الموسوعة العقدية

الفرعُ الثَّاني: أدِلَّةُ وُقوعِ الكراماتِ من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ

1- عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بينَما رَجُلٌ بفَلاةٍ [1158] (الفلاة: الأرضُ الواسعةُ المُقفِرةُ). يُنظر: ((المعجم الوسيط)) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة (2/ 702). من الأرضِ، فسَمعَ صَوتًا في سَحابةٍ: اسْقِ حَديقةَ فُلَانٍ، فتَنَحى ذلك السَّحابُ فأفرغَ ماءَه في حَرَّةٍ [1159] قال النووي: (الحَرَّةُ: الأرضُ المُلبَسة حجارةً سوداءَ). ((رياض الصالحين)) (ص: 190). ، فإذا شَرْجةٌ من تلك الشِّراجِ [1160] قال الخطابي: (شِراجُ الحَرَّة: مجاري الماءِ الذي يسيل منها). ((أعلام الحديث)) (2/ 1165). قدِ استَوعَبتْ ذلك الماءَ كُلَّه، فتَتبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَديقَتِه يُحَوِّلُ الماءَ بمِسحاتِه [1161] قال ابن الأثير: (هي المجرفةُ من الحديدِ). ((النهاية)) (2/ 349). ، فقال له: يا عَبدَ اللهِ ما اسمُك؟ قال: فُلانٌ، للِاسمِ الذي سَمِعَ في السَّحابةِ! فقال له: يا عَبدَ الله لمَ تَسألُني عَنِ اسمي؟! فقال: إنِّي سَمِعتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هَذا ماؤُه يَقولُ: اسقِ حَديقةَ فُلانٍ. لاسمِك، فما تَصنَعُ فيها؟! قال: أمَا إذ قُلتَ هَذا فإنِّي أنظُرُ إلى ما يَخرُجُ منها فأتَصَدَّقُ بثُلُثِه، وآكُلُ أنا وعيالي ثُلُثًا، وأرُدُّ فيها ثُلُثَه )) [1162] رواه مسلم (2984). .
 قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (في هَذا الحَديثِ دَليلٌ على صِحَّةِ كراماتِ الأولياءِ، وأنَّ الوَليَّ قد يَكونُ له مالٌ وضَيْعةٌ) [1163] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 137). .
2- عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كانَ جُرَيجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَومَعةً، فكانَ فيها، فأتَتْه أمُّه وهو يُصَلِّي، فقالت: يا جُرَيجُ، فقال: يا رَبِّ، أمِّي وصَلاتي، فأقبَلَ على صَلاتِه، فانصَرَفت، فلَما كانَ من الغَدِ أتَتْه وهو يُصَلِّي، فقالت: يا جُرَيجُ، فقالَ: يا رَبِّ، أمِّي وصَلاتي، فأقبَلَ على صَلاتِه، فانصَرَفت، فلَما كانَ من الغَدِ أتَتْه وهو يُصَلِّي، فقالت: يا جُرَيجُ، فقالَ: أيْ رَبِّ، أمِّي وصَلاتي، فأقبَلَ على صَلاتِه، فقالت: اللهُمَّ لا تُمِتْه حَتى يَنظُرَ إلى وُجوهِ المُومِساتِ [1164] قال النووي: (أي: الزَّواني البغايا المتجاِهراتُ بذلك). ((شرح مسلم)) (16/ 105). ! فتَذاكَرَ بَنو إسرائيلَ جُرَيجًا وعِبادَتَه، وكانَتِ امرَأةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسنِها، فقالت: إنْ شِئتُم لأفتِنَنَّه لكم، قال: فتَعَرَّضتْ له، فلم يَلتَفِت إليها، فأتَت راعيًا كانَ يَأوي إلى صَومَعَتِه، فأمكنَتْه من نَفسِها، فوَقَعَ عليها فحَمَلَت، فلَما وَلَدَت قالت: هو من جُرَيجٍ! فأَتَوه فاستَنزَلوه وهَدَموا صَومَعَتَه وجَعلوا يَضرِبونَه، فقال: ما شَأنُكم؟ قالوا: زَنيتَ بهذه البَغيِّ، فوَلَدَت مِنك، فقال: أينَ الصَّبيُّ؟ فجاؤوا به، فقال: دَعُوني حَتى أصَلِّي، فصَلَّى، فلَمَّا انصَرَف أتى الصَّبيَّ فطعَن في بَطنِه، وقال: يا غُلامُ من أبوك؟ قال: فُلانٌ الرَّاعي! قال: فأقبَلوا على جُرَيجٍ يُقبِّلونَه ويَتَمَسَّحونَ به، وقالوا: نَبني لك صومَعَتَك من ذَهَبٍ، قال: لا، أعيدُوها من طينٍ كما كانَت، ففَعَلوا )) [1165] رواه البخاري (2482)، ومسلم (2550) واللَّفظُ له. .
 قال العينيُّ: (فيه إثباتُ الكرامةِ للأولياءِ، ووُقوعُ الكرامةِ لهم باختيارِهم وطَلَبِهم) [1166] يُنظر: ((عمدة القاري)) (16/ 31). .
3- عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لم يَكذِبْ إبراهيمُ النَّبيُّ عليه السَّلامُ قَطُّ إلَّا ثَلاثَ كَذَباتٍ؛ ثِنْتَينِ في ذاتِ اللهِ، قَولُه: إنِّي سَقيمٌ، وقَولُه: بَل فَعَلَه كبيرُهم هَذا، وواحِدةٌ في شَأنِ سارةَ، فإنَّه قدِمَ أرضَ جَبَّارٍ ومَعَه سارةُ، وكانَت أحسَنَ النَّاسِ، فقال لها: إنَّ هَذا الجَبَّارَ إن يَعلَمْ أنَّك امرَأتي يَغلِبْني عليكِ، فإنْ سَألَك فأخبِريه أنَّك أُختي، فإنَّك أُختي في الإسلامِ، فإنِّي لا أعلَمُ في الأرضِ مُسْلِمًا غيري وغيرَكِ، فلَما دَخَلَ أرضَه رَآها بَعضُ أهْلِ الجَبَّارِ، أتاهَ فقال له: لقد قدِمَ أرضَكَ امرَأةٌ لا يَنبَغي لها أن تَكونَ إلَّا لك، فأَرسَل إليها فأُتِيَ بها، فقام إبراهيمُ عليه السَّلامُ إلى الصَّلاةِ، فلَمَّا دَخَلتْ عليه لم يَتَمالَكْ أنْ بَسطَ يَدَه إليها، فقُبِضَت يَدُه قَبضةً شَديدةً، فقال لها: ادْعِي اللهَ أن يُطلِقَ يَدي ولا أضُرُّكِ، ففعَلَتْ، فعاد، فقُبِضَتْ أشَدَّ من القَبضةِ الأُولى، فقال لها مِثلَ ذلك، ففعَلَتْ، فعادَ، فقُبِضَتْ أشَدَّ من القَبضَتينِ الأُولَيَينِ، فقال: ادْعي اللهَ أن يُطلِقَ يَدي، فلَك اللهُ أنْ لا أَضُرَّكِ، ففعَلَت، وأُطلِقَت يَدُه، ودَعا الذي جاءَ بها فقال له: إنَّك إنَّما أتيتَني بشيطانٍ، ولم تَأتِني بإنسانٍ، فأخرِجْها من أرضي، وأعطِها هاجَرَ. قال: فأقبَلَتْ تَمشي، فلَمَّا رَآها إبراهيمُ عليه السَّلامُ انصَرَف، فقال لها: مَهْيَم [1167] قال النووي: (أي: ما شأنُك وما خَبَرُك؟). ((شرح مسلم)) (15/ 125). ؟ قالت: خيرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الفاجِرِ، وأَخدَمَ خادِمًا )). قال أبو هُرَيرةَ: (فتلك أُمُّكم يا بَني ماءِ السَّماءِ [1168] قال النووي: (قال كثيرون: المراد ببني ماءِ السَّماءِ العَرَبُ كُلُّهم؛ لخُلوصِ نَسَبِهم وصفائِه، وقيل: لأنَّ أكثرهم أصحابُ مواشٍ، وعَيشَهم من المرعى والخِصبِ وما يَنبُت بماء السَّماءِ. وقال القاضي: الأظهرُ عندي أنَّ المرادَ بذلك الأنصارُ خاصَّةً، ونِسبَتُهم إلى جَدِّهم عامِرِ بنِ حارثةَ بنِ امرئِ القَيسِ بنِ ثَعلبةَ بنِ مازِنِ بنِ الأددِ، وكان يُعرَفُ بماءِ السَّماءِ، وهو المشهورُ بذلك، والأنصارُ كُلُّهم من وَلَدِ حارثةَ بنِ ثَعلبةَ بنِ عَمرِو بن عامرٍ المذكورِ. واللهُ أعلم). ((شرح مسلم)) (15/ 125). [1169] رواه البخاري (3358)، ومسلم (2371) واللَّفظُ له. .
 قال أبو العَباسِ القُرطُبيُّ: (أي: عَصمَها اللهُ منه بما أظهَرَ من كرامَتِها، وأعطاها اللهُ خادِمًا، وهي: هاجَرُ) [1170] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 188). .
4- عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه، عَن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه ذَكرَ رَجُلًا من بني إسرائيلَ، سَأل بَعضَ بني إسرائيلَ أن يُسلِفَه ألْفَ دينارٍ، فقال: ائتِني بالشُّهداءِ أُشهِدْهم، فقال: كفى باللهِ شَهيدًا! قال: فأْتِني بالكفيلِ، قال: كفى باللهِ كفيلًا! قال: صَدَقْتَ، فدَفعَها إليه إلى أجلِ مُسَمًّى، فخَرجَ في البَحرِ فقَضى حاجَتَه، ثُمَّ التمَسَ مركبًا يركبُها يَقدَمُ عليه للأجلِ الذي أجَّلَه، فلم يَجِد مركبًا، فأخذَ خَشَبةً فنَقَرَها، فأدخَلَ فيها ألْفَ دينارٍ وصَحيفةً منه إلى صاحِبِه، ثُمَّ زَجَّجَ مَوضِعَها، ثُمَّ أتى بها إلى البَحرِ، فقال: اللهُمَّ إنَّك تَعلمُ أنِّي كُنتُ تَسلَّفتُ فلانًا ألفَ دينارٍ، فسَألَني كفيلًا، فقُلتُ: كفى باللهِ كفيلًا، فرَضِيَ بك، وسَألني شَهيدًا، فقُلتُ: كفى باللهِ شَهيدًا، فرَضِيَ بك، وأنِّي جَهَدْتُ أن أجِدَ مركبًا أبعَثُ إليه الذي له فلمْ أقدِرْ، وإنِّي أستَودِعُكَها، فرَمى بها في البَحرِ حَتى ولَجَت [1171] قال ابن حجر: (أي: دخَلَت في البَحرِ). ((فتح الباري)) (4/ 471). فيه، ثُمَّ انصَرَف وهو في ذلك يَلتَمِسُ مركبًا يَخرُجُ إلى بَلَدِه، فخَرجَ الرَّجُلُ الذي كانَ أسلَفَه يَنظُرُ لعَلَّ مركبًا قد جاءَ بمالِه، فإذا بالخَشَبةِ الَّتي فيها المالُ، فأخذَها لأهلِه حَطبًا، فلَمَّا نَشَرها وجَدَ المالَ والصَّحيفةَ! ثُمَّ قدِمَ الذي كانَ أسلَفَه، فأتى بالألفِ دينارٍ، فقال: واللهِ ما زِلْتُ جاهدًا في طَلَبِ مركبٍ لآتِيَك بمالِك، فما وجَدتُ مركبًا قَبلَ الذي أتيتُ فيه، قال: هَل كُنتَ بَعَثْتَ إليَّ بشيءٍ؟ قال: أخبِرُك أنِّي لم أجِدْ مركبًا قَبلَ الذي جِئْتُ فيه، قال: فإنَّ اللهَ قد أدَّى عَنك الذي بَعَثْتَ في الخَشَبةِ! فانصَرِفْ بالألفِ الدِّينارِ راشِدًا )) [1172] رواه البخاري (2291). .
 قال ابنُ هُبَيرةَ: (إيرادُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هَذا الخَبَرَ علينا حِكايةً عَمَّن تَقدَّمَنا نَدْبٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنا إلى ما في هَذا الحَديثِ من حُسْنِ التَّوَكُّلِ، وإشعارٌ بأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى وفى عَمَّن اقتَرَضَ عليه، ووَفى سُبحانَه لِمَن رَضِيَ به تَوَثُّقَه مِن خَصْمِه، وأنَّه جَلَّ جَلالُه عَبَرَ وأجازَ الخَشَبةَ في البَحرِ مُوصِلًا لها إلى مُستَحِقِّها، خارِقًا للعادةِ في مِثلِ ذلك) [1173] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (7/ 301). .
ومِن أقوالِ العُلماءِ في إثباتِ كراماتِ الأولياءِ:
1- قال الطَّحاويُّ: (لا نُفضِّلُ أحَدًا من الأولياءِ على أحَدٍ من الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، ونَقولُ: نَبيٌّ واحِدٌ أفضَلُ من جَميعِ الأولياءِ، ونُؤمِنُ بما جاءَ من كراماتِهم وصَحَّ عَنِ الثِّقاتِ من رِواياتِهم) [1174] يُنظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 83). .
2- قال ابنُ حمدانَ: (كرامةُ الأولياءِ حَقٌّ، وأنكَر الإمامُ أحمَدُ على مَن أنكَرَها، وضَلَّلَه، وهي خَرقُ العادةِ في حَقِّ الوَليِّ بالمَقدورِ للبَشَرِ... وتوجَدُ في زَمَنِ النُّبوَّةِ وأشراطِ السَّاعةِ وغيرِهما، ولا تَدُلُّ على صِدْقِ من ظَهَرَت على يَدِه فيما يُخبِرُ به عَنِ اللهِ تعالى، أو عَن نَفسِه، ولا على وَلايَتِه؛ لجَوازِ سَلْبِها وأن تَكونَ استِدراجًا له ومَكرًا به [1175] علَّق السفاريني على ذلك قائلًا: (يعني: أنَّ مجرَّد الخارِقِ لا يدُلُّ على ذلك). ((لوامع الأنوار البهية)) (2/393). ، وتَعُمُّ الرِّجالَ والنِّساءَ، والوَليُّ يَستُرُها غالِبًا ويُسِرُّها) [1176] يُنظر: ((نهاية المبتدئين)) (ص: 60). .
3- قال حافِظٌ الحَكميُّ: (كراماتُ الأولياءِ حَقٌّ، وهو ظُهورُ الأمرِ الخارِقِ على أيديهم الذي لا صُنْعَ لهم فيه، ولم يَكُنْ بطَريقِ التَّحَدِّي، بَل يُجريه اللهُ على أيديهم، وإن لم يَعلَموا به كقِصَّةِ أصحابِ الكهفِ، وأصحابِ الصَّخرةِ [1177] أخرجها البخاري (2272)، ومسلم (2743) من حديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ولفظ البخاري: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج)). قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه. فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها)). قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أد إلي أجري. فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي. فقلت: إني لا أستهزئ بك. فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)) وجُرَيجٍ الرَّاهِبِ [1178] أخرجها البخاري (2482) مختصرًا، ومسلم (2550) مطولاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظ البخاري: ((كان رجل في بني إسرائيل يقال له: جريج، يصلي، فجاءته أمه فدعته، فأبى أن يجيبها، فقال: أجيبها أو أصلي؟ ثم أتته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات. وكان جريج في صومعته، فقالت امرأة: لأفتنن جريجا. فتعرضت له فكلمته فأبى، فأتت راعيا، فأمكنته من نفسها. فولدت غلاما، فقالت: هو من جريج. فأتوه، وكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي. قالوا: نبني صومعتك من ذهب. قال: لا، إلا من طين)) ، وكُلُّها مُعجِزاتٌ لأنبيائِهم؛ ولِهَذا كانَت في هذه الأمَّةِ أكثَرَ وأعظَمَ لعِظَمِ مُعجِزاتِ نَبيِّها، وكرامَتِه على اللهِ عزَّ وجَلَّ، كما وقَعَ لأبي بَكرٍ في أيَّامِ الرِّدَّةِ، وكنداءِ عُمَرَ لساريةَ وهو على المِنبَرِ، فأبلَغَه وهو بالشَّامِ، وككِتابَتِه إلى نِيلِ مِصرَ فجرى، وكخَيلِ العَلاءِ بنِ الحَضرَميِّ؛ إذ خاضَ بها البَحرَ في غَزْوِ الرُّومِ، وكصَلاةِ أبي مُسْلِمٍ الخَولانيِّ في النَّارِ الَّتي أوقَدَها له الأسوَدُ العَنسيُّ، وغيرِ ذلك مِمَّا وقَعَ لكثيرٍ منهم في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَعدَه في عَصرِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ ومَن بَعدِهم إلى الآنَ، وإلى يَومِ القيامةِ، وكُلُّها في الحَقيقةِ مُعجِزاتٌ لنَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّهم إنَّما نالوا ذلك بمُتابَعَتِه) [1179] يُنظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 137). .
4- قال مُحَمَّد خَليل هرَّاسٍ: (قد تَواتَرَت نُصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ودَلَّتِ الوَقائِعُ قديمًا وحَديثًا، على وُقوعِ كراماتِ اللهِ لأوليائِه المُتَّبعينَ لهَدْيِ أنبيائِهم.
والكرامةُ أمرٌ خارِقٌ للعادةِ، يُجريه اللهُ على يَدِ وَليٍّ من أوليائِه؛ مَعونةً له على أمرٍ دينيٍّ أو دُنْيَويٍّ...
ولم تَزَلِ الكراماتُ مَوجودةً لم تَنقَطِعْ في هذه الأمَّةِ إلى يَومِ القيامةِ، والمُشاهَدةُ أكبَرُ دَليلًا) [1180] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 253). .
5- قال ابنُ بازٍ: (الأولياءُ هم أهلُ الإيمانِ، هم المُؤمِنونَ باللهِ ورَسولِه، والرُّسلُ وأتباعُهم هم أولياءُ اللهِ؛ قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] ثُمَّ قال سُبحانَه: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، فأولياءُ اللهِ هَم أحبَّاؤُه، هم الرُّسلُ وأتباعُهم المُستَقيمونَ على الحَقِّ، ولهم كراماتٌ هي في حَقِّ الأنبياءِ تُسَمَّى مُعجِزاتٍ، وفي حَقِّ الأولياءِ تُسَمَّى كراماتٍ، يَعني خَرقًا للعادةِ لحُجَّةٍ أو حاجةٍ، إمَّا لإقامةِ حُجَّةٍ لإظهارِ الحَقِّ، وإمَّا لحاجةٍ أصابَتْهم لفقرٍ أو غيرِه، فيُسَهِّلُ اللهُ لهم ما يُعينُهم بأسبابٍ خارِقةٍ للعادةِ، مِثلُ قِصَّةِ أهلِ الكَهفِ لَمَّا أنامَهم اللهُ النَّومةَ الطَّويلةَ ثُمَّ أحياهم، وكفاهم شَرَّ أعدائِهم، ومِثلُ عَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ وأُسَيدِ بْنِ حُضَيرٍ، لَمَّا أتيا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في اللَّيلِ، ثُمَّ خَرجا منه في ليلةٍ ظَلْماءَ، أضاءَت لهما أسواطُهما نُورًا، حَتى وصَلا إلى بُيوتِهما، هذه من آياتِ اللهِ [1181] لفظ الحديث: عن أنسٍ رَضِيَ الله عنه (أنَّ أُسَيدَ بنَ حُضَيرٍ، وعَبَّادَ بنَ بِشرٍ كانا عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ليلةٍ ظَلْماءَ حَندَس، قال: فلمَّا خرجا من عنده أضاءت عصا أحَدِهما، فكانا يمشيان بضوئِها، فلما تفَرَّقا أضاءت عصا هذا وعصا هذا). أخرجه البخاري معلَّقًا بعد حديث (3805)، وأخرجه موصولًا أحمد (12980) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8245). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (2032)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (5261)، وصحَّح إسنادَه على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12980). والحديث أخرجه -دون تسمية الصحابيَّينِ- البخاري (465) عن أنس رضي الله عنه ((أنَّ رجُلَينِ من أصحاب النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرجا من عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ليلةٍ مُظلمةٍ، ومعهما مثلُ المصباحينِ يُضيآن بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كلِّ واحدٍ منهما واحِدٌ حتى أتى أهلَه .(( [1182] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (2/ 190). .
6- قال ابنُ عُثَيمين: (الكرامةُ ثابِتةٌ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ، والواقِعِ سابِقًا ولاحِقًا.
فمِنَ الكراماتِ الثَّابِتةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ... قِصَّةُ مَريمَ رَضِيَ اللهُ عَنها، أكرَمَها اللهُ حيثُ أجاءَها المُخاضُ إلى جِذعِ النَّخلةِ، وأمرَها اللهُ أن تَهُزَّ بجِذْعِها لتَتَساقَطَ عليها رُطَبًا جَنِيًّا.
ومِن ذلك قِصَّةُ الرَّجُلِ الذي أماتَه اللهُ مِئةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَه؛ كرامةً له، ليَتَبيَّنَ له قُدرةُ اللهِ تعالى، ويَزدادَ ثَباتًا في إيمانِه.
أمَّا في السُّنَّةِ فالكَراماتُ كثيرةٌ، وراجِعْ «كِتابَ الأنبياءِ، بابَ ما ذُكِرَ عَن بني إسرائيلَ» في «صَحيحِ البُخاريِّ»، وكِتابَ «الفُرقانِ بينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيطانِ» لشيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ.
وأمَّا شَهادةُ الواقِعِ بثُبوتِ الكراماتِ فظاهرٌ يَعلَمُ به المَرءُ في عَصرِه إمَّا بالمُشاهَدةِ، وإمَّا بالأخبارِ الصَّادِقةِ. فمَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ التَّصديقُ بكَراماتِ الأولياءِ) [1183] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 299). .

انظر أيضا: