الموسوعة الفقهية

المطلب الثاني: صدقة المرأة من مال زوجها


ليس للمرأةِ أن تتصَدَّق مِن مالِ زَوجِها بدونِ إذنٍ منه، إلَّا ما كان يسيرًا قد جرَتِ العادةُ به قال ابنُ العربي: (يحتملُ عندي أن يكون محمولًا على العادةِ، وأنَّها إذا عَلِمَت منه أنَّه لا يَكرَهُ العطاءَ والصَّدقةَ فَعَلَتْ من ذلك ما لم يُجحِفْ، وعلى ذلك عادةُ النَّاسِ، وهذا معنى قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((غيرَ مُفسِدةٍ)).). ((عارضة الأحوذي)) (3/177). وقال النوويُّ: (اعلم أنَّ هذا كُلَّه مَفروضٌ في قدْرٍ يَسيرٍ يُعلَمُ رضا المالِك به في العادةِ؛ فإن زاد على المتعارَفِ لم يَجُزْ، وهذا معنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: ((إذا أنفَقَتِ المرأةُ من طعامِ بَيتِها غيرَ مُفسِدةٍ)) فأشار صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم إلى أنَّه قدْرٌ يُعلَمُ رضا الزَّوجِ به في العادةِ، ونبَّه بالطَّعامِ أيضًا على ذلك؛ لأنَّه يُسمَحُ به في العادةِ، بخلافِ الدَّراهِم والدَّنانيرِ في حقِّ أكثَرِ النَّاسِ، وفي كثيرٍ مِنَ الأحوالِ). ((شرح النووي على مسلم)) (7/113). ، كَصِلةِ الجِيرانِ والسَّائلينَ بِشَيءٍ يسيرٍ لا يضرُّ زَوجَها قال ابنُ عبد البَرِّ: (لم يَختَلِفوا في الكَثيرِ الذي له بالٌ، ويحضُرُ النَّفْسَ عليه الشحُّ به؛ أنَّه لا يحِلُّ إلَّا عن طِيبِ نفْسٍ مِن صاحِبِه). ((التمهيد)) (1/231). وقال البغويُّ: (العملُ على هذا عند عامَّةِ أهلِ العِلم؛ أنَّ المرأةَ ليس لها أن تتصدَّقَ بِشَيءٍ من مالِ الزَّوجِ دُونَ إذنِه، وكذلك الخادِمُ، ويأثمانِ إن فعلَا ذلك، وحديثُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها خارجٌ على عادَةِ أهلِ الحِجازِ، أنَّهم يُطلِقونَ الأمرَ للأهلِ والخادِمِ في الإنفاقِ والتصدُّقِ، ممَّا يكونُ في البَيتِ إذا حَضَرَهم السَّائِلُ، أو نَزَلَ بهم الضَّيفُ، فحضَّهم على لُزُومِ تلك العادةِ، كما قال لأسماءَ: ((لا تُوعِي فيُوعَى عليكِ))، وعلى هذا يُخرَّج ما رُوِيَ عن عُميرٍ مولى آبي اللَّحْم، قال: كنتُ مملوكًا، فسألتُ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أتصدَّقُ مِن مالِ مواليَّ بِشَيءٍ؟ قال: ((نعم، والأجْرُ بينكما نِصفانِ ))... وفي الجملةِ ليس لأحَدِهما أن يتناوَلَ مِن مالِ الآخَرِ ما يقَعُ به الضِّنَّةُ دون إذنِه). ((شرح السنة للبغوي)) (6/205، 206) ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّة الأربَعةِ: الحنفيَّة ((تبيين الحقائق وحاشية الشلبي)) (5/208)، ((البناية شرح الهداية)) (11/145). ، والمالكيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (2/563)، وينظر: ((التمهيد)) (1/231). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/244)، وينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/112). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (5/ 261)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/349، 350)، ((حاشية الروض المربع)) (5/201).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
1- عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تصومُ المرأةُ وبعلُها شاهدٌ إلَّا بإذنِه، ولا تأذَنُ في بيتِه وهو شاهِدٌ إلَّا بإذنِه، وما أنفَقَتْ من كسْبِه عن غيرِ أمْرِه قال النوويُّ: (وهو محمولٌ على ما أنفَقَتْه وتعلَمُ أنَّه لا يَكرَهُه، فلها أجرٌ، وله أجرٌ). ((المجموع)) للنووي (6/244). فإنَّ نِصفَ أجرِه له )) رواه البخاري (5192)، ومسلم (1026) واللفظ له.
2- عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّها سألَتِ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقالت: إنَّ الزُّبيرَ رَجلٌ شديدٌ، ويأتيني المسكينُ فأتصدَّقُ عليه مِن بَيتِه بغَيرِ إذنِه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ارضَخِي الرَّضخُ: العطيَّةُ القليلةُ. ((النهاية)) لابن الأثير (2/228). ولا تُوعي فيُوعِيَ اللهُ عليكِ لا تُوعي فيوعِيَ اللهُ عليك: لا تجمَعِي في الوعاءِ وتَبخَلي بالنفقةِ، فتُجازَيْ بمثلِ ذلك. ((فتح الباري)) لابن حجر (5/218). )) رواه أحمد (6/353) (27029) والحديثُ أصلُه في الصَّحيحينِ، رواه البخاري (1434)، ومسلم (1029)
3- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا أنفقَتِ المرأةُ مِن طعامِ بَيتِها غيرَ مُفسِدةٍ، كان لها أجْرُها بما أنفَقَتْ، ولِزَوجِها أجْرُه بما كسَبَ، وللخازِنِ مثلُ ذلك، لا ينقُصُ بعضُهم أجرَ بعضٍ شيئًا قال النووي: (اعلم أنَّ المرادَ بما جاء في هذه الأحاديثِ مِن كَونِ الأجْرِ بينهما نِصفينِ: أنَّه قِسمانِ، لكلِّ واحدٍ منهما أجرٌ، ولا يلزَمُ أن يكونَا سواءً؛ فقد يكونُ أجرُ صاحِبِ العطاءِ أكثَرَ، وقد يكون أجرُ المرأةِ والخازِنِ والمملوكِ أكثرَ، بحسَبِ قدْرِ الطَّعامِ، وقدْرِ التَّعَبِ، في إنفاذِ الصَّدَقةِ وإيصالِها إلى المساكينِ). ((المجموع)) للنووي (6/245). وقال: (معنى هذه الأحاديثِ: أنَّ المُشارِكَ في الطَّاعةِ مُشارِكٌ في الأجرِ، ومعنى المشاركةِ أنَّ له أجرًا كما لصاحِبِه أجرٌ، وليس معناه أن يزاحِمَه في أجرِه، والمرادُ المشاركةُ في أصلِ الثَّوابِ، فيكون لهذا ثوابٌ، ولهذا ثوابٌ، وإن كان أحدُهما أكثَرَ، ولا يلزَمُ أن يكونَ مِقدارُ ثَوابِهما سواءً، بل قد يكونُ ثَوابُ هذا أكثَرَ، وقد يكون عَكسَه، فإذا أعطى المالِكُ لخازِنِه أو امرأتِه أو غيرِهما مئةَ دِرهمٍ أو نحوها، لِيُوصِلَها إلى مستحقِّ الصَّدقةِ على بابِ دارِه أو نَحوِه، فأجرُ المالِكِ أكثَرَ وإنْ أعطاه رمَّانةً أو رغيفًا ونحوَهما ممَّا ليس له كثيرُ قيمةٍ؛ ليذهَبَ به إلى مُحتاجٍ في مسافةٍ بعيدة، بحيث يقابِلُ مَشيَ الذَّاهِبِ إليه بأُجرةٍ تزيدُ على الرمَّانةِ والرَّغيفِ، فأجرُ الوكيلِ أكثر، وقد يكون عَمَلُه قدْرَ الرَّغيفِ مثلًا فيكونُ مِقدارُ الأجرِ سواءً... وأشار القاضي إلى أنه يحتمِلُ أيضًا أن يكونَ سواءً؛ لأنَّ الأجرَ فَضلٌ مِنَ الله تعالى يُؤتِيه مَن يشاء، ولا يُدرَكْ بقِياسٍ، ولا هو بحَسَبِ الأعمالِ، بل ذلك فضلُ اللهِ يُؤتِيه من يشاءُ، والمختار الأوَّل، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الأجْرُ بينكما)) ليس معناه أنَّ الأجرَ الذي لأحدهما يزدحمانِ فيه، بل معناه أنَّ هذه النَّفقةَ والصدقة التي أخرجها الخازِنُ أو المرأةُ أو المملوكُ ونحوهم بإذنِ المالِكِ يترتَّبُ على جُملَتِها ثوابٌ على قدْرِ المالِ والعمل، فيكون ذلك مقسومًا بينهما؛ لهذا نصيبٌ بمالِه، ولهذا نصيبٌ بِعَمَله، فلا يزاحِمُ صاحِبُ المالِ العامِلَ في نَصيبِ عَمَلِه، ولا يزاحِمُ العامِلُ صاحِبَ المالِ في نصيبِ ماله). ((شرح النووي على مسلم)) (7/111، 112). وقال ابنُ حجر: (يحتمل أن يكونَ المرادُ بالتَّنصيفِ في حديثِ الباب الحملَ على المالِ الذي يُعطيه الرَّجُلُ في نفقةِ المرأة، فإذا أنفقَت منه بغيرِ عِلمِه، كان الأجرُ بينهما؛ للرَّجُل لِكَونِه الأصلَ في اكتسابِه، ولكونه يُؤجَرُ على ما يُنفِقُه على أهلِه). ((فتح الباري)) لابن حجر (9/297). )) رواه البخاري (1425)، ومسلم (1024)
4- عن عُميرِ مَولى آبِي اللَّحمِ آبي- بالمدِّ- اللَّحم: قيل لأنَّه كان لا يأكُلُ اللَّحمَ، وقيل لا يأكُلُ ما ذُبِحَ للأصنام، واسم آبي اللَّحمِ: عبد الله، وقيل: خَلَف، وقيل: الحُويرِث الغفاري، وهو صحابيٌّ استُشهِدَ يومَ حُنينٍ. ((شرح النووي على مسلم)) (7/114). قال: ((أمَرني مولاي أن أقدِّدَ أقدِّد لَحْمًا: أَي أقَطِّعُه. ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (5/63). لحمًا، فجاءني مسكينٌ فأطعَمْتُه منه، فعَلِمَ بذلك مولاي فضَرَبَني، فأتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فذكرتُ ذلك له، فدعاه فقال: لِمَ ضَرَبْتَه؟ فقال: يُعطي طعامِي من غَيرِ أن آمُرَه، فقال: الأجرُ بينكما))، وفي رواية: ((كنتُ مملوكًا فسألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: أتصدَّقُ مِن مالِ مَولايَ؟ قال: نعم، والأجْرُ بينكما نِصفانِ قال النوويُّ: (هذا محمولٌ على ما يَرضى به سيِّدُه، والرواية الأولى محمولةٌ على أنه ظنَّ أنَّ سيِّده يرضى بذلك القَدْرِ، فلم يرضَ لِكَونِه كان مُحتاجًا إليه، أو لمعنًى آخر، فيُثاب السيِّدُ على إخراجِ ماله، ويُثابُ العَبدُ علي نِيَّتِه). ((المجموع)) للنووي (6/245). )) رواه مسلم (1025)
وجه الدَّلالة:
أنَّ مَجموعَ هذه النُّصوصِ يدلُّ جوازِ التصدُّق بالشَّيءِ اليَسيرِ مِن مالِ الزَّوجِ الذي يتسامَحُ به في العادةِ قال العراقي- الوالد -: (أحاديثُ الباب منها: ما يدلُّ على مَنعِ المرأةِ أن تُنفِقَ مِن بَيتِ زوجِها إلَّا بإذنِه، وهو حديثُ أبي أُمامةَ، وحديثُ أبي هريرة الأوَّلُ، وحديثُ عبدِ الله بن عمرو. ومنها: ما يدلُّ على الإباحةِ، وهو حديثُ عائشةَ الأوَّل، وحديثُ أسماءَ. ومنها: ما قُيِّدَ فيه التَّرغيبُ في الإنفاقِ بِكَونِه بطِيبِ نَفسٍ منه، وبِكَونِها غيرَ مُفسِدةٍ، وهو أصحُّها. ومنها: ما هو مُقيَّدٌ بِكَونِها غيرَ مُفسدةٍ، وإن كان مِن غَيرِ أمرِه، وهو حديثُ أبي هُريرةَ الثاني. ومنها: ما قُيِّد الحِلُّ فيه بكونِه رَطْبًا، وهو حديثُ سَعدِ بنِ أبي وقَّاص. قال: وكيفيَّةُ الجمْعِ بينهما: أنَّ ذلك يختلِفُ باختلافِ عاداتِ البِلادِ، وباختلافِ حالِ الزَّوجِ في مُسامَحَتِه بذلك وكراهَتِه له، وباختلافِ الحالِ في الشَّيءِ المنفَقِ بين أن يكون شيئًا يسيرًا يُتسامَح به، وبين أن يكون له خَطَرٌ في النفْسِ يُبخَلُ بمِثلِه، وبين أن يكونَ رَطْبًا يُخشى فسادُه إن تأخَّرَ، وبين أن يكونَ يُدَّخَرُ ولا يُخشَى عليه الفسادُ. ((طرح التثريب في شرح التقريب)) (4/146).
ثانيًا: أنَّ العادةَ تَسمَحُ مِن ذلك بالشَّيءِ اليسيرِ بِطيبِ النَّفسِ، فجرى مجرى صَريحِ الإذنِ، كما أنَّ تقديمَ الطَّعامِ بين يَدَيِ الأكَلَةِ قام مقامَ صَريحِ الإذنِ في أكْلِه ((المغني)) لابن قدامة (4/350)، وينظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي مع ((حاشية الشلبي)) (5/208).

انظر أيضا: