الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ السَّابِعُ: هل من الأمورِ التي تفَرَّد بها الأنبياءُ: أنَّ الأرضَ لا تأكُلُ أجسادَهم؟

ذكر كثيرٌ من العلماء أنَّ من إكرامِ اللهِ لأنبيائِه ورُسُله أنَّ الأرضَ لا تأكُلُ أجسادَهم، فمهما طال الزَّمانُ وتقادَمَ العَهدُ تبقى أجسادُهم محفوظةً مِنَ البِلَى.
وعُمْدتُهم في هذا حديث: ((إنَّ اللهَ حَرَّم على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ )) [873] أخرجه أبو داود (1047)، والنَّسائيُّ (1374)، وابن ماجهْ (1636) من حديث أوس بن أوس رَضِيَ اللهُ عَنهُ. وقدِ اختُلِف في تصحيحه وتضعيفه. فصحَّحه ابن خُزيمة في ((صحيحه)) (1733)، وابن حِبَّان في ((صحيحه)) (910)، والحاكم على شرط الشَّيخَين في ((المستدرَك)) (5/776)، ومحمَّد بن عبد الهادي في ((الصَّارم المُنكي)) (336)، وابن باز في ((فتاوى نور على الدَّرب)) (2/206)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1047)، وصحَّحه لغيره شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1047)، وحسَّنه ابن العربيِّ في -كما في ((التَّذكِرة)) للقُرطبيِّ (164)-، وصحَّح إسنادَه النَّوويُّ في ((المجموع)) (4/548)، وجوَّده الشَّوكانيُّ في ((نَيل الأوطار)) (3/305)، وذكر ثُبوتَه ابنُ تيميَّةَ في ((حقوق آل البيت)) (60)، وقال ابن القيِّم في ((تهذيب السُّنن)) (4/389): «غَلِط في هذا الحَديثِ فَريقانِ: فَريقٌ في لَفظِه، وفَريقٌ في تَضعيفِه»، وذكر في ((جِلاء الأفهامِ)) (149) أنه قوَّاه بعضُهم، وقال ابن حجر في ((التَّلخيص الحبير)) (2/593): «له شاهِدٌ». وقال المُنذريُّ في ((التَّرغيب والتَّرهيب)) (1/336): «له عِلَّةٌ دَقيقةٌ امتازَ إلَيها البُخاريُّ وغَيرُه»، وقال ابن العربيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (1/471): «لم يَثبُتْ»، وذكر ابن القطَّان في ((الوهم والإيهام)) (5/574) أن هذه الزِّيادةَ فيها عبدُ الرحمن بن يزيدَ بن ِتميمٍ؛ مُنكر الحديثِ ضَعيفُه، وقال السَّخاويُّ في ((القول البديع)) (231): «لهذا الحَديثِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ». والحديثُ رُوي عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم: ((أَكثِروا الصَّلاةَ عَلَيَّ يومَ الجُمُعةِ؛ فإنَّه مَشهودٌ تَشهَدُه المَلائكةُ، وإنَّ أحَدًا لن يُصَلِّيَ عَلَيَّ إلَّا عُرِضَت عَلَيَّ صَلاتُه حتَّى يَفرُغَ مِنها. قال: قُلتُ: وبَعدَ المَوتِ؟ قال: وبَعدَ المَوتِ؛ إنَّ اللهَ حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ؛ فنَبيُّ اللهِ حَيٌّ يُرزَقُ)). أخرجه ابن ماجهْ (1637) واللَّفظ له، والطَّبريُّ في ((تهذيب الآثار - الجزء المفقود)) (354)، والثَّعلبي في ((التفسير)) (10/165) جوَّد إسنادَه المنذريُّ في ((التَّرغيب والتَّرهيب)) (2/404). وقال البخاريُّ -كما في ((تحفة المحتاج)) لابن المُلَقِّن (1/527)-: «زَيدٌ عن عُبادةَ مُرسَلٌ»، وقال محمَّد بن عبد الهادي في ((الصَّارم المُنكي)) (349): «فيه إرسالٌ». وذكر أن فيه مجهولَ الحالِ، وقال ابن كثير في ((التَّفسير)) (6/464): «غَريبٌ من هذا الوَجهِ، وفيه انقِطاعٌ»، وقال ابن المُلَقِّن في ((البدر المنير)) (5/288): «إسنادُه حسَنٌ، إلَّا أنَّه غَيرُ مُتَّصِلٍ»، وقال البُوصيريُّ في ((مِصباح الزُّجاجة)) (1/294): «إسنادٌ رِجالُه ثِقاتٌ، إلَّا أنَّه مُنقَطِعٌ»، وقال السَّخاويُّ في ((القول البديع)) (233): «رجاله ثقات، لَكِنَّه مُنقَطِعٌ»، وضعَّفه الألبانيُّ في ((ضعيف سنن ابن ماجهْ)) (1637)، وقال: «غالِبُه في الصَّحيحِ». .
قال الصَّنعانيُّ: (لأنها تَشرُفُ بوَضعِ أقدامِهم عليها وضَمِّهم إليها، فكيف تأكُلُهم؟!) [874] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (4/127). .
وقال السَّخاويُّ: (نحن نؤمِنُ ونُصَدِّقُ بأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَيٌّ يُرزَقُ في قبرِه، وأنَّ جَسَدَه الشَّريفَ لا تأكُلُه الأرضُ، والإجماعُ على هذا) [875] يُنظر: ((القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع)) (ص: 172). .
وسُئِل ابنُ باز: (هل صحيحٌ أنَّ الأرضَ لا تأكُلُ من أجسادِ الأنبياءِ؟ وهل معنى ذلك أنَّ جَسَدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يزالُ كما هو يومَ دُفِنَ؟
فأجاب: جاء عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما رواه أهلُ السُّنَنِ أنَّه قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((خيرُ أيَّامِكم يومُ الجُمُعةِ، وفي لفظٍ: إنَّ من خيرِ أيَّامِكم يومَ الجُمُعةِ؛ فأكثِروا عليَّ من الصَّلاةِ فيه؛ فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ. اللَّهُمَّ صَلِّ عليه وسَلِّم، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ يعني: بَلِيتَ، قال: إنَّ اللهَ حرَّم على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ )) أخرجه أهلُ السُّنَنِ.
لكن ليس إسنادُه بذاك السَّالمِ؛ أعَلَّه بعضُ أهلِ العِلْمِ، والمشهورُ عند أهل ِالعِلْمِ صِحَّتُه وأنَّ إسنادَه حَسَنٌ لا بأسَ به، وهو يدُلُّ على أنَّ أجسادَ الأنبياءِ لا تأكُلُها الأرضُ، بل تبقى طَرِيَّةً سليمةً، كما أخبر به النَّبِيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لكِنَّ الحديثَ ليس من الأحاديثِ المقطوعِ بصِحَّتِها، بل فيها كلامٌ لبَعضِ أهلِ العِلْم، ولكِنَّ الرَّاجِحَ أنَّه جَيِّدٌ، وأنَّه لا بأسَ بإسنادِه. وهذا ليس خاصًّا بالأنبياءِ، بل قد يقع ذلك لبعضِ الصَّالحينَ؛ فقد شاهد النَّاسُ وعلم النَّاس قديمًا وحديثًا أجسادًا مدفونةً مئاتِ السِّنين لا تأكُلُها الأرضُ من أجسادِ الصَّالحينَ والأخيارِ ومِن الشُّهَداءِ وغيرِ الشُّهَداءِ؛ فاللهُ جَلَّ وعلا على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، فله الحِكمةُ البالغةُ جَلَّ وعلا، ولكِنْ جاء النَّصُّ في أجسادِ الأنبياءِ خاصَّةً: إنَّ اللهَ حرَّم على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ ، ورُوحُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الجَنَّةِ في أعلى عِلِّيِّين في الرَّفيقِ الأعلى، وجَسَدُه في الأرضِ) [876] يُنظر: ((الموقع الرسمي لابن باز)). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ قُبورَ الأنبياءِ مِن أطهَرِ البقاعِ، ليس للنَّجاسةِ عليها طريقٌ البتَّةَ؛ فإنَّ اللهَ حرَّم على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَهم، فهم في قُبورِهم طرِيُّون) [877] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (1/ 339). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (حرَّم اللهُ على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ ، كما رُوِيَ في السُّنَنِ، وأمَّا الشُّهَداءُ فقد شوهِدَ منهم بعد مُدَدٍ مِن دَفنِه كما هو لم يتغيَّرْ، فيحتَمِلُ بقاؤه كذلك في تربتِه إلى يومِ مَحشَرِه، ويحتَمِلُ أنَّه يبلى مع طولِ المدَّةِ. واللهُ أعلَمُ. وكأنَّه -واللهُ أعلَمُ- كُلَّما كانت الشهادةُ أكمَلَ، والشَّهيدُ أفضَلَ، كان بقاءُ جَسَدِه أطوَلَ) [878] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 588). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (اعلَمْ أنَّ الإنسانَ إذا دُفِنَ فإنَّ الأرضَ تأكُلُه لا يبقى إلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ، وعَجْبُ الذَّنبِ هذا يَكونُ كالنَّواةِ لخَلقِ النَّاسِ يومَ القيامةِ، تَنبُتُ منه الأجسادُ، إلَّا الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ الأرضَ لا تأكُلُهم... أمَّا غيرُ الأنبياءِ فإنَّ الأرضَ تأكُلُ أجسادَهم، ولكِنْ قد يمنعُ اللهُ الأرضَ أن تأكُلَ أحدًا؛ كرامةً له) [879] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 91). .

انظر أيضا: