الموسوعة العقدية

المطلبُ الأولُ: الأخبارُ الغيبيَّةُ المُتعَلِّقةُ بالماضي

منها: الإخبارُ عن خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ، وآدَمَ عليه السَّلامُ، وقِصَّةِ إبليسَ لعنه اللهُ، وقَصَصِ الأنبياءِ السَّابِقينَ.
ووَجهُ الغَيبِ فيها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أُمِّيًّا لا يَعرِفُ القراءةَ، فلم يُعهَد عنه أنَّه قرأ في كُتُبِ أهلِ الكِتابِ، أو تلقَّى درسًا عن أحدٍ منهم، أو خالطهم، ولم يكُنْ أحدٌ مِن قَومِه يَعلَمُ شيئًا من تلك الأخبارِ الماضيةِ.
قال اللهُ تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] .
وقال اللهُ تعالى في قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ... وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ [هود: 44-46] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ في قِصَّةِ مريمَ عليها السَّلامُ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] .
قال ابنُ كثير: (قال اللهُ تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 6] أي: أنزله عالمُ الخَفِيَّاتِ، ورَبُّ الأرضِ والسَّمواتِ، الذي يعلَمُ ما كان وما يكونُ، وما لم يكُنْ لو كان كيف يكونُ، فإنَّه تعالى أوحى إلى عَبدِه ورَسولِه النَّبيِّ الأُمِّيِّ الذي كان لا يُحسِنُ الكِتابةَ ولا يَدريها بالكُلِّيةِ، ولا يعلَمُ شيئًا من عِلمِ الأوائِلِ، وأخبارِ الماضين، فقَصَّ اللهُ عليه خَبَر ما كان وما هو كائِنٌ على الوَجهِ الواقِعِ سَواءً بسَواءٍ، وهو في ذلك يَفصِلُ بين الحَقِّ والباطلِ الذي اختلفت في إيرادِه جملةُ الكُتُبِ المتقَدِّمةِ، كما قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49] ، وقال تعالى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا [طه: 99 - 101] ، وقال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [العنكبوت: 48 - 52] .
ففي هذا القُرْآنِ من الأخبارِ الصَّادقةِ عن اللهِ ومَلائِكتِه وعَرشِه ومَخلوقاتِه العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ -كالسَّمواتِ والأَرَضِينَ، وما بينهما وما فيهنَّ- أمورٌ عظيمةٌ كثيرةٌ مُبرهَنَةٌ بالأدِلَّةِ القَطعيَّةِ المُرشِدةِ إلى العِلمِ بذلك من جِهةِ العَقلِ الصَّحيحِ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ، وقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 27، 28]، وفي القُرآنِ العظيمِ الإخبارُ عَمَّا مضى على الوَجهِ الحَقِّ، وبُرهانُه ما في كُتُبِ أهلِ الكتابِ من ذلك شاهِدًا له، مع كونِه نزل على رجُلٍ أُمِّيٍّ لا يَعرِفُ الكتابةَ ولم يعانِ يومًا من الدَّهرِ من علومِ الأوائِلِ، ولا أخبارِ الماضِينَ، فلم يَفجَأِ النَّاسَ إلَّا بوَحيٍ إليه عمَّا كان من الأخبارِ النَّافعةِ التي ينبغي أن تُذكَرَ للاعتبارِ بها من أخبارِ الأُمَمِ مع الأنبياءِ، وما كان من أمورِهم معهم، وكيف نجَّى اللهُ المؤمنين وأهلك الكافِرينَ، بعبارةٍ لا يستطيعُ بَشَرٌ أن يأتيَ بمِثْلِها أبَدَ الآبِدِينَ ودَهْرَ الدَّاهِرينَ، ففي مكانٍ تُقَصُّ القِصَّةُ مُوجَزةً في غايةِ البيانِ والفصاحةِ، وتارةً تُبْسَطُ، ولا أحلى ولا أجلى ولا أعلى من ذلك السِّياقِ، حتى كأنَّ التَّاليَ والسَّامِعَ مُشاهِدٌ لِما كان، حاضِرٌ له، مُعايِنٌ للخَبرِ بنَفْسِه! كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وقال تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] ، وقال تعالى في سورة يوسف: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف: 102، 104] إلى أن قال في آخِرِها: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111]) [278] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (8/ 541-545). .

انظر أيضا: