الموسوعة الفقهية

المطلب الرَّابع: الوُضوءُ


يُسنُّ الوُضوءُ في الغُسلِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/52)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/34). ، والمالكيَّة ((حاشية الدسوقي)) (1/136)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 23). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/180)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/73) ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/252)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/160). ، واختاره ابنُ حَزمٍ ((المحلى)) لابن حزم (1/275). ، وحُكي فيه الإجماعُ قال ابن عبدِ البَرِّ: (أمَّا السُّنة، فالوضوءُ قبل الاغتسالِ مِن الجَنابة؛ ثبت ذلك عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كذلك كان يفعَلُ، إلَّا أنَّ المُغتسِل من الجَنابة إذا لم يتوضَّأ وعمَّ جميعَ جَسَدِه ورأسه ويديه ورِجلَيه وسائرَ بدنِه بالماء، وأسبغ ذلك وأكمَلَه بالغَسلِ ومرورِ يديه، فقد أدَّى ما عليه إذا قَصَد الغُسلَ ونواه، وتمَّ غُسلُه؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ إنَّما فرَض على الجُنبِ الغُسلَ دون الوضوءِ، بقوله عزَّ وجلَّ: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا، وهذا إجماعٌ لا خلافَ فيه بين العلماء، إلَّا أنَّهم مُجمِعونَ أيضًا على استحبابِ الوُضوءِ قبلَ الغُسل للجُنب؛ تأسيًا برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأنَّه أعونُ على الغُسلِ وأهذبُ فيه، وأمَّا بعد الغُسلِ فلا). ((التمهيد)) (22/93). وقال النوويُّ: (الوضوء سُنَّة في الغُسل، وليس بشرْطٍ ولا واجب، هذا مذهَبُنا، وبه قال العلماء كافَّةً، إلَّا ما حُكي عن أبي ثور وداود أنَّهما شَرَطاه؛ كذا حكاه أصحابُنا عنهما). ((المجموع)) (2/186). قال ابن بطَّال: (العلماءُ مُجمِعون على استحبابِ الوُضوءِ قبل الغُسل؛ تأسيًا برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فى ذلك). ((شرح صحيح البخاري)) (1/368، 369).
الأدلَّة مِن السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: حدثتني خالتي ميمونة رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((أَدنيتُ لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غُسلَه من الجَنابة، فغسَل كفَّيه مرَّتين أو ثلاثًا، ثمَّ أدخل يدَه في الإناءِ، ثمَّ أفرغ به على فرْجِه وغَسَله بشِماله، ثمَّ ضرب بشِمالِه الأرضَ فدَلَكها دلكًا شديدًا، ثمَّ توضَّأ وضوءَه للصَّلاة، ثمَّ أفرَغَ على رأسِه ثلاثَ حفَنات مِلءَ كفِّه، ثمَّ غَسل سائِرَ جَسَدِه، ثمَّ تنحَّى عن مقامِه ذلك، فغَسَل رِجليه ثبَت في البخاري ومسلم تأخيرُ غَسلِ الرِّجلين، وثبَت فيهما عدمُ التأخيرِ، فاختلف الفقهاء في سُنيَّة التأخير، ورجَّح بعضهم السُّنيَّةَ عند الحاجةِ. ينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/58)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/157)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/444)، ((التاج والإكليل)) للمواق (1/314)، ((المجموع)) للنووي (2/182)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/225)، ((المغني)) لابن قدامة (1/160)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/185)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/240، 239)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (5/280)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/361)، ((الموقع الرسمي لابن عثيمين- فتاوى نور على الدرب)). ، ثم أتيتُه بالمِنديلِ فردَّه )) رواه البخاري (257)، ومسلم (317) واللفظ له.
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا اغتسل من الجَنابة يبدأ فيَغسِلُ يديه، ثمَّ يُفرِغُ بيمينِه على شِمالِه فيَغسِلُ فرْجَه، ثمَّ يتوضَّأُ وضوءَه للصَّلاة، ثمَّ يأخُذُ الماء فيُدخل أصابعَه في أصولِ الشَّعْرِ، حتى إذا رأى أنْ قد استبرَأَ، حفَن على رأسِه ثلاثَ حَفَنات، ثم أفاض على سائِرِ جَسَدِه، ثمَّ غسَل رِجلَيه )) رواه البخاري (272)، ومسلم (316) واللفظ له.
فرعٌ: ارتفاعُ الحَدَثِ الأصغر بالغُسلِ مِن الحَدَث الأكبرِ
مَن اغتسَلَ للحدَث الأكبَرِ، فإنَّه يرتفِعُ بذلك حدَثُه الأصغَرُ، ولو لم يتوضَّأ، أو لم يَنوِ ارتفاعَ الحدَثِ الأصغر، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (1/45)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/24). والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/465)، ((حاشية الدسوقي)) (1/140). والشَّافعيَّة على الأصحِّ ((المجموع)) للنووي (2/193). ، واختاره ابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (المغتسِلُ من الجَنابة ليس عليه نيَّةُ رفْع الحدَثِ الأصغر، كما قال جمهورُ العلماء). ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (21/396) ، وابن عثيمين قال ابن عثيمين: (اختار شيخُ الإسلام: أنَّه يرتفِعُ الحدَثان جميعًا، واستدلَّ بقولِه تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا **المائدة: 6**، فإذا تطهَّر بنيَّةِ الحدَث الأكبر، فإنَّه يجزِئُه؛ لأنَّ الله لم يذكر شيئًا سوى ذلك، وهذا هو الصَّحيحُ) ((الشرح الممتع)) (1/367). ، وحُكي فيه الإجماع قال ابن عبدِ البَرِّ: (فإنْ لم يتوضَّأ المغتَسِلُ للجَنابةِ قبل الغُسل، ولكنَّه عمَّ جسدَه ورأسَه ويَديه وجميعَ بدَنِه بالغَسلِ بالماء، وأسبَغَ ذلك، فقد أدَّى ما عليه إذا قصَدَ الغُسل ونواه؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما افتَرَض على الجنُبِ الغُسلَ دون الوضوءِ، بقوله: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا، وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا، وهذا إجماعٌ مِن العُلَماءِ لا خلافَ بينهم فيه، والحمدُ لله). ((الاستذكار)) (1/260). وقال ابن العربي: (لم يختلف أحدٌ من العلماءِ في أنَّ الوضوءَ داخلٌ في الغُسلِ، وأنَّ نيَّةَ طَهارةِ الجنابة يأتي على طَهارةِ الحدَثِ، ويقضي عليها، ويُطَهِّر البدَنَ بالغُسلِ مِن الجنابة طهارةً عامَّةً؛ وذلك لأنَّ موانِعَ الجنابة أكثَرُ منِ موانع البَولِ، فدخل الأقلُّ في نيَّة الأكثَرِ، وأجزأت نيَّةُ الأكثر عنه) ((عارضة الأحوذي)) (1/162). قال ابن بطال: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ الوضوءَ ليس بواجِبٍ في غُسلِ الجنابةِ) ((شرح صحيح البخارى)) (1/387).
الأدلَّة من الكتاب:
1- قولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]
2- قولُه تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]
وجهُ الدَّلالة:
 أنَّ الله تعالى أمَر بالاغتسالِ مِن غير وُضوءٍ، فمَن شرَطَ في صحَّتِه وضوءًا، فقد زاد في الآيةِ ما ليس فيها، وذلك غيرُ جائزٍ ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/375).

انظر أيضا: