الموسوعة الفقهية

المبحث الخامس: أحكامُ الأكْلِ مِنَ الصَّيدِ، والدلالةُ عليه


المطلب الأوَّل: مَن صِيدَ لأجلِه
مَن صِيدَ لأجلِه فإنَّه يحرُمُ عليه أكلُه، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالكيَّة ((حاشية الدسوقي)) (2/78-79). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (7/324). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/338). ، واختارَه داودُ الظاهريُّ ((المجموع)) للنووي (7/324). ، وبه قال بعضُ السَّلَفِ قال ابن المنذر: (وقال عطاء، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يأكلُه إلَّا ما صِيدَ مِن أجلِه، وروي بمعناه عن عثمانَ بنِ عفَّان) ((الإشراف)) (3/249). وقال شمس الدين ابن قُدامة: (وإنْ صِيدَ مِن أجلِه حَرُمَ عليه أكْلُه، يُروى ذلك عن عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه، وبه قال مالك والشافعي) ((الشرح الكبير)) (3/289).
الأدلَّة مِنَ السُّنَّة:
1- عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((عن الصَّعبَ بنَ جثَّامةَ اللَّيثيَّ أنه أهدى لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حمارًا وحشيًّا، وهو بالأبواءِ أو بودَّانَ، فردَّه عليه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رأى ما في وجْهِه، قال: إنَّا لم نَرُدَّه عليك إلَّا أنَّا حُرُمٌ )) رواه البخاري (1825)، ومسلم (1193).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ قال: ((رأيتُ عُثمانَ بنَ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه بالعَرْجِ في يومٍ صائفٍ، وهو مُحرِمٌ وقد غطَّى وجهَه بقطيفةِ أُرجوانٍ، ثم أُتيَ بلَحْمِ صيدٍ، فقال لأصحابه: كلُوا، قالوا: ألا تأكُلُ أنت؟ قال: إنِّي لستُ كهَيأَتِكم، إنمَّا صِيدَ مِن أجلي)) رواه مالك (1/354)، والشافعي في ((الأم)) (8/674)، والبيهقي (10211). وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (7/268)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/398).
المطلب الثاني: إذا صاد المُحِلُّ صَيدًا وأطعَمَه المُحْرِمَ، فهل يكون حَلالًا للمُحْرِمِ؟
إذا صاد المُحِلُّ صَيدًا، وأطعَمَه المُحْرِمَ دون أن يُعينَه بشيءٍ على صَيدِه، فإنَّه يَحِلُّ للمُحرمِ أكلُه، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّة ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (2/565)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي و((حاشية الشلبي)) (2/68). ، والمالكيَّة ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/372).    ، والشَّافعيَّة ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/779).        ، والحَنابِلَة ((المغني)) لابن قُدامة (3/291)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/436). ، وحكاه الكاسانيُّ عن عامَّةِ العُلماءِ قال الكاساني: (ويحِلُّ للمُحرِمِ أكلُ صَيدٍ اصطاده الحلالُ لنَفسِه، عند عامَّةِ العلماء) ((بدائع الصنائع)) (2/205).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا[المائدة: 96]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ كلمةَ: (صَيْد) مصدرٌ، أي: حُرِّم عليكم أن تصيدُوا صَيدَ البَرِّ، وليس بمعنى مَصيدٍ قال ابن كثير: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا أي: في حالِ إحرامِكم يحرُمُ عليكم الاصطيادُ؛ ففيه دلالةٌ على تحريمِ ذلك) ((تفسير ابن كثير)) (3/200).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
1- عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومِنَّا المُحْرِمُ، ومنا غيرُ المُحْرِمِ، فرأيتُ أصحابي يتراءَوْنَ شيئًا، فنظَرْتُ، فإذا حمارُ وحشٍ- يعني وَقَعَ سَوطُه- فقالوا: لا نُعينُكَ عليه بشَيءٍ؛ إنَّا مُحْرمونَ، فتَناوَلْتُه فأخَذْتُه، ثم أتيتُ الحمارَ مِن وراءِ أكَمَةٍ فعَقَرْتُه، فأتيتُ به أصحابي، فقال بعضُهم: كُلُوا، وقال بعضُهم: لا تأكُلُوا، فأتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو أمامَنا، فسألْتُه، فقال: كُلُوه؛ حلالٌ )) رواه البخاري (1823)، ومسلم (1196).
ثالثًا: أنَّ المُحْرِمَ ليسَ له أثرٌ في هذا الصَّيدِ؛ لا دَلالة، ولا إعانة، ولا مشاركة، ولا استقلالًا، ولا صِيدَ مِن أجْلِه؛ فلم يُمنَعْ منه ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/ 149).
المطلب الثالث: الدَّلالةُ على الصَّيدِ
الفرع الأوَّل: إذا دلَّ المُحْرِمُ حلالًا على صيدٍ فقَتَله
اختلف الفقهاءُ فيما إذا دلَّ المحْرِمُ حلالًا على صيدٍ فقَتَله، على قولينِ:
القول الأوّل: إذا دلَّ المُحْرِمُ حلالًا على صيدٍ فقَتَله، يلزَمُ المحرِمَ جزاؤُه، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/68)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/28). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/336)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/288). ، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ قال ابن قُدامة: (ويضمنُ الصَّيد بالدَّلالة، فإذا دلَّ المحرِمُ حلالًا على الصيدِ فأتلَفَه، فالجزاءُ كلُّه على المحْرِم؛ روي ذلك عن عليٍّ وابن عباس وعطاء ومجاهد، وبكر المزني، وإسحاق، وأصحاب الرأي) ((المغني)) (3/288). ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (وكما يَحرُمُ قتلُ الصيد تحرُمُ الإعانةُ عليه بدَلالةٍ أو إشارةٍ أو إعارةِ آلةٍ لصيدِه أو لذبحِه، وإذا أعان على قتلِه بدَلالةٍ أو إشارةٍ أو إعارةِ آلةٍ ونحو ذلك، فهو كما لو شَرَك في قتله، فإن كان المُعانُ حلالًا، فالجزاءُ جميعه على المُحرِم، وإن كان حرامًا اشتركا فيه) ((شرح عمدة الفقه)) (3/182). ، والشنقيطيِّ قال الشنقيطي: (فذهب الإمامُ أحمد وأبو حنيفة إلى أنَّ المُحْرِمَ الدَّالَّ يلزَمُه جزاؤه كاملًا... وهذا القول هو الأظهر) ((أضواء البيان)) (1/440-441). ، وحُكيَ فيه الإجماعُ قال البابرتي: (قال عطاء: أجمع النَّاسُ على أنَّ على الدَّالِّ الجزاءَ؛ قال الطحاوي: ولم يُروَ عن أحدٍ من الصحابة خلافُ ذلك؛ فصار ذلك إجماعًا) ((العناية شرح الهداية)) (3/70).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّة
قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِ أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنهم: ((هل منكم أحدٌ أمَرَه، أو أشارَ إليه بشيء )) جزء من حديث رواه البخاري (1824)، ومسلم (1196) واللفظ له.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنه علَّق الحِلَّ على عَدَمِ الإشارةِ؛ فأحرى ألَّا يَحِلَّ إذا دلَّه باللَّفْظِ، فقال هناك صيدٌ، ونحوَه ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/70).
ثانيًا: أنَّه قَولُ عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولا يُعرَفُ لهما مخالِفٌ من الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ((المغني)) لابن قُدامة (3/288).
ثالثًا: أنَّه سببٌ يُتوصَّلُ به إلى إتلافِ الصَّيدِ؛ فتعلَّقَ به الضَّمانُ؛ فإنَّ تحريمَ الشَّيءِ تحريمٌ لأسبابِه ((المغني)) لابن قُدامة (3/288)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/197).
القول الثاني: إذا دلَّ المحْرِمُ حلالًا على صيدٍ؛ فإنَّه يكون مُسيئًا، ولا جزاءَ عليه، وهو مَذهَبُ المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/258)، ((حاشية الدسوقي)) (2/77). ، والشَّافعيَّة ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/306).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
ظاهِرُ قولِه تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه علَّقَ الجزاءَ بالقَتلِ؛ فاقتضى ألَّا يجِبَ الجزاءُ بعَدَمِ القَتلِ ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/69)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/307).
ثانيًا: أنَّها نفسٌ مضمونةٌ بالجِنايةِ؛ فوجب ألَّا تُضمَنَ بالدَّلالة، كالآدميِّ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/307).
ثالثًا: أنَّ الصَّيدَ لا يُضمَنُ إلَّا بأحدِ ثلاثةِ أشياءَ: إمَّا باليدِ، أو بالمباشَرةِ، أو بالتسبُّبِ؛ فاليدُ أن يأخُذَ صيدًا فيموتَ في يَدِه فيَضمَنَ، والمباشَرةُ أن يباشِرَ قتلَه فيَضْمَنَه، والتسبُّبُ أن يحفِرَ بئرًا، فيقَعَ فيها الصَّيدُ فيضمَنَ، والدَّلالةُ ليست يدًا ولا مباشَرةً ولا سَببًا ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/307).
رابعًا: أنَّ القاتَلَ انفرد بقَتْلِه باختيارِه، مع انفصالِ الدَّالِّ عنه، فصار كمَنْ دلَّ محْرِمًا أو صائِمًا على امرأةٍ فوَطِئَها؛ فإنَّه يأثمُ بالدَّلالةِ، ولا تلزَمُه كفَّارةٌ، ولا يُفطِرُ بذلك ((فتح الباري)) لابن حجر (4/29).
خامسًا: ولأنَّه صَيدٌ توالى عنه جنايةٌ ودَلالةٌ، فوجب أن يُضمَنَ بالجِنايةِ ولا يُضمَنَ بالدَّلالةِ كصَيدِ المُحْرِم ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/307).
سادسًا: أنَّ الصَّيدَ قد يجتمِعُ فيه حقَّانِ: حقُّ اللهِ تعالى، وهو الجزاءُ، وحقُّ الآدميِّ، وهو القيمةُ إذا كان مملوكًا، فلمَّا لم يجِبْ حقُّ الآدميِّ بالدَّلالةِ، فكذلك لا يجِبُ حَقُّ اللهِ تعالى بالدَّلالةِ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/307).
الفرع الثاني: إذا دلَّ المُحرِمُ مُحْرِمًا على صيدٍ فقَتَلَه
اختلف الفقهاءُ فيما إذا دلَّ المحْرِمُ محْرِمًا على صيدٍ فقَتَله، على قولينِ:
القول الأول: إذا دلَّ المُحْرِمُ محْرِمًا على صيدٍ فقَتَلَه؛ فالدَّالُّ مُسيءٌ ولا جزاءَ عليه، وهو قَولُ المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/258)، ((حاشية الدسوقي)) (2/77). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (7/330). ، واختارَه الشنقيطيُّ قال الشِّنقيطيُّ: (وأمَّا إذا دلَّ المحرِمُ مُحرِمًا آخَرَ على الصيد... قال بعض العلماء: الجزاءُ كلُّه على المحرِمِ المباشِرِ، وليس على المحرِمِ الدَّالِّ شيءٌ، وهذا قول الشافعي، ومالك، وهو الجاري على قاعدةِ تقديمِ المباشِرِ على المتسبِّبِ في الضَّمان، والمباشِرُ هنا يمكن تضمينُه; لأنَّه محرِمٌ، وهذا هو الأظهر) ((أضواء البيان)) (1/441).
الدَّليل مِنَ الكِتابِ:
ظاهِرُ قولِه تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه تعالى أوجبَ الجزاءَ على القاتِلِ وحْدَه، فلا يجِبُ على غيره، ولا يُلحَقُ به غيرُه؛ لأنَّه ليس في معناه ((المجموع)) للنووي (7/330).
القول الثاني: إذا دلَّ المُحْرِمُ محْرِمًا على صيدٍ فقَتَلَه فعليهما الجزاء مذهب الحنفية: على كل واحدٍ منهما جزاءٌ كامل. ومذهب الحنابلة وهو اختيار ابن تيميَّة: أنهما يشتركان في الجزاء. ، وهو مذهب الحنفية ((الفتاوى الهندية)) (1/250). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/543)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/289). ، واختاره ابن تيميَّة قال ابن تيميَّة: (وإذا أعان على قتله بدلالة أو إشارة أو إعارة آلة ونحو ذلك، فهو كما لو شرك في قتله، فإن كان المعان حلالا فالجزاء جميعه على المحرم، وإن كان حراما اشتركا فيه) ((عمدة الفقه)) (2/182).
الأدلة:
أولًا: من السُّنَّةِ
قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِ أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنهم: ((هل منكم أحدٌ أمَرَه، أو أشارَ إليه بشيء ٍ)) جزء من حديث رواه البخاري (1824)، ومسلم (1196) واللفظ له.
وجه الدلالة:
جعلُ ذلك بمثابةِ الإعانةِ على القَتلِ، ومعلومٌ أنَّ الإعانةَ على القَتلِ توجِبُ الجزاءَ والضَّمانَ، فكذلك الإشارةُ ((عمدة الفقه)) لابن تيميَّة (2/184).
ثانيًا: تعليلُ من قال إنَّ الجزاءَ يكونُ واحدًا:
أنَّ الواجِبَ جزاءُ المُتلَفِ، وهو واحِدٌ؛ فيكونُ الجزاءُ واحدًا ((المغني)) لابن قُدامة (3/289).
ثالثًا: تعليلُ من قال على كلِّ واحدٍ منهما جزاءٌ كاملٌ:
أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الفِعلينِ يستقِلُّ بجزاءٍ كاملٍ إذا كان مُنفَردًا، فكذلك إذا انضَمَّ إليه غيرُه ((المغني)) لابن قُدامة (3/289).

انظر أيضا: