الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الثَّاني: من مقتضى بَشَريَّةِ الأنبياءِ والرُّسُلِ: تعَرُّضُهم للبلاءِ

فقد يُسجَنون كما سُجِنَ يوسُفُ عليه السَّلامُ. قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ [يوسف: 33] .
وقال اللهُ تعالى عنه: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف: 42] .
وقد يصيبُهم قومُهم بالأذى كما وقع لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69] .
وقد يُدْمُونَهم، كما أصابوا النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في معركةِ أحُدٍ فأَدْمَوه، وكَسَروا رَبَاعِيَتَه.
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِديِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّهُ سُئِلَ عن جُرْحِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ أُحُدٍ، فَقالَ: جُرِحَ وجْهُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وهُشِمَتِ البَيْضَةُ علَى رَأْسِهِ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، تَغْسِلُ الدَّمَ وعَلِيٌّ يُمْسِكُ، فَلَمَّا رَأَتْ أنَّ الدَّمَ لا يَزِيدُ إلَّا كَثْرَةً، أخَذَتْ حَصِيرًا فأحْرَقَتْهُ حتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ ألْزَقَتْهُ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ [775] أخرجه البخاري (2911) واللَّفظُ له، ومسلم (1790) .
وقد يُخرجونهم من ديارِهم ويَطرُدونَهم كما وقع لإبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قال اللهُ تعالى حاكيًا قَولَ آزَرَ لإبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 46 - 48] .
وقد يَقتُلونهم، كما قال تعالى لليهودِ: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] .
وقد يصابون بالأمراضِ، كما ابتلى الله نبيَّه أيُّوبَ فصبر.
قال اللهُ تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41] .
والأنبياءُ لا يُصابون بالبلاءِ فحَسْبُ، بل هم أشدُّ النَّاسِ بلاءً.
فعن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ عن أبيه قال: ((قُلتُ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ، يُبتلى الرَّجُلُ على حَسَبِ دينِه؛ فإن كان دينُه صُلْبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينِه رِقَّةٌ ابتُلِيَ على حَسَبِ دينِه، فما يَبرَحُ البلاءُ بالعَبْدِ حتى يتركَه يمشي على الأرضِ ما عليه خَطيئةٌ )) [776] أخرجه الترمذي (2398)، وأحمد (1607) واللَّفظُ لهما، وابن ماجه (4023) باختلافٍ يسيرٍ. صَحَّحه الترمذي والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2398)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/146)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (7/5)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (377). .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَرَضِهِ فَمَسِسْتُهُ، وهو يُوعَكُ وعْكًا شَدِيدًا، فَقُلتُ: إنَّكَ لَتُوعَكُ وعْكًا شَدِيدًا، وذلكَ أنَّ لكَ أجْرَيْنِ؟ قالَ: أجَلْ، وما مِن مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذًى، إلَّا حاتَّتْ عنْه خَطاياهُ [777] قال ابنُ حَجَرٍ: (المعنى، فتَّت، وهي كنايةٌ عن إذهابِ الخطايا) ((فتح الباري)) (10/ 111). ، كما تَحاتُّ ورَقُ الشَّجَرِ )) [778] أخرجه البخاري (5661) واللَّفظُ له، ومسلم (2571). .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [779] أخرجه البخاري (5646) واللَّفظُ له، ومسلم (2570). .
قال ابنُ حَجَرٍ في شرحِ ترجمةِ البُخاريِّ (بابُ: أشَدُّ النَّاسِ بلاءً الأنبياءُ ثُمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ) قال: (السِّرُّ فيه أنَّ البلاءَ في مُقابَلةِ النِّعمةِ، فمن كانت نعمةُ اللهِ عليه أكثَرَ كان بلاؤه أشَدَّ؛ ومِن ثَمَّ ضُوعِفَ حَدُّ الحُرِّ على العبدِ، وقيل لأمَّهاتِ المُؤمِنينَ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) [780] يُنظر: ((فتح الباري)) (10/ 112). .

انظر أيضا: