الموسوعة الفقهية

الفصل الثاني: وقتُ طوافِ القُدومِ، ومتى يسقط؟


المبحث الأول: وقتُ طوافِ القُدومِ
يبدأ وقتُ طوافِ القُدومِ حين دخولِ مكَّةَ، وينتهي بالوقوفِ بعَرَفة، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي و((حاشية الشلبي)) (2/37)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/508). ، والمالِكيَّة ((الكافي)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/360)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/115). ، والشَّافعيَّة ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/292)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/134). ، وهو قولٌ للحَنابِلة ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/173)، ((الإنصاف)) للمرداوي (4/32). ، اختاره ابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة مستدركًا على الإمام أحمد قولَه بمشروعيَّةِ طواف القُدومِ للمتمتِّع بعد يومِ عَرَفة: (لا أعلمُ أحدًا وافق أبا عبد اللهِ على هذا الطَّوافِ الذي ذكره الخرقي، بل المشروعُ طوافٌ واحدٌ للزيارةِ، كمن دخلَ المسجِدَ وقد أقيمت الصَّلاةُ، فإنَّه يكتفي بها عن تحيَّة المسجد؛ ولأنَّه لم يُنقَل عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولا عن أصحابه الذين تمتَّعوا معه في حَجَّةِ الوداع؛ ولا أَمَرَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحدًا) ((المغني)) (3/392، 393). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (لا يُستحَبُّ للمتمتِّعِ أن يطوفَ طوافَ القُدومِ بعد رجوعه من عَرَفةَ قبل الإفاضةِ، وهذا هو الصواب) يُنْظَر: ((الإنصاف)) للمرداوي (4/33). ، وصحَّحَه ابنُ رجبٍ قال ابنُ رجب: (وهو الأصحُّ) ((قواعد ابن رجب)) (ص: 25).
الأدِلَّة:
أدِلَّةُ أنَّ طَوافَ القُدوم ِيكونُ عند أوَّلِ القُدومِ إلى مكَّة
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((إنَّ أوَّلَ شيءٍ بدأ به حين قَدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه توضَّأَ ثمَّ طاف )) رواه البخاري (1614) واللفظ له، ومسلم (3060).
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، في صِفَةِ حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((حتى إذا أَتَيْنا البيتَ معه استلم الرُّكْنَ فرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا )) رواه مسلم (1218).
ثانيًا: لأنَّ طوافَ القُدومِ تحيَّةُ البيت، فاستُحِبَّ البدايةُ به كتحيَّةِ المسجِدِ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/133).
أدِلَّة أنَّ وَقْتَ طوافِ القُدومِ ينتهي بالوقوفِ بعَرَفةَ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((فطاف الذين أهلُّوا بالعُمْرةِ، ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخرَ، بعد أن رَجَعوا مِن مِنًى، وأمَّا الذين جمعوا بين الحجِّ والعُمْرةِ، فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا )) رواه البخاري (1556) واللفظ له، ومسلم (1211).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه إنَّما طافوا بعد يومِ عَرَفةَ طوافَ الإفاضةِ، ومنهم من كان متمتِّعًا لم يَطُفْ إلَّا طوافَ عُمْرَتِه، ومنهم من لم يُدْرِكِ الحجَّ إلَّا يومَ عَرَفةَ، فعُلِمَ أنَّ طوافَ القُدومِ إنَّما يُشرَع لِمَن أتى البيتَ قبل الوقوفِ بِعَرَفةَ ((المغني)) لابن قُدامة (3/392، 393).
ثانيًا: أنَّ المُحْرِم بعد الوقوفِ بعَرَفةَ مُطالَبٌ بطوافِ الفَرْضِ، وهو طوافُ الزيارةِ ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/ 65).
ثالثًا: أنَّ طوافَ الإفاضةِ يُغني عن طوافِ القُدومِ لِمَن لم يَقْدَمِ البيتَ إلَّا بعد يومِ عَرَفةَ، كالصَّلاةِ الفَرْضِ تُغني عن تحيَّة المسجد ((تبيين الحقائق وحاشية الشلبي)) (2/37)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/393).
رابعًا: أنَّ طواف القدومِ لو لم يَسْقُطْ بالطَّوافِ الواجِبِ، لشُرِعَ في حقِّ المعتَمِر طوافٌ للقدومِ مع طوافِ العُمْرةِ؛ لأنَّه أوَّلُ قُدومِه إلى البيتِ، فهو به أَوْلى مِنَ المتمتِّع، الذي يعود إلى البيتِ بعد رُؤْيَتِه وطوافِه به ((تبيين الحقائق وحاشية الشلبي)) (2/37)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/393).
خامسًا: أنَّ طوافَ القُدومِ شُرِعَ في ابتداءِ الحَجِّ على وجهٍ يترتَّبُ عليه سائرُ الأفعالِ، فلا يكون الإتيانُ به على غيرِ ذلك الوَجْهِ سُنَّةً ((تبيين الحقائق وحاشية الشلبي)) (2/37).
المبحث الثاني: متى يسقُطُ طَوافُ القُدومِ؟
يسقُطُ طوافُ القُدومِ عن أربعةِ أصنافٍ:
أ – الحائض: وفي حُكْمِها النُّفَساء، وذلك إذا استمَرَّ دَمُهما إلى يومِ عَرَفةَ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة ( 26 / 222)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (2/175) ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (3/319). ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/115).
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نذكُرُ إلَّا الحجَّ، حتى جِئْنا سَرِفَ فطَمِثْتُ، فدخل عليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أبكي، فقال: ما يُبْكيكِ؟ فقلت: واللهِ، لوَدِدْتُ أنِّي لم أكُنْ خَرَجْتُ العامَ، قال: ما لكِ؟ لعلَّكِ نَفِسْتِ؟ قلتُ: نعم، قال: هذا شيءٌ كَتَبَه اللهُ على بناتِ آدَمَ، افعَلِي ما يفعلُ الحاجُّ غيرَ أنْ لا تطوفي بالبَيتِ حتى تَطْهُرِي. قالت: فلمَّا كان يومُ النَّحْرِ طَهُرْتُ، فأمَرَني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأفَضْتُ )) رواه مسلم (1211).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها لَمَّا حاضت، فقَرَنَتِ الحجَّ إلى العُمْرةِ- بأمْرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم تَكُنْ طافت للقُدومِ- لم تطُفْ للقُدومِ، ولا أمَرَها به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((المغني)) لابن قُدامة (3/393).
ب- المَكِّي: وفي حُكْمِه الآفاقيُّ إذا أحرم مِنْ مَكَّة ((الكافي)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/360).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الإجماعِ
نقل الإجماع على أنَّ المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة ابن رشد قال ابنُ رشد: (وأجمعوا على أنَّ المكيَّ ليس عليه إلا طوافُ الإفاضةِ) ((بداية المجتهد)) (1/ 344).
ثانيًا: أنَّ طَوافَ القُدومِ شُرِعَ للقدومِ، فلا يُتَصَوَّر في حقِّ المكِّي طوافُ القدومِ؛ إذ لا قُدومَ له ((المجموع)) للنووي (8/ 12)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/ 63).
ج- المُعْتَمِر والمتمَتِّع
يسقُطُ عن المُعتَمِر والمتَمَتِّع طوافُ القُدومِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/ 390)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/ 121، 122). ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/ 116)، ويُنظر:  ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/ 330). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/ 12)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/ 277). ؛ وذلك لأنَّ طوافَ القُدومِ يندرِجُ في طوافِ العُمْرةِ، ويُجْزِئُ عنهما، كالصَّلاةِ الفَرْضِ تُجْزِئُ عن تحيَّةِ المسجد ((المجموع)) للنووي (8/ 12)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/ 63).
د- مَن قَصَدَ عَرَفةَ رأسًا للوقوفِ
مَن قَصَدَ عَرَفةَ رأسًا للوقوفِ يَسْقُطُ عنه طوافُ القُدومِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي و((حاشية الشلبي)) (2/37)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/ 508). ، والمالِكيَّة ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (2/ 41)، ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/ 317).  وعندهم يسقطُ طوافُ القدومِ إذا ضاق الزَّمَن عليه بحيث يخشى الفواتَ إن اشتغَلَ بالطَّواف. ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/ 12)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/ 277).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ مَحَلَّ طوافِ القُدومِ المسنونِ قبل وقوفِ عَرَفةَ، وقد فات ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/ 63).
ثانيًا: لأنَّ الطَّوافَ المفروضَ عليه قد دخل وقْتُه وخوطِبَ به، فلا يصِحُّ قبل أدائِه أن يتطَوَّعَ بطوافٍ؛ قياسًا على أصْلِ الحجِّ والعُمْرة ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/ 476)
ثالثًا: لأنَّه شُرِعَ في ابتداءِ الحَجِّ على وجهٍ يترتَّبُ عليه سائِرُ الأفعالِ، فلا يكونُ الإتيانُ به على غيرِ ذلك الوَجْهِ سُنَّةً ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/ 508)

انظر أيضا: