الموسوعة الفقهية

المبحث العاشر: حكمُ الحِجامةِ والفَصدِ للصَّائِمِ


المطلب الأول: حُكمُ الحِجامةِ للصَّائِمِ
مَن احتجمَ وهو صائِمٌ؛ فقد اختلف فيه أهلُ العِلمِ على قولين:
القول الأول: أنَّ صَومَه لا يَفسُدُ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/122)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/107)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/330). ، والمالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (2/441)، وينظر: ((المدونة)) لسحنون (1/270). قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (وهو قول الثوري... وقال أبو ثور: أحبُّ إليَّ ألَّا يحتجِمَ أحدٌ صائمًا، فإنْ فعَلَ لم يُفطِرْ، وهو باقٍ على صَومِه) ((الاستذكار)) (10/129). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/349)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (2/106).
الأدِلَّة منَ السُّنَّة:
1- عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه احتجَمَ وهو صائِمٌ )) رواه البخاري (1938) واللفظ له، ومسلم (1202).
2- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سُئِل: ((هل كُنتُم تَكرهونَ الحِجامةَ؟ فقال: لا، إلَّا مِن أجلِ الضَّعفِ )) رواه البخاري (1940).
3- عن بعضِ أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن المُواصَلةِ والحِجامةِ للصَّائِمِ، ولم يُحَرِّمْهما؛ إبقاءً على أصحابِه ) [954] أخرجه أبو داود (2374)، وأحمد (18822)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8266). صحح إسناده ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (286/1)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (4/210)، والعيني في ((عمدة القاري)) (11/101)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (2374).
القول الثاني: من احتجَمَ وهو صائِمٌ، يَفسُد صَومُه وبناءً على هذا القَولِ، فلا يجوزُ للصَّائِمِ التبرُّعُ بالدَّم الكثيرِ الذي يؤثِّرُ في البَدن تأثيرَ الحِجامة. ينظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/272)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/351)، ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) (9/179). ، وهو مِن مُفرداتِ مذهب الحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/214)، وينظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (3/40). ، وبه قال ابنُ تيمية قال ابنُ تيمية: (والقولُ بأنَّ الحِجامةَ تُفَطِّرُ: مَذهَبُ أكثر فُقَهاءِ الحديث، كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم. وأهلُ الحديث الفقهاءُ فيه العامِلونَ به، أخصُّ النَّاسِ باتِّباعِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) ((مجموع الفتاوى)) (25/252). ، وابن باز قال ابنُ باز: (لا يضر الصَّائِمَ خُروجُ الدَّمِ إلَّا الحِجامة، فإذا احتجَمَ فالصَّحيحُ أنه يُفطِرُ بالحِجامة، وفيها خلافٌ بين العلماءِ، لكنَّ الصَّحيحَ أنَّه يُفطِرُ بذلك) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/271). ، وابن عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (إذا احتجم الصَّائِمُ وظهر منه الدَّمُ، فإنَّه يُفطِرُ) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (20/145).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: منَ السُّنَّة
عن شدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أفطَرَ الحاجِمُ والمَحجومُ )) رواه أبو داود (2/308) (2369), والنسائي في ((الكبرى)) (3126), وابن ماجه (1681)،و أحمد (4/122) الحديث صححه البخاري في ((العلل الكبير )) (121)، فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس وثوبان كلاهما عندي صحيح، وصححه علي بن المديني وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد، كما في ((تنقيح التحقيق)) للذهبي ( 2/319)، والدارمي كما في ((السنن الكبرى)) (4/265)، وابن القيم في (( تهذيب السنن((6/495)، والألباني في ((صحيح أبي داود)) (2369).
ثانيًا: لأنَّه يَحصُلُ بالحِجامةِ ضَعفٌ شديدٌ، يحتاجُ معه الصَّائِمُ إلى تغذيةٍ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/528).
المطلب الثاني: حكمُ الفَصدِ للصَّائِمِ
اختلَف أهلُ العلم في إفسادِ الفَصْد الفَصْد: قطعُ العِرق لإسالة الدَّم. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/21). للصَّومِ؛ على قولين:
القول الأول: الفَصدُ لا يُفسِدُ الصَّومَ؛ وهو مذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((البناية شرح الهداية)) للعيني (4/109)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/107). ، والمالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (2/441). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/349). ؛ لأنَّ الفَصدَ في معنى الحِجامةِ ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/ 174).
القول الثاني: الفصدُ يُفسِدُ الصَّومَ، وهو أحَدُ الوَجهينِ في مذهَبِ الحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/215). ، واختاره ابنُ تيميةَ قال ابنُ تيمية: (وقد بيَّنَّا أنَّ الفِطرَ بالحِجامة على وَفقِ الأُصولِ والقِياسِ، وأنَّه من جنس الفِطرِ بِدَمِ الحَيضِ والاستقاءةِ وبالاستمناءِ، وإذا كان كذلك فبأيِّ وجهٍ أراد إخراجَ الدَّمِ أفطَرَ، كما أنَّه بأيِّ وَجهٍ أخرج القيءَ أفطَرَ، سواءٌ جذَبَ القَيءَ بإدخالِ يَدِه أو بِشَمِّ ما يُقِيئه أو وضَعَ يدَه تحت بطنِه واستخرَجَ القَيءَ، فتلك طُرقٌ لإخراجِ القيءِ، وهذه طُرقٌ لإخراجِ الدمَّ) ((مجموع الفتاوى)) (25/257). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (والصَّحيحُ أنَّ ما كان بمعناها- أي الحِجامة- يأخذُ حُكمَها) (الشرح الممتع)) (6/351). وقال أيضًا: (وفي معنى إخراج الدمِ بالحِجامة إخراجُه بالفَصدِ ونَحوِه مما يُؤَثِّر على البَدنِ، كتأثيرِ الحِجامةِ, وعلى هذا فلا يجوزُ للصَّائِمِ صومًا واجبًا أن يتبرَّعَ بإخراجِ دَمِه الكثيرِ الذي يؤثِّرُ على البدن تأثيرَ الحِجامةِ، إلَّا أن يُوجَدَ مُضَطرٌّ له لا تندفِعُ ضَرورتُه إلَّا به، ولا ضرر على الصَّائِم بسَحبِ الدَّمِ منه، فيجوز للضَّرورةِ، ويُفطِرُ ذلك اليومَ ويقضي، وأمَّا خروجُ الدم بالرُّعافِ أو السُّعال، أو الباسور أو قلع السِّنِّ، أو شَقِّ الجُرح أو تحليلِ الدَّم، أو غَرزِ الإبرة ونحوِها- فلا يُفطِّر؛ لأنه ليس بحِجامةٍ ولا بمعناها، إذ لا يؤثِّرُ في البدن كتأثيرِ الحِجامة) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (20/285). وانظر ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (20/285)، و (19/251). ، وبه أفتَتِ اللَّجنةُ الدَّائِمةُ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/257)، ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين))، (20/285)، ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) (9/179). ؛ وذلك قياسًا على الحِجامة ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (20/108)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/383).

انظر أيضا: