الموسوعة الفقهية

المبحث الثَّاني: خلْع الخفِّ، أو ظهور بعض القدَم


اختلف أهلُ العِلم في نقْضِ المَسحِ بخَلْع الخُفِّ، أو ظهورِ بَعضِ محلِّ الفرْضِ مِن القَدَمِ، وذلك على قولين:
القول الأوّل: أنَّه ينقُضُ المَسحَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة الضَّابِطُ عند الحنفيَّة: أنَّ مَسحَه ينتقِضُ بخروجِ أكثَرِ القدم، فيلزَمُه غَسْلُ رِجليه. ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/50)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/13)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/154). ، والمالكيَّة الضابط عند المالكيَّة: أنَّ مَسحَه ينتقضُ بخروجِ أكثَرِ القَدم لساقِ الخفِّ، فيلزَمُه المبادَرة بغَسلِ رِجليه. ((حاشية الدسوقي)) (1/145)، وينظر: ((المدونة الكبرى)) (1/144). ، والشَّافعيَّة ينتقضُ المسح عند الشَّافعيَّة: بخلْع الخفِّ، أو إذا ظهر بعضُ الرِّجل بتخرُّقٍ أو غيره، كانحلالِ شَرجٍ أو نحو ذلك، وللشافعيِّ في الواجِبِ من ذلك قولان: الجديدُ- وهو الأصحُّ- أنَّه يَغسِلُ قَدَميه، وقال في القَديمِ: يستأنِفُ الوُضوءَ. ((المجموع)) للنووي (1/514، 523، 526)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/68). ، والحنابلة يُنقَض الوضوءُ عند الحنابلة: متى ما ظهَر بعضُ مَحلِّ الفَرضِ، ويلزَمُه استئنافُ الطَّهارة. ((الإنصاف)) للمرداوي (1/190)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/212).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ المانِعَ من سراية الحدَثِ إلى القَدَمِ استتارُها بالخفِّ، وقد زال بالنَّزعِ، فسَرى الحدَثُ السَّابِقُ إلى القَدَمين جميعًا؛ لأنَّهما في حُكمِ الطَّهارة كعُضوٍ واحدٍ، فإذا وجب غَسْل إحداهما، وجب غَسْل الأخرى ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/13).
ثانيًا: أنَّ الأصل غَسلُ القَدمين، والمسحُ على الخفَّين بدَلٌ، فإذا زال حُكمُ البَدل، رُجِعَ إلى الأصل ((المجموع)) للنووي (1/527).
ثالثًا: أنَّنا إذا لم نَقُل بغَسل القَدَمين، لزم من ذلك أن يصلِّيَ بقدَمين لا مغسولَتين ولا ممسوحٍ على خُفَّينِ، هما فيهما حالَ الصَّلاةِ ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (5/271).
القول الثاني: أنَّ خلْعَ الخُفِّ، أو ظهورَ بعض محلِّ الفَرضِ، لا ينقُضُ طَهارَتَه، وليس عليه شيءٌ، ويصلِّي ما لم يُحدِث؛ وهو مذهَبُ الظَّاهريَّة قال ابن حزم: (فإنْ كان في الخفَّين أو فيما لُبِس على الرِّجلين خرْقٌ صغيرٌ أو كبيرٌ، طولًا أو عرضًا، فظهر منه شيءٌ من القَدَمِ، أقلُّ القَدَمِ أو أكثرُها أو كلاهما؛ فكلُّ ذلك سواءٌ، والمسح على كلِّ ذلك جائزٌ، ما دام يتعلَّق بالرِّجلين منهما شيءٌ، وهو قول سفيانَ الثوريِّ، وداود، وأبي ثور، وإسحاقَ بن راهويه، ويزيد بن هارون). ((المحلى)) (1/334). وقال أيضًا: (مَن مسَحَ كما ذَكَرْنا على ما في رِجليه، ثم خَلَعَهما، لم يضرَّه ذلك شيئًا، ولا يلزَمُه إعادةُ وُضوءٍ ولا غَسلُ رِجليه، بل هو طاهِرٌ كما كان، ويُصلِّي كذلك، وكذلك لو مسَحَ على عمامةٍ أو خمارٍ، ثم نزعَهما، فليس عليه إعادةُ وضوءٍ ولا مسْحُ رأسِه، بل هو طاهِرٌ كما كان، ويصلِّي كذلك، وكذلك لو مسَحَ على خفٍّ على خفٍّ، ثم نزعَ الأعلى، فلا يضرُّه ذلك شيئًا، ويصلِّي كما هو دونَ أن يُعيد مسحًا، وكذلك مَن توضَّأ أو اغتسَلَ ثم حلَقَ شَعْرَه أو تقصَّصَ أو قَلَّمَ أظفارَه، فهو في كلِّ ذلك على وضوئِه وطهارَتِه، ويصلِّي كما هو، دونَ أن يمسَحَ مواضع القصِّ، وهذا قولُ طائفةٍ مِن السَّلَفِ، كما رُوِّينا عن عبد الرزَّاق عن سفيانَ الثوريِّ، عن هشامِ بنِ حسَّان، ورُوِّينا عن سفيانَ الثوريِّ عن الفُضَيلِ بنِ عَمرو، عن إبراهيم النَّخَعي: أنَّه كان يُحدِثُ ثم يمسَحُ على جُرموقينِ له من لبودٍ، ثم ينزِعُهما، فإذا قام إلى الصَّلاةِ لَبِسَهما وصلَّى). ((المحلى)) (1/337). ، وبه قالت طائفةٌ من السَّلَفِ قال ابن المُنذِر: (رَوى هذا القولَ: النَّخَعيُّ، وبه قال الحَسَن البصريُّ، ورُوي ذلك عن عطاءٍ، وأبي العالية، وقتادة، وبه قال سليمان بن حرب). ((الأوسط)) (2/111). وقال ابن عبدِ البَرِّ: (قال ابن أبي ليلى: إذا نزع خفَّيه بعد المسح، صلَّى كما هو، وليس عليه غَسلُ رِجليه ولا استينافُ الوضوءِ، ورُوي عنه أنَّه يَغسِلُ رجليه خاصَّة) ((التمهيد)) (11/157). ، واختاره ابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (لا ينتقِضُ وضوءُ الماسحِ على الخفِّ والعمامةِ بِنَزعِهما، ولا بانقضاءِ المدَّة). ((الاختيارات الفقهية)) (ص15). ، وابنُ عُثيمين قال ابن عثيمين: (اختيارُ شيخِ الإسلام أنَّ الطَّهارةِ لا تبطُلُ، سواءٌ فاتت الموالاةُ أم لم تفُت، حتى يوجدَ ناقِضٌ من نواقِضِ الوُضوءِ المعروفة، لكن لا يُعيدُه في هذه الحال؛ ليستأنِفَ المسح عليه؛ لأنَّه لو قيل بذلك لم يكُن لتوقيتِ المسحِ فائدة؛ إذ كلُّ من أراد استمرارَ المَسحِ خلَع الخفَّ، ثم لبِسَه، ثم استأنَفَ المدَّة... وحُجَّتُه: أنَّ هذه الطَّهارةَ ثبَتَت بمقتضى دليل شرعيٍّ، وما ثبَت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فإنَّه لا ينتقِضُ إلَّا بدليل شرعيٍّ، وإلَّا فالأصلُ بقاء الطَّهارة، وهذا القول هو الصَّحيح، ويؤيِّدُه من القياس: أنَّه لو كان على رَجُلٍ شَعرٌ كثيرٌ، ثم مسَحَ على شَعره؛ بحيث لا يصِلُ إلى باطِنِ رأسِه شيءٌ مِن البَلَل، ثم حلَقَ شَعره بعد الوضوءِ، فطهارتُه لا تنتقِضُ. فإنْ قيل: إنَّ المسحَ على الرأسِ أصلٌ، والمسحَ على الخفِّ فرعٌ؛ فكيف يُساوى بين الأصلِ والفَرعِ؟ فالجواب: أنَّ المسحَ ما دام تعلَّقَ بِشيءٍ قد زال، وقد اتَّفَقْنا على ذلك، فكَونُه أصليًّا أو فرعيًّا غيرُ مؤثِّرٍ في الحُكم). ((الشرح الممتع)) (1/264).
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن عبد الله بن زَيد بن عاصم: أنَّه شكا إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الرَّجُل الذي يُخيَّلُ إليه أنَّه يجِدُ الشيءَ في الصَّلاة، فقال: ((لا يَنفتِل- أو لا ينصَرِف- حتى يسمعَ صوتًا، أو يجِدَ رِيحًا )) رواه البخاري (137) واللفظ له، ومسلم (361).
وجه الدَّلالة:
 أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يوجِبِ الوضوء إلَّا على مَن تيقَّنَ سبَبَ وُجوبِه، وهنا لا يقينَ على إيجابِ الوُضوءِ ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/180).
ثانيًا: أنَّ البُرهانَ قد صحَّ بنصِّ السُّنةِ والقُرآن على أنَّ مَن توضَّأَ ومسح على عِمامَتِه وخفَّيه، فإنَّه قد تمَّ وضوءُه، وارتفَع حدَثُه، وجازت له الصَّلاةُ، ولا ينتقِضُ وضوءُه إلَّا ببرهانٍ ((المحلى)) لابن حزم (1/340).
ثالثًا: أنَّ الطَّهارةَ لا ينقُضُها إلَّا الأحداثُ، أو نصٌّ وارِدٌ بانتقاضِها، وخلْعُ الخفَّين ليس حدَثًا، ولم يرِد نصٌّ يُبيِّن أنَّ خلْعَ الخفَّين سببٌ لانتقاضِ الوضوءِ، فصحَّ أنَّه على طهارَتِه، وأنَّه يصلِّي ما لم يحدِثْ ((المحلى)) لابن حزم (1/341).
رابعًا: أنَّ التَّفريقَ في قدْرِ ظُهورِ محلِّ الفرض، فينقُضُ في حالٍ دون حال، هو تحكُّمٌ في الدِّين ظاهِرٌ، وشرْعُ ما لم يأذَنْ به اللهُ تعالى، ولا أوجبَه قرآنٌ ولا سُنَّة، ولا قياسٌ، ولا قَولُ صاحبٍ، وليس هو بالرأيِ الـمطَّرِدِ؛ لأنَّهم يرونَ مرَّةً الكثيرَ
خامسًا: القياسُ على مَن مسَح شَعرَ رأسِه ثم حلَقَه، فإنَّه لا ينتقِضُ وضوءُه بذلك قال ابن حزم: (أمَّا تفريقُهم جميعِهم بين المسحِ على الخفَّين ثم يُخلَعانِ، فينتقِضُ المسحُ ويلزَمُ إتمامُ الوضوء، وبيْن الوضوءِ ثم يُجزُّ الشَّعرُ وتُقَصُّ الأظفارُ، فلا ينتقِضُ الغَسلُ عن مَقَصِّ الأظفارِ، ولا المسحُ على الرَّأس؛ ففَرْقٌ فاسدٌ ظاهِرُ التناقض، ولو عكس إنسانٌ هذا القَولَ، فأوجَبَ مسحَ الرَّأسِ على مَن حلَقَ شَعرَه ومسَّ مجزَّ الأظفارِ بالماءِ، ولم يرَ المَسحَ على مَن خلَعَ خفَّيه، لَما كان بينها فَرْقٌ، وما وجدْنا لهم في ذلك متعلَّقًا أصلًا، إلَّا أنَّ بعضَهم قال: وجدنا مَسحَ الرَّأسِ وغَسلَ القَدَمين في الوضوء إنما قُصِدَ به الرأسُ لا الشَّعرُ، وإنما قُصِدَ به الأصابِعُ لا الأظافر، فلمَّا جُزَّ الشَّعرُ وقُطعت الأظفار، بقي الوضوءُ بحسَبِه، وأمَّا المسحُ فإنما قُصِد به الخفَّانِ لا الرِّجلان، فلمَّا نُزعَا، بقيت الرِّجلانِ لم تُوضَّآ، فهو يصلِّي برِجلينِ لا مغسولتينِ ولا ممسوحٍ عليهما، فهو ناقِصُ الوضوء. وهذا لا شيءَ؛ لأنَّه باطِلٌ وتحكُّمٌ بالباطل، فلو عُكِسَ عليه قولُه، فقيل له: بل المَسحُ على الرَّأسِ وغَسلُ الأظفار إنما قُصدَ به الشَّعرُ والأظفارُ فقط، بدليل أنَّه لو كان على الشَّعرِ حنَّاء وعلى الأظفارِ كذلك، لم يجُزِ الوضوءُ، وأمَّا الخفَّانِ فالمقصودُ بالمَسحِ القَدمانِ لا الخفَّان؛ لأنَّ الخفَّين لولا القَدَمانِ لم يَجُز المَسحُ عليهما، فصحَّ أنَّ حُكمَ القَدَمينِ الغَسلُ، إنْ كانتا مكشوفتينِ، والمسحُ إنْ كانتا في خفَّينِ- لَمَا كان بين القَولينِ فَرقٌ، ثم يُقال لهم: هبْكم أنَّ الأمرَ كما قُلتُم، في أنَّ المقصودَ بالمسحِ الخفَّان، وبالمسحِ في الوضوءِ الرَّأسُ، وبغَسل اليدينِ الأصابعُ لا الأظفارُ؛ فكان ماذا؟! أوْ مِن أين وجَبَ مِن هذا أن يُعادَ المَسحُ بخلْعِ الخفَّينِ، ولا يُعاد بحَلقِ الشَّعرِ؟! قال عليٌّ: فظهرَ فسادُ هذا القَولِ). ((المحلى)) (1/339). وقال ابن عثيمين: (فإنْ قيل: إنَّ المسحَ على الرَّأسِ أصلٌ، والمسحَ على الخفِّ فرعٌ؛ فكيف يُساوَى بين الأصلِ والفَرعِ؟ فالجواب: أنَّ المسحَ ما دام تعلَّقَ بشيءٍ قد زال، وقد اتَّفَقنا على ذلك، فكونُه أصليًّا أو فرعيًّا غيرُ مؤثِّرٍ في الحُكم). ((الشرح الممتع)) (1/264).

انظر أيضا: