الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثامن: الإنصات


الفَرعُ الأوَّلُ: حُكمُ الإنصاتِ أثناءَ الخُطبةِ
يجِبُ الإنصاتُ أثناءَ الخُطبةِ، ويَحرُمُ الكلامُ قال ابنُ رجب: (أجمَع العلماءُ على أنَّ الأفضل لِمَن سمِع خُطبة الإمام أن يَنصِتَ ويستمعَ، وأنَّه أفضلُ ممَّن يَشتغل عن ذلك بذِكر الله في نفْسه، أو تِلاوة قرآنٍ، أو دعاء) ((فتح الباري)) (5/496). ، وهو مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/158)، ويُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازة (2/81). ، والمالِكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (2/ 178)، ويُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/161)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/88). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/47)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/788). ، وقولٌ للشافعي في القديمِ قال النوويُّ: (وهل يجِب الإنصاتُ ويَحرُم الكلامُ؟ فيه قولان مشهورانِ، وقد ذَكرَهما المصنِّف بتفريعهما في باب هيئة الجُمعة (أصحهما)- وهو المشهور في الجديد-: يُستحبُّ الإنصاتُ ولا يجِب ولا يَحرُم الكلامُ. (والثاني)- وهو نصُّه في القديم، والإملاء من الجديدِ-: يجب الإنصاتُ، ويحرُم الكلام) ((المجموع)) (4/523). ، وبه قال أكثرُ أهلِ العِلمِ قال ابنُ رجب: (اختَلفوا: هل إنصاتُ مَن سمِع الخطبة واجبٌ، وكلامه في تِلك الحال محرم، أو هو مكروه فقط، فلا يأثم به؟ على قولين: أحدهما: أنه محرَّم، وهو قولُ الأكثرين، منهم: الأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك، والشافعي- في القديم- وأحمدُ- في المشهور عنه- والمنقولُ عن أكثرِ السلف يَشهَدُ له، وقال عطاء ومجاهد: الإنصاتُ يوم الجمعة واجب، وقد أمَر ابن مسعود بقَرْع رأس المتكلِّم بالعصيّ، وكان ابنُ عُمر يَحصِبه بالحصباء، ورُوي عنه، أنه قال: المتكلِّم لا جُمعةَ له، ولِمَن أجابه: أنت حمار، وقال ابنُ مسعود وغيرُه لمن تكلَّم في جمعة: هذا حظُّك من صلاتك) ((فتح الباري)) (5/499).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: 204]
قال الإمامُ أحمدُ: أجمَعُوا أنَّها نزلتْ في الصَّلاةِ والخُطبةِ ((فتح الباري)) لابن رجب (5/499).
ثانيًا: من السُّنَّة
عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا قُلتَ لصاحبِكَ يومَ الجُمُعةِ: أنصِتْ والإمامُ يَخطُبُ، فقد لغوتَ )) رواه البخاري (934)، ومسلم (851).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
دلَّ الحديثُ على النَّهيِ عن جميعِ أنواعِ الكلامِ حالَ الخُطبةِ، ونبَّه بهذا على ما سِواه؛ لأنَّه إذا قال: أنصِتْ، وهو في الأصلِ أمرٌ بمعروفٍ، وسمَّاه لغوًا؛ فيسيرُه من الكلامِ أَوْلَى أن يُنهَى عنه ((شرح النووي على مسلم)) (6/138).
ثالثًا: أنَّ الخُطبةَ وجبَتْ في الجُمُعة؛ تذكيرًا للناسِ، وموعظةً لهم، فإذا لم يجِبِ استماعُها لم تبقَ فائدةٌ في وجوبِها في نفسِها؛ فإنَّ إيجابَ المتكلِّمِ بما لا يجِبُ استماعُه يَصيرُ لغوًا لا فائدةَ له ((فتح الباري)) لابن رجب (5/499).
مسألة: كلامُ الحاضرينَ مع الخَطيبِ
يُباحُ الكلامُ مع الخطيبِ في أثناءِ الخُطبةِ للحاجَةِ: نصَّ عليه المالِكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير (1/386)، ((منح الجليل)) لابن عليش (1/445). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/523- 525)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/287). قال النوويُّ بعد أنْ ذكَر حديثَ سُلَيك وغيره: (وفي هذه الأحاديث أيضًا جوازُ الكلام في الخُطبة لحاجةٍ، وفيها جوازُه للخطيب وغيره، وفيها الأمر بالمعروف والإرشاد إلى المصالح في كلِّ حال وموطن) ((شرح النووي على مسلم)) (6/164). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (2/292)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/47)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/239).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أصابتِ الناسَ سَنَةٌ على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبَينما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ في يومِ الجُمُعةِ قام أعرابيٌّ، فقال: يا رسولَ اللهِ، هلَكَ المال، وجاع العِيال؛ فادعُ اللهَ لنا، فرَفَع يديه... ))   رواه البخاري (933)، ومسلم (897).
 2- عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاءَ أعرابيٌّ والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ الناسَ يومَ الجُمُعةِ، فقال: أصليتَ يا فلانُ؟ قال: لا، قال: قُمْ فاركعْ ))   رواه البخاري (933)، ومسلم (897).
وجه الدَّلالةِ من الحَدِيثَينِ:
أنَّ هذا الأعرابيَّ قد تَكلَّم مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أثناءِ الخُطبةِ، وأقرَّه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فدلَّ على جواز الكلامِ مع الخَطيبِ في الخُطبةِ للحاجةِ   ((شرح النووي على مسلم)) (6/164).
ثانيًا: مِن الآثار
عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عُمرَ بينا هو يخطُبُ يومَ الجُمُعة، إذ دَخَل رجلٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فناداه عُمرُ: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟! قال: إنِّي شُغِلتُ اليومَ، فلم أنقلبْ إلى أهلي حتى سَمِعتُ النِّداءَ، فلم أزدْ على أن توضَّأتُ. قال عمر: الوضوءُ أيضًا، وقد علمتَ أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَأمُرُ بالغُسلِ؟! )) رواه البخاري (878)، ومسلم (845).
ثالثًا: أنَّ تحريمَ الكلامِ عِلَّتُه الاشتغالُ به عن الإنصاتِ الواجبِ، وسماعِ الخُطبةِ، ولا يحصُلُ هاهنا إذا كلَّمه الخطيبُ ((المغني)) لابن قدامة (2/239).
الفرع الثاني: الإشارةُ في الخُطبةِ
تجوزُ الإشارةُ أثناءَ الخُطبةِ عندَ الحاجةِ، وهو مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشلبي)) (1/223). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/524) ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/287) والإنصاتُ عندهم سنَّة. ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/47)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (2/219). ، وقولٌ للمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/551). ، وقالتْ به طائفةٌ من السَّلفِ قال شمسُ الدِّين ابنُ قُدامَة: (وإذا سمع متكلِّمًا لم يَنهَه بالكلام... ولكن يُشير إليه ويَضع إصبعه على فيه، كما روينا عن أُبيٍّ، وهذا قولُ زيد بن صُوحَان، وعبد الرَّحمن بنِ أبي لَيْلَى، والثوريِّ، والأوزاعيِّ) ((الشرح الكبير)) (2/219). ، وحُكِي الإجماعُ على ذلك قال ابن رجب: (لا خلافَ في جواز الإشارة إليه «أي: المتكلِّم أثناء الخطبة» بين العلماء، إلا ما حُكي عن طاوس وَحْدَه، ولا يصحُّ؛ لأنَّ الإشارةَ في الصلاةِ جائزة، ففي حال الخُطبة أَوْلى) ((فتح الباري)) (5/496).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رجلًا دخَلَ المسجدَ والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ يومَ الجُمُعة، فقال: يا رسولَ الله، متى السَّاعةُ؟ فأشارَ الناسُ إليه أنِ اسكُتْ، فسألَه ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك يُشيرونَ إليه أنِ اسكُت، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَيْحَك! ما أعددتَ لها؟! )) رواه ابن خزيمة (1796)، البيهقي (3/221) (6048) صحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/525)، وابن الملقِّن في ((شرح البخاري)) (7/574).
ثانيًا: أنَّ الإشارةَ في الصَّلاةِ جائزةٌ؛ فجوازُها في حالِ الخُطْبةِ أَوْلى ((فتح الباري)) (5/496).
الفَرعُ الثَّالث: ما يُستثنَى من تحريمِ الكلامِ
المَسألةُ الأُولى: ما قَبْلَ الخُطبةِ وما بَعدَها
لا يَحرُمُ الكلامُ فيما بين خروجِ الإمامِ وبين أخْذه في الخُطبةِ، ولا بَيْنَ نزولِه منها وبين افتتاحِه الصَّلاةَ، وهذا مذهبُ الجمهورِ قال ابنُ قُدامَة: (لا يُكره الكلامُ قبل شروعه في الخُطبة، وبعدَ فراغه منها، وبهذا قال عطاء، وطاوس، والزُّهريُّ، وبكرٌ المزنيُّ، والنخعي، ومالك، والشافعي، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد. ورُوي ذلك عن ابن عُمر) ((المغني)) (2/240). وقال ابنُ رجب: (اختلفوا: متى يجب الإنصاتُ يوم الجمعة؟ فقال الجمهور: بشروع الإمامِ في الخطبة، وهو المرويُّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانوا يفعلونه في زمانه، ورُوِي عن سعد بن أبي وقَّاص، وابن عباس... واختلفوا: إلى أيِّ وقتٍ ينتهي النهيُ عن الكلام؟ فقال الجمهور: ينتهي بفراغ الإمامِ من الخُطبتين، ويجوزُ الكلام مع نزوله، وبين الصَّلاة والخُطبة) ((فتح الباري)) (5/501، 502). : المالِكيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/ 378)، ويُنظر: ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (1/381)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/88). ، والشافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (2/28)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/258). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 47)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/240)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (2/220). ، وهو قولُ أبي يوسفَ ومحمَّد بن الحَسَنِ من الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (2/53). ، وحُكي الإجماعُ على ذلك قال الماورديُّ: (إجماع الصَّحابة رضي الله عنهم المنقول من وجهين: قول، وفعل؛ أمَّا الفعل: فما رُوي عن الصحابة رضي الله عنهم أنَّهم كانوا يَركعون حتى يصعَد عمرُ رضي الله عنه المنبر، فإذا صعِد قطعوا الركوع، ويتكلَّمون حتى يبتدئ بالخطبة، فإذا ابتدَأ بها قطعوا الكلام. وأمَّا القول: فما رُوي عنهم رضي الله عنهم أنَّهم قالوا: إذا أخذ الإمامُ في الكلام حرُم الكلام؛ ولأنَّ الركوع لا يُمكن قطعه مع الخطبة إلَّا بعد تمامه، فقدّم تحريم الركوع؛ ليكونَ ما بين ظهور الإمام وخطبته زمانَ تمام الركوع، والكلام يمكن قطعُه مع الخطبة، فلم يفتقرْ تحريمه إلى زمان يتقدَّم الخطبة) ((الحاوي الكبير)) (2/432).
الأدلَّة:
أولًا من السُّنَّة:
عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا قلتَ لصاحبِك: أَنصِتْ والإمامُ يخطبُ يومَ الجُمُعة، فقد لَغوتَ )) رواه البخاري (934)، ومسلم (851).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قوله في الحديثِ: ((والإمامُ يَخطُب)) جملةٌ حاليَّة، أي: حال كون الإمام يخطب؛ فتُخرِجُ ما قَبلَ خُطبتِه من حِينِ خروجِه، وما بَعدَه إلى أنْ يَشرَع في الخُطبةِ ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (1/381).
ثانيًا: من الآثار
1- ما رواه ثَعلبةُ بنُ أبي مالكٍ القُرَظيِّ، أنَّهم كانوا في زَمانِ عُمرَ بن الخَطَّابِ يُصلُّونَ يومَ الجُمُعةِ حتى يَخرُجَ عُمرُ، فإذا خرَجَ عُمرُ وجَلَس على المنبرِ وأَذَّن المؤذِّنون (قال ثعلبة): جَلَسْنا نَتحدَّثُ، فإذا سكتَ المؤذِّنونَ وقامَ عُمرُ يَخطُبُ أَنْصتْنا، فلمْ يَتكلَّمْ منَّا أحدٌ أخرجه مالك (1/ 103) (7)، والشافعي في ((الأم)) (1/227)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (2174)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (3229)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (5684). صححه النووي في ((الخلاصة)) (2/808)، وقال الذهبي في ((المهذب)) (3/1123): فيه ثعلبة احتج به البخاري، وصحح إسناده العيني في ((نخب الأفكار)) (6/48)، وقال الألباني في ((تمام المنة)) (ص 399): له متابع إسنادُه صحيح.
2- عن السَّائبِ بنِ يَزيدَ: (كنَّا نُصلِّي في زمنِ عمرَ يومَ الجُمُعةِ، فإذا جلَسَ على المنبرِ قَطعْنا الصَّلاةَ، فإذا سكَتَ المؤَذِّنُ خطَبَ ولم يتكلَّمْ أحدٌ) [5981] أخرجه إسحاقُ بن راهويه كما في ((الدراية)) لابن حجر (1/217) واللفظ له، والبيهقيُّ كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) للبُوصِيري (2/280) باختلافٍ يسيرٍ موقوفًا. صحَّح سنده موقوفًا البوصيريُّ، وجوَّد إسنادَه ابنُ حجر في ((الدراية))، وصحَّح إسنادَه موقوفًا في ((المطالب العالية)) (1/292).
ثالثًا: لأنَّ النَّهيَ عن الكلامِ لوجوبِ استماعِ الخُطبةِ؛ فيقتصرُ على حالةِ الخُطبةِ   ((المبسوط)) للسرخسي (2/53).
المسألةُ الثَّانيةُ: ما بَينَ الخُطبَتينِ
يُباحُ الكلامُ بين الخُطبتينِ لا سيَّما إذا دعتْ إليه الحاجةُ، وهو مذهبُ الشافعيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/287)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/320). ، والحَنابِلَةِ على الصَّحيحِ ((الإنصاف)) للمرداوي (2/292)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/47). ، وقولُ أبي يُوسَفَ من الحَنَفيَّة ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 198). ، وبه قال الحسنُ البصريُّ قال العراقي: (كان الحسنُ البصريُّ يقول: لا بأس به) ((طرح التثريب)) (3/197). واختارَه ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (كذلك إذا جلَس الإمامُ بين الخُطبتين، فالكلام حينئذٍ مباح) ((المحلى)) (3/268). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (يجوز الكلامُ أثناء سكوتِ الإمام بين الخُطبتين إذا دعَتْ إليه الحاجة) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (12/337). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: (الكلامُ بين الخُطبتين لا بأسَ به، ما لم يكُن كثيرًا يُلهي مَن حوله، وتشتغل قلوبُهم بالنَّظر إليه، فهذا يمنع منه) ((لقاء الباب المفتوح اللقاء)) (رقم اللقاء: 71).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن أبي هُرَيرَة قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا قُلْتَ لصاحبِكَ: أنصِتْ والإمامُ يَخطُبُ، فقد لغوتَ )) [5990] رواه البخاري (934)، ومسلم (851).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ التقييدَ بقوله: ((والإمامُ يَخطُب)) يُخرِجُ ما بين الخُطبتَينِ؛ لأنَّ الإمامَ لا يَخطُب في تِلك الحالةِ؛ فلا مَنْعَ من الكلامِ حينئذٍ [5991] ((طرح التثريب)) للعراقي (4/105).
ثانيًا: أنَّ الكلامَ بالمباحِ مباحٌ إلَّا حيثُ مَنَعَ منه النصُّ, ولم يمنعِ النصُّ إلَّا من الكلامِ في خُطبةِ الإمامِ ((المحلى)) لابن حزم (3/268).
ثالثًا: أنَّه لا خُطبةَ حينئذٍ يُنصَت لها ((طرح التثريب)) للعراقي (3/197)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/47).
ثالثًا: ولأنَّ الإمامَ غيرُ خاطبٍ ولا متكلِّم؛ فأَشْبَهَ ما قَبْلَها وما بَعدَها ((المغني)) لابن قدامة (2/241).
الفرعُ الرابع: ردُّ السلامِ، وتَشميتُ العاطِسِ أثناءَ الخُطبةِ
لا يُردُّ السَّلامُ، ولا يُشمَّتُ العاطسُ أثناءَ الخُطبةِ، وهذا مذهبُ الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (2/28)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/68)، (1/339). ، والمالِكيَّة ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (2/ 113)، ويُنظر: ((حاشية العدوي على شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/ 86).  قال ابنُ عبد البَرِّ: (اختلفوا في ردِّ السلام وتشميت العاطس في الخُطبة؛ فقال مالكٌ وأصحابُه: لا يُشمِّت العاطس، ولا يَردُّ السلام، إلَّا إنْ ردَّه إشارةً كما يردُّ في الصلاة) ((التمهيد)) (19/37). وقال ابن جزي: (ولا يُشمِّت ولا يردُّ، خلافًا لابن حنبل) ((القوانين الفقهية)) (ص: 56). ، وهو قولُ الشَّافعيِّ في القَديم ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/446)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/29). ، وروايةٌ عن أحمدَ ((الإنصاف)) للمرداوي (2/293). ، واختارَه ابنُ باز سُئِل ابنُ باز: إذا كان الإمامُ يخطب وسلَّم عليك آخرُ، ولو مدَّ يده وسلَّم؛ فما الحُكم؟ فأجاب: (تشير له وقتَ الخطبة، وتضع يدك في يده إذا مدَّها من دون كلام؛ لأنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَر بالإنصات، وقال: «إذا قلتَ لصاحبِك يومَ الجمعة: أنصِت والإمامُ يخطُب، فقد لغوتَ» متفق على صحَّته، فجعل أمره بالمعروف لغوًا وقتَ الخطبة؛ فكيف بغيره من الكلام. وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديث الصحيح: «مَن مسَّ الحصى فقد لغَا»؛ فيَنبغي للمؤمن في الجُمُعة أن يُنصِت ويَخشع، ويحذر العبثَ بالحصى أو غيره، وإذا سلَّم عليه أحدٌ أشار إليه ولم يتكلَّم، وإنْ وضَع يده في يده إذا مدَّها من غير كلام فلا بأس، كما تقدَّم، ويُعلمه بعد انتهاء الخطبة أنَّ هذا لا ينبغي له، وإنما المشروع له إذا دخَل والإمامُ يخطب أن يُصلِّي ركعتين تحيةَ المسجد، ولا يُسلِّم على أحدٍ حتى تنتهيَ الخُطبة، وإذا عطَس، فعليه أن يَحمَدَ اللهَ في نفسه، ولا يرفع صوتَه) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (12/410، 411). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: (ردُّ السلام وتشميتُ العاطس أثناء خُطبة الجمعة لا يجوز؛ لأنَّه كلام، والكلام حينئذ محرَّم؛ ولأنَّ المسلم لا يُشرع له السلام في هذه الحال، فسلامُه غير مشروع؛ فلا يستحق جوابًا، والعاطسُ غير مشروعٍ له حالَ الخطبة أن يَجهرَ بالحمد؛ فلا يستحقُّ أن يُشمَّت، وأمَّا مصافحةُ من مدَّ يده؛ فهو أهونُ، والأولى عدمه؛ لأنه مُشغِل، إلَّا أن يَخشى من ذلك مفسدةً؛ فلا بأسَ أن يصافح اتِّقاءً للمفسدة، لكن بدون كلام، وتُبيِّن له بعد الصلاة أنَّ الكلام حال الخطبة حرام) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/150). وقال أيضًا: (الصَّحيح أنْ ليس له أن يردَّ السلام؛ لأنَّ واجب الاستماع مقدَّم على واجب الردِّ، ثم إنَّ المسلم في هذه الحال ليس له حقٌّ أن يسلِّم والإمام يخطُب؛ لأنَّ ذلك يَشغل الناسَ عن ما يجب استماعهم إليه، وأنه لا ردَّ ولا ابتداء في السلام والإمامُ يخطب) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/162).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا قلتَ لصاحبك: أنصِتْ يومَ الجُمُعةِ والإمامُ يَخطُبُ، فقد لَغوتَ )) [6001] رواه البخاري (934)، ومسلم (851).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه جعَلَ أمْرَه بالمعروفِ لَغوًا وقتَ الخطبة؛ فكيف بغيرِه من الكلامِ؟! ((مجموع فتاوى ابن باز)) (12/410، 411).
ثانيًا: أنَّ ردَّ السلامِ يُمكِنُ تحصيلُه في كلِّ وقتٍ، بخلافِ سماعِ الخُطبةِ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/68).
ثالثًا: أنَّ ردَّ السلامِ إنما يكونُ فريضةً إذا كان السلامُ تحيَّةً، وفي حالةِ الخُطبةِ المسلمُ ممنوعٌ من السَّلامِ، فلا يكونُ جوابُه فرضًا كما في الصَّلاة ((المبسوط)) للسرخسي (2/27).
رابعًا: أنَّه لَمَّا كان مأمورًا بالإنصاتِ كالصَّلاةِ، لم يُشمِّتْ كما لا يُشمِّتُ في الصَّلاة ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (1/340).
خامسًا: ولأنَّه إذا شَمَّت العاطسَ، فقد تَرَك الاستماعَ المفروضَ والإنصاتَ، وتشميتُ العاطسِ ليس بفرضٍ؛ فلا يجوزُ ترْكُ الفرضِ لأجْلِه، وكذا ردُّ السلام في هذه الحالةِ ليس بفَرْض ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/264). ؛ فواجبُ الاستماعِ مُقدَّمٌ على واجبِ الردِّ ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/162).
سادسًا: ولأنَّه يَرتكِبُ بسلامِه مأثمًا؛ فلا يجبُ الردُّ عليه كما في حالةِ الصَّلاةِ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/264).
الفرع الخامس: الصَّلاةُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَ ذِكرِه في الخُطبةِ
يُشرَعُ أنْ يُصلَّى على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سرًّا عندَ ذِكرِه في الخُطبةِ، وهو مذهبُ المالِكيَّة قال الحطاب- نقلًا عن ابنِ ناجي-: (لا خِلافَ في جوازِ الصَّلاة على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتعوُّذ من النار، والتأمين عِندَ ذِكْر الإمامِ أسبابَ ذلك، وإنَّما اختُلف: هل يجهَر أو يُسرّ؟ على قولين) ((مواهب الجليل)) (2/546، 547)، وينظر: ((الشرح الكبير)) للدردير، مع ((حاشية الدسوقي)) (1/385). ، والحَنابِلَة ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/160)، ويُنظر: ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه)) (2/886). ، وقولُ أبي يوسف قال السرخسيُّ: (وأمَّا الصلاة على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد رُوي عن أبي يوسفَ رحمه الله تعالى: أنَّ الخطيب إذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ **الأحزاب: 56** ينبغي لهم أن يُصلُّوا عليه، وهو اختيارُ الطحاوي؛ لأنه يُبلِّغهم أمرًا، فعليهم الامتثال) ((المبسوط)) (2/51)، وينظر: ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (1/333). ، وبه قالتْ طائفةٌ من السَّلفِ قال ابنُ رجب: (اختلفوا في الإمامِ إذا صلَّى على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوم الجمعة: هل يوافقه المأمومُ؟ فقالت طائفة: يُصلِّي المأمومُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نفسه، وهو قولُ مالك، وأبي يوسف، وأحمد، وإسحاق) ((فتح الباري)) (5/497، 498). ، واختارَه الكمالُ ابنُ الهُمامِ قال الكمالُ ابنُ الهُمَام: (عن أبي يوسف: يَنبغي أن يُصلِّي في نفسه؛ لأنَّ ذلك ممَّا لا يَشغله عن سماع الخُطبة، فكان إحرازًا للفضيلتين، وهو الصوابُ) ((فتح القدير)) (2/69). ، وابنُ عُثيمين قال ابن عثيمين: (أمَّا الصَّلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم عند ذِكره في الخِطبة، فلا بأس بذلك، لكن بشَرْط أنْ لا يجهرَ به؛ لئلَّا يشوش على غيره، أو يمنعه من الإنصات) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/100). ؛ وذلك لأنَّ الصلاةَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الجُمُعة خصوصًا متأكِّدةُ الاستحباب، ومختلَف في وجوبها كلَّما ذُكِر؛ فيُشرَعُ الإتيانُ بها في حالِ الخُطبة عندَ ذِكره؛ لأنَّ سببَها موجودٌ، فهو كالتأمينِ على دُعاءِ الإمامِ، وأَوْلَى ((فتح الباري)) لابن رجب (5/497).
الفرعُ السادس: كلامُ الخطيبِ بغيرِ الخُطبَةِ إذا كان لمصلحةٍ
يجوزُ الكلامُ للخطيبِ بغيرِ الخُطبةِ إذا كان لمصلحةٍ، وهذا باتِّفاق المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ من الحَنَفيَّة ((حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح)) (ص: 334)، ((البحر الرائق)) لابن نُجيم (2/167). وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/265)، قال القاري: (وعندنا كلامُ الخطيب في أثناء الخطبة مكروهٌ، إذا لم يكن أمرًا بالمعروف) ((مرقاة المفاتيح)) (3/1049). ، المالِكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير (1/386)، ((منح الجليل)) لابن عليش (1/445). ، الشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/523- 525)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/287). والمذهب عندَ الشافعيَّة إباحةُ الكلام مطلقًا. ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (2/292)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/47)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (2/239).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ رجلٌ والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ النَّاسَ يومَ الجُمُعة، فقال: أصليتَ يا فلان؟ قال: لا، قال: قُمْ فارْكَعْ )) رواه البخاري (930)، ومسلم (875).
ثانيًا: من الآثار
عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ عُمرَ بينا هو يَخطُب يومَ الجُمُعة، إذ دخلَ رجلٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فناداه عُمرُ: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟! قال: إنِّي شُغِلتُ اليومَ، فلم أنقلبْ إلى أهلي حتى سمعتُ النِّداءَ، فلم أزدْ على أن توضَّأتُ. قال عمر: الوضوءُ أيضًا، وقد علمتَ أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَأمُرُ بالغُسلِ؟! )) رواه البخاري (878)، ومسلم (845).

انظر أيضا: