفِ وعِندَه فرَسٌ مَربوطٌ بشَطَنَينِ [1192] قال عياضٌ: (أي: حَبلينِ، والشَّطنُ: الحَبلُ الطَّويلُ المُضطَرِبُ). يُنظر: ((إكمال المعلم)) (3/ 162). ، فتَغَشَّتْه سَحابةٌ فجَعَلَت تَدورُ وتَدنو، وجَعلَ فرَسُه يَنفِرُ منها، فلَمَّا أصبَحَ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكرَ ذلك له، فقال: تلك السَّكينةُ تَنزَّلُتْ للقُرآنِ )) [1193] رواه البخاري (3614)، ومسلم (795) واللفظ له. .
وعَن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللهُ عَنه: ((أنَّ أُسَيدَ بْنَ حُضَيرٍ بينَما هو ليلةً يقرَأُ في مَربَدِه [1194] قال ابن حجر: (أي: المكان الذي فيه التَّمرُ). ((فتح الباري)) (9/ 64). إذ جالت [1195] قال أبو العبَّاس القرطبي: (اضطَرَبت). ((المفهم)) (2/ 438). فَرَسُه، فقَرَأ، ثُمَّ جالَتْ أُخرى، فقَرَأ، ثُمَّ جالَت أيضًا، قال أُسَيدٌ: فخَشيتُ أن تَطَأ يَحيى، فقُمتُ إليها، فإذا مِثلُ الظُّلَّةِ فوقَ رَأسي فيها أمثالُ السُّرُجِ، عَرَجَت في الجَوِّ حَتى ما أراها! قال: فغَدَوتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بينَما أنا البارِحةَ من جَوفِ اللَّيلِ أقرَأُ في مَرْبَدي إذ جالَت فرسي... فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تلك المَلائِكةُ كانَت تَستَمِعُ لك، ولَو قَرَأتَ لأصبَحَتْ يَراها النَّاسُ ما تَستَتِرُ منهم!(( [1196] أخرجه من طرق: البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم (5018) بنحوه، وأخرجه موصولًا مسلم (796) واللَّفظُ له. .
قال أبو العَباسِ القُرطُبيُّ: (هَذا دَليلٌ على جَوازِ رُؤيةِ من ليسَ بنَبيٍّ للمَلائِكةِ. وقَولُه: ((لو قَرَأْتَ لأصبَحَتْ يَراها النَّاسُ)): يَعني: لو دُمتَ على حالَتِك في قِراءَتِك لأصبَحَت على تلك الحالِ ظاهرةً للنَّاسِ، لكِنَّه قَطَعَ القِراءةَ، فارتَفعَتِ المَلائِكةُ وغابَت؛ لتَخصيصِ الكرامةِ به، وليَعمَلَ النَّاسُ على التَّصديقِ بالغيبِ) [1197] يُنظر: ((المفهم)) (2/ 439). .
3- عَن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنه: (أنَّ رَجُلينِ من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرجَا من عِندِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ليلةٍ مُظلِمةٍ، ومَعَهما مِثلُ المِصباحينِ يُضيئانِ بينَ أيديهما، فلَما افتَرَقا صارَ مَعَ كُلِّ واحِدٍ منهما واحِدٌ حَتى أتى أهلَه) [1198] رواه البخاري (465). .
 قال القَسطلانيُّ: (إكرامًا لهما ببَركةٍ نَبيِّهما آيةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ إذ خُصَّ بَعضُ أصحابِه بمِثلِ هذه الكرامةِ عِندَ حاجَتِهم إلى النُّورِ) [1199] يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (1/ 452). .
 وقال ابنُ بازٍ: (هما عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وأُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ، وهَذا من كراماتِ اللهِ لأوليائِه رَضيَ اللهُ عَنهما، هما من الأنصارِ) [1200] يُنظر: ((الحلل الإبريزية)) (1/ 152). .
4- عَن مُطَرِّفِ بْنِ عَبدِ اللهِ، عَن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّه قال: (اعلَمْ يا مُطرِّفُ، أنَّه كانَت تُسَلِّمُ المَلائِكةُ عليَّ عِندَ رَأسي، وعِندَ البيتِ، وعِندَ بابِ الحُجَرِ، فلَمَّا اكتَويتُ ذَهَبَ ذلك، فلَمَّا بَرِئَ كَلَّمَه، قال: اعلمْ يا مُطَرِّفُ أنَّه عادَ إليَّ الذي كُنتُ أفقِدُ، اكتُمْ علَيَّ يا مُطَرِّفُ حَتى أموتَ) [1201] أخرجه الحاكم (5994) واللَّفظُ له. وأخرجه أبو داود مُعلَّقًا بعد حديث عِمرانَ في النهي عن الكيِّ (3865)؛ حيث قال: (وكان يسمَعُ تسليمَ الملائكةِ، فلمَّا اكتوى انقطع عنه، فلمَّا ترك رجع إليه). والحديثُ أصلُه في الصحيحِ دونَ ذِكرِ لفظ "الملائكة" أخرجه مسلم (1226) عن مُطَرِّف، قال: (بعث إليَّ عِمرانُ بنُ حُصَينٍ في مرَضِه الذي توفِّي فيه، فقال: إني كنتُ مُحَدِّثَك بأحاديثَ، لعَلَّ اللهَ أن ينفَعَك بها بعدي، فإن عِشتَ فاكتُم عنِّي، وإن مِتُّ فحَدِّثْ بها إنْ شِئتَ، إنَّه قد سلَّم عليَّ). وفي لفظٍ: عن مُطَرٍّفٍ قال: (قال لي عِمرانُ بنُ حُصَينٍ: أحَدِّثُك حديثًا عسى اللهُ أن ينفَعَك به: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جمع بين حَجَّةٍ وعُمرةٍ، ثم لم يَنْهَ عنه حتى مات، ولم ينزِلْ فيه قرآنٌ يُحرِّمُه، وقد كان يُسلَّمُ عليَّ حتى اكتويتُ، فتركْتُ، ثم تركْتُ الكَيَّ فعاد). .
5- عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه (اشتَرى خُبَيبًا بنو الحارِثِ بنُ عامِرِ بْنِ نَوفَل، وكانَ خُبَيبٌ هو قَتَلَ الحارِثَ يَومَ بَدرٍ، فمَكثَ عِندَهم أسيرًا، حَتى إذا أجمَعوا قَتْلَه، استَعارَ موسًى مِن بَعضِ بَناتِ الحارِثِ ليَستَحِدَّ بها فأعارَتْه، قالت: فغَفَلْتُ عَن صَبيٍّ لي، فدَرَجَ إليه حَتى أتاهَ فوَضعَه على فَخِذِه، فلَمَّا رَأيتُه فزِعْتُ فَزعةً عَرف ذاك مِنِّي، وفي يَدِه الموسى، فقال: أتَخشينَ أن أقتُلَه؟ ما كُنتُ لأفعَلَ ذاك إنْ شاءَ اللهُ، وكانَت تَقولُ: ما رَأيتُ أسيرًا قَطُّ خيرًا من خُبَيبٍ، لقد رَأيتُه يَأكُلُ من قِطْفِ عِنَبٍ وما بمَكَّةَ يَومَئِذٍ ثَمَرةٌ، وإنَّه لموثَقٌ في الحَديدِ! وما كانَ إلَّا رِزقٌ رَزقَه اللهُ) [1202] رواه البخاري (4086) مطولاً. .
6- عَن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ قال: (لما قُتِلَ الذينَ ببِئرِ مَعُونةَ، وأُسِرَ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْريُّ، قال له عامِرُ بنُ الطُّفَيلِ: من هَذا؟ فأشارَ إلى قَتيلٍ، فقال له عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ: هَذا عامِرُ بْنُ فُهَيرةَ، فقال: لقد رَأيتُه بَعدَ ما قُتِلَ رُفعَ إلى السَّماءِ، حَتى إنِّي لأنظُرُ إلى السَّماءِ بينَه وبينَ الأرضِ، ثُمَّ وُضِعَ!) [1203] رواه البخاري (4093). .

انظر أيضا: