الموسوعة العقدية

المَبْحَثُ الثَّاني: من وظائِفِ الرُّسُلِ: الدَّعوةُ إلى اللهِ

لا تَقِفُ مُهِمَّةُ الرُّسُلِ عند حدِّ بَيانِ الحقِّ وإبلاغِه، بل عليهم دعوةُ النَّاسِ إلى الأخذِ بدَعوتِهم، والاستجابةِ لها، وتحقيقِها في أنفُسِهم اعتقادًا وقولًا وعمَلًا.
قال اللهُ تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] .
قال ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى آمِرًا رَسولَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يدعوَ الخَلْقَ إلى اللهِ بِالْحِكْمَةِ قال ابنُ جَريرٍ: وهو ما أنزله عليه من الكِتابِ والسُّنَّةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أي: بما فيه من الزَّواجِرِ والوقائِعِ بالنَّاسِ، ذَكِّرْهم بها؛ ليَحذَروا بأسَ اللهِ تعالى) [648] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 613). .
وقال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46].
قال ابنُ جَريرٍ: (قَولُه: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ يقولُ: وداعيًا إلى توحيدِ اللهِ، وإفرادِ الأُلوهةِ له، وإخلاصِ الطَّاعةِ لِوَجهِه دون كُلِّ مَن سِواه من الآلهةِ والأوثانِ... بأمْرِه إيَّاك بذلك) [649] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/ 126). .
وقد ضرَبَت الملائكةُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَثَلًا يُوَضِّحُ دَورَه، ويُبَيِّنُ وظيفتَه في الدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى.
فعن جابِرِ بن عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((جاءت ملائكةٌ إلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو نائِمٌ، فقال بعضُهم: إنَّه نائِمٌ. وقال بعضُهم: إنَّ العينَ نائِمةٌ والقَلبَ يَقظانُ. فقالوا: إنَّ لصاحِبِكم هذا مَثَلًا فاضربوا له مَثَلًا. فقال بَعضُهم: إنَّه نائِمٌ. وقال بعضُهم: إنَّ العينَ نائِمةٌ والقَلْبَ يَقْظانُ. فقالوا: مَثَلُه كمَثَلِ رَجُلٍ بنى دارًا، وجعل فيها مأدُبةً وبعث داعِيًا، فمن أجاب الدَّاعِيَ دَخَل الدَّارَ وأكل مِنَ المأدُبةِ، ومن لم يُجِبِ الدَّاعِيَ لم يدخُلِ الدَّارَ ولم يأكُلْ مِنَ المأدُبةِ. فقالوا: أوِّلوها له يَفْقَهْها. فقال بَعضُهم: إنَّه نائِمٌ. وقال بعضُهم: إنَّ العينَ نائِمةٌ والقَلْبَ يَقْظانُ. فقالوا: فالدَّارُ الجَنَّةُ، والدَّاعي مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمن أطاع مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقد أطاع اللهَ، ومن عصى مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقد عصى اللهَ، ومُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرْقٌ بين النَّاسِ )) [650] رواه البخاري (7281). .
قال ابنُ حَجَرٍ في شَرحِ الحَديثِ: (تقدَّم في كِتابِ المناقِبِ مِن وَجهٍ آخَرَ عن سُلَيمِ بنِ حَيَّانَ بهذا الإسنادِ، قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلي ومَثَلُ الأنبياءِ كرَجُلٍ بنى دارًا فأكمَلَها وأحسَنَها إلَّا مَوضِعَ لَبِنةٍ))... الحديث [651] أخرجه البخاري (3534) واللَّفظُ له، ومسلم (2287) مِن حَديثِ جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وهو حديثٌ آخَرُ، وتمثيلٌ آخَرُ، فالحديثُ الذي في المناقِبِ يتعَلَّقُ بالنُّبُوَّةِ وكَونِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتَمَ النَّبِيِّينَ.
وهذا يتعَلَّقُ بالدُّعاءِ إلى الإسلامِ وبأحوالِ مَن أجاب أو امتنع) [652] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 256). .
قال ابنُ تَيمِيَّةَ: (الدَّعوةُ إلى اللهِ تكونُ بدَعوةِ العَبدِ إلى دينِه، وأصلُ ذلك عبادتُه وَحْدَه لا شريكَ له، كما بعث اللهُ بذلك رُسُلَه وأنزل به كُتُبَه. قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل: 36] ، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ) [653] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (15/158). .
وقال علي القاري: (إنما جاء الأنبياءُ عليهم السَّلامُ لبيانِ التوحيدِ وتِبيانِ التفريدِ؛ ولذا أطبَقَت كَلِمَتُهم وأجمعت حُجَّتُهم على كَلِمةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ) [654] يُنظر: ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 24). .
وقال ابنُ باز: (كُلُّ من له أدنى إلمامٍ بالعِلْمِ يَعرِفُ أنَّ الدَّعوةَ شأنُها عظيمٌ، وأنَّها مُهِمَّةُ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، والرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ هم الأئِمَّةُ في هذا الشَّأنِ، وهم الأئِمَّةُ في الدَّعوةِ، وهي وظيفتُهم؛ لأنَّ اللهَ جَلَّ وعلا بعثهم دعاةً للحَقِّ، وهُداةً للخَلقِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ... قال اللهُ تعالى في كِتابه المُبِين: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، فبَيَّن سُبحانَه وتعالى أنَّ الرُّسُلَ جميعًا بُعِثوا لهذا الأمرِ العَظيمِ للدَّعوةِ إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه، واجتنابِ الطَّاغوتِ) [655] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/104-106). .
وقد بذل الرُّسُلُ في سبيلِ دَعوةِ النَّاسِ إلى اللهِ جُهودًا عظيمةً، ومنهم نوحٌ عليه السَّلامُ الذي لم يألُ جُهدًا في دَعوةِ قَومِه خِلالَ تِسعِمائةٍ وخمسينَ عامًا، فدعاهم ليلًا ونهارًا، سِرًّا وعلانيةً، واستعمل أساليبَ الترغيبِ والترهيبِ، والوَعدِ والوعيدِ، وحاول أن يَفتَحَ عُقولَهم، وأن يُوَجِّهَها إلى ما في الكونِ مِن آياتٍ [656] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 45). .
والنَّظَرُ في دعوةِ الرُّسُلِ يَدُلُّ على مدى صِدْقِهم؛ فقد جاءت الرُّسُلُ بمنهجٍ مُتكامِلٍ لإصلاحِ الإنسانِ، والمجتَمَعِ الإنسانيِّ. والأنبياءُ الذين جاؤوا بذلك يقولون إنَّه مُنَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وعليه لا بدَّ أن يَكونَ في غايةِ الكَمالِ، خاليًا من النقائصِ والعُيوبِ، لا يتعارَضُ مع فِطرةِ الإنسانِ، وسُنَنِ الكَونِ، فهو وَحدةٌ مُتكامِلةٌ يُصَدِّقُ بَعْضُه بعضًا، لا تناقُضَ فيه ولا اختِلافَ؛ مِمَّا يدُلُّ بوضوحٍ على صِدْقِ من جاء به [657] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 202). .

انظر أيضا: