الموسوعة الفقهية

الفصل الثالث: المُؤلَّفةُ قلوبُهم


المبحث الأوَّل: تعريفُ المُؤلَّفة قلوبُهم
المُؤَلَّفة قُلوبُهم: هم مَن يُرجى إسلامُهم، أو كفُّ شرِّهم، أو يُرجى بعَطِيَّتِهم تأليفُ قُلوبِهم وقوَّةُ إيمانِهم قال ابنُ تيميَّة: (المؤلَّفة قلوبُهم نوعان: كافرٌ ومُسلمٌ، فالكافر: إمَّا أن يُرجى بعَطِيَّتِه منفعةٌ، كإسلامِه؛ أو دفْعُ مضَرَّتِه إذا لم يندفِعْ إلا بذلك، والمسلمُ المطاع: يُرجى بعطِيَّتِه المنفعةُ أيضًا كحُسنِ إسلامِه، أو إسلامِ نظيره، أو جبايةِ المال ممَّن لا يُعطيه إلا لخوفٍ أو النكايةِ في العدوِّ، أو كفِّ ضَرَرِه عن المسلمين إذا لم ينكفَّ إلَّا بذلك، وهذا النوع من العطاء وإن كان ظاهرُه إعطاءَ الرُّؤساء وترْكَ الضُّعَفاء كما يفعل الملوكُ؛ فالأعمالُ بالنيَّات؛ فإذا كان القصدُ بذلك مصلحةَ الدِّينِ وأهلِه، كان مِن جِنسِ عطاءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وخلفائِه، وإنْ كان المقصودُ العلوَّ في الأرضِ والفسادَ، كان من جنس عطاءِ فِرعونَ؛ وإنَّما ينكره ذَوُو الدِّينِ الفاسِدِ، كذي الخُويصِرَة الذي أنكرَه على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى قال فيه ما قال، وكذلك حِزبُه الخوارِجُ، أنْكروا على أميرِ المؤمنين عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه ما قصَد). ((مجموع الفتاوى)) (28/290)، وينظر: ((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 721)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (29/111)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/226).
المبحث الثاني: حُكم إعطاء المؤلَّفة قلوبُهم
المؤلَّفةُ قلوبُهم مِن مَصارِفِ الزَّكاة الثَّمانية، وسهمُهم باقٍ لم يسقطْ ولم يُنسَخْ، ويكون حسَبَ الحاجةِ والمصلحةِ، فحيثما وُجِدَت المصلحةُ أو دعَتْ إليه الحاجةُ، عُمِل بهذا السَّهمِ، وهذا في الجُملةِ مذهَبُ الشَّافعيَّة ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (3/ 109). اشترط الشافعيةُ الإسلامَ في المؤلَّفة قلوبُهم، كمَن كان حديثَ العَهدِ بالإسلامِ؛ ليقْوَى إيمانُه، أو كان مُطاعًا في قَومِه، فيُرجى بعطِيَّتِه إسلامُ مَن وَراءه، أمَّا الكافِرُ فلا يُعطَى عندهم بلا خلافٍ. ينظر: ((الوسيط في المذهب)) للغزالي (4/557)، ((أسنى المطالب في شرح روض الطالب)) لزكريا محمد الأنصاري (1/395). ، وهو مذهب الحَنابِلَة ((الإقناع)) للحجاوي (1/ 294)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 278). قال الوزير بن هُبَيرة: (فقال أحمدُ: حُكمُهم باقٍ لم يُنسخْ، ومتى وجَد الإمامُ قومًا من المشركين يخاف الضَّرَرَ بهم ويعلَمُ بإسلامِهم مصلحةً، جاز أن يتألَّفَهم بمالِ الزَّكاة، وعنه روايةٌ أخرى أنَّ حُكمَهم منسوخٌ). ((اختلاف الأئمة العلماء)) (1/216)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/497). ، والظَّاهِريَّة قال ابنُ حَزْم: (ادَّعى قومٌ: أنَّ سهمَ المؤلَّفةِ قُلوبُهم قد سقَط، وهذا باطلٌ, بل هم اليوم أكثَرُ ما كانوا, وإنما يسقُطونَ هم والعاملون إذا تولَّى المرءُ قِسمةَ صَدَقةِ نفْسِه; لأنَّه ليس هنالك عاملون عليها, وأمْرُ المؤلَّفةِ إلى الإمامِ لا إلى غيره...وصحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّه قال في الزَّكاة: (ضَعُوها مواضعَها)، وعن إبراهيم النَّخَعي والحسَن مثلُ ذلك، وعن أبي وائل مثلُ ذلك, وقال في نصيبِ المؤلَّفة قلوبُهم: رَدُّه على الآخرين، وعن سعيد بن جبير: (ضعْها حيث أمَرَك الله)، وهو قول الشافعي, وأبي سليمان, وقول ابن عمر, ورافع). ((المحلى)) (6/145رقم 719)، وينظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي مع حاشية الشلبي (1/296) ((البناية شرح الهداية)) لبدر الدين العيني (3/445) ، وهو قولٌ للمالكيَّةِ ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) لأحمد الصاوي (1/660)، ((منح الجليل شرح مختصر خليل)) لمحمد عليش (2/88). ، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَف قال ابنُ قدامة: (أحكامُهم كلُّها باقيةٌ، وبهذا قال الحسَنُ والزُّهري، وأبو جعفر محمد بن علي). ((المغني)) لابن قدامة (2/497)، وينظر: ((المحلى)) لابن حزم (6/145رقم 719)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي مع حاشية الشلبي (1/296). ، وهو اختيارُ أبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سلَّام قال أبو عُبَيد: (اختلفتِ الناسُ بعدُ فيمَن كان بمِثلِ حالِهم اليومَ؛ فقال بعضهم: قد ذهَب أهلُ هذه الآيةِ، وإنما كان في دهْرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا ما قاله الحسَنُ، وابن شهاب، فعلى أنَّ الأمر ماضٍ أبدًا، وهذا هو القولُ عندي؛ لأنَّ الآية مُحكَمة، لا نَعلم لها ناسخًا من كتابٍ ولا سُنَّة، فإذا كان قومٌ هذه حالُهم، لا رغبةَ لهم في الإسلامِ إلَّا للنَّيْلِ، وكان في رِدَّتهم ومحارَبَتِهم إن ارتدُّوا ضررٌ على الإسلامِ، لِمَا عندهم من العزِّ والأنَفَة، فرأى الإمامُ أن يرضخَ لهم مِنَ الصَّدقة، فعَل ذلك لخِلالٍ ثلاثٍ: إحداهنَّ: الأخْذُ بالكتاب والسُّنة، والثانية: البُقيا على المُسلمين، والثالثة: أنَّه ليس بيائسٍ منهم إنْ تمادى بهم الإسلامُ أن يفقهوه، وتحسُنُ فيه رغبتُهم)، ((الأموال)) (ص: 721، 722)، وينظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي مع حاشية الشلبي (1/296). ، وابن رُشد قال ابنُ رُشد: (سببُ اختلافِهم؛ هل ذلك خاصٌّ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو عامٌّ له ولسائر الأمَّة؟ والأظهَرُ أنه عامٌّ. وهل يجوز ذلك للإمامِ في كلِّ أحواله أو في حالٍ دون حال؟ أعني في حال الضَّعْفِ لا في حال القوَّةِ؛ ولذلك قال مالك: لا حاجةَ إلى المؤلَّفةِ الآنَ لقوَّة الإسلامِ، وهذا كما قُلْنا التفاتٌ منه إلى المصالِحِ). ((بداية المجتهد)) (1/275). ، وابن تَيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (ما شرَعه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم شرعًا معلَّقًا بسببٍ، إنما يكونُ مشروعًا عند وجودِ السَّبَب، كإعطاءِ المؤلَّفةِ قُلوبُهم؛ فإنَّه ثابتٌ بالكتاب والسُّنة، وبعضُ الناس ظنَّ أنَّ هذا نُسِخَ؛ لِمَا رُوي عن عمر: أنَّه ذكَرَ أنَّ الله أغنى عن التألُّفِ، فمن شاء فليؤمِنْ ومَن شاء فليَكفُرْ، وهذا الظنُّ غلطٌ؛ ولكِنَّ عُمَرَ استغْنى في زَمَنه عن إعطاءِ المؤلَّفة قلوبُهم، فترك ذلك لعَدمِ الحاجة إليه، لا لنَسخِه، كما لو فُرِض أنَّه عُدِم في بعضِ الأوقات ابنُ السَّبيلِ والغارِمُ، ونحوُ ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (33/94). ، والشوكانيِّ قال الشوكانيُّ: (قد وقَع منه صلَّى الله عليه وسلَّم التأليفُ لِمَن لم يخلُصْ إسلامُه من رُؤساء العرب...فالتأليف شريعةٌ ثابتةٌ جاءَ بها القرآنُ، وجعَل المؤلَّفةَ أحدَ المصارِفِ الثمانية، وجاءتْ بها السنَّةُ المتواترة؛ فإذا كان إمامُ المسلمينَ محتاجًا إلى التأليفِ لِمَن يخشى مِن ضرِره على الإسلامِ وأهلِه، أو يرجو أن يَصلُحَ حالُه ويصير نصيرًا له وللمسلمينَ، كان ذلك جائزًا له... فكما يجوز لربِّ المالِ أن يضعَها في مصرفٍ مِن المصارِفِ غيرَ المؤلَّفةِ، يجوز له أيضًا أن يضعَها في المؤلَّفةِ، وهذا ظاهرٌ واضح، وأمَّا إذا كان الإمامُ موجودًا، فأمْر الصَّرفِ إليه، وليس للإمامِ أن يتألَّفَ مع قوَّةِ يَدِه وبسْطَة أمرِه ونَهيِه، ووجودِ مَن يستنصِرُ به عند الحاجة؛ لما عُرِف من أنَّ عِلةَ التأليف الواقِعِ منه صلَّى الله عليه وسلَّم هو ما تقدَّم عنه). ((السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار)) (ص: 252). ، وبه صدَر قرارُ المجمَعِ الفقهيِّ التابع لمنظَّمة المؤتَمَر الإسلاميِّ في قرارات مجمع الفقه الإسلامي: (سهمُ المؤلَّفة قلوبُهم باقٍ ما بقيَتِ الحياة، لم يسقُطْ ولم يُنسَخ، ويكون حسَب الحاجةِ والمصلحة؛ فحيثما وُجِدَت المصلحة أو دعتْ إليه الحاجةُ عُمِل بهذا السَّهم. يجوز إعطاءُ الزَّكاة لتأليفِ قلوب من أسلم حديثًا؛ تثبيتًا لإيمانِه، وتعويضًا له عمَّا فقدَه، وكذلك إعطاءُ الكافر إذا رُجِيَ إسلامُه، أو دفعًا لشرِّه عن المسلمينَ). قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته الثامنة عشرة في بوتراجايا (ماليزيا) من 24 إلى 29 جمادى الآخرة 1428هـ، الموافق 9 م 13 تموز (يوليو) 2007 م. قرار رقم: 165 (3/18).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]
وجه الدَّلالة:
أنَّه نصَّ على أنَّ المؤلَّفة قلوبُهم من جملةِ مَصارِفِ الزَّكاة، ولا يجوز ترْكُ النصِّ إلَّا بنسخٍ، والنَّسخُ لا يثبُتُ بالاحتمالِ، ولا يكون إلَّا في حياةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لا بعدَ انقراضِ زَمَنِ الوحي قال الزهري: (لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة). ((المغني)) لابن قدامة (2/497).
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن صفوانَ قال: ((واللهِ لقدْ أعطاني رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أعطاني، وإنَّه لأبغضُ النَّاسِ إليَّ، فما برِح يُعطيني، حتى إنَّه لأحبُّ النَّاسِ إليَّ )) رواه مسلم (2313)
2- عن أنسِ بن مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((ما سُئِل رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الإسلامِ شيئًا إلَّا أعطاه. قال فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بيْن جَبلينِ، فرجَع إلى قومِه، فقال: يا قومِ، أسلِموا؛ فإنَّ محمَّدًا يُعطي عطاءً، لا يخشَى الفاقةَ )) رواه مسلم (2312)
3- عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بعَثَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بذُهَيبةٍ في أَديمٍ مَقروظٍ لم تُحصَّلْ من ترابِها، فقسَمَها بيْن أربعةِ نَفَرٍ: عُيَينةَ بنِ بدرٍ, والأقْرَعِ بنِ حابسٍ, وزَيدِ الخيرِ, وذكر رابعًا, وهو عَلقمةُ بنُ عُلَاثةَ )) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064)
ثالثا: أنَّه إذا كان الرجلُ يُعطَى لحفظِ بَدَنِه وحياته، فإنَّ إعطاءَه لحِفظِ دينه وإيمانِه أوْلى ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/227).

انظر أيضا: