الموسوعة الفقهية

المبحث الخامس: الاحتيالُ لإسقاطِ الزَّكاة


يحرُمُ الاحتيالُ لإسقاطِ الزَّكاةِ، ولا تسقُطُ به، وهذا مذهَبُ المالكيَّةِ ((الشرح الكبير)) للدردير و((حاشية الدسوقي)) (1/437)، ويُنظر: ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/600). ، والحَنابِلَةِ ((الفروع)) لابن مفلح (3/ 475)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 179)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/504)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) للزركشي (2/459)، ((القواعد النورانية)) لابن تيمية (ص: 134). ، وهو قَولُ طائفةٍ مِنَ الشافعيَّةِ ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (4/77). ، وبه قال إسحاقُ بنُ راهَويهِ ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (4/77)، ((المغني)) لابن قدامة (2/504). ، وأبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سلَّامٍ ((المغني)) لابن قدامة (2/504). ، واختاره ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (ولا يحِلُّ الاحتيالُ لإسقاطِ الزَّكاةِ ولا غيرِها مِن حُقوقِ اللهِ تعالى). ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 453). وقال أيضًا: (الرَّابع: الاحتيالُ لإسقاطِ ما انعقَد سببُ وُجوبِه، مثل: الاحتيالِ لإسقاطِ الزَّكاة، أو الشُّفعةِ أو الصَّومِ في رمضانَ، وفي بعضِها يظهَر أنَّ المقصودَ خَبيثٌ، مثل الاحتيالِ لإسقاطِ الزَّكاةِ، أو صومِ الشَّهرِ بِعَينِه، أو الشُّفعةِ، لكنْ شُبهةُ المرتكِب أنَّ هذا مَنْعٌ للوُجوبِ لا رفعٌ له، وكلاهما في الحقيقةِ واحِدٌ). ((الفتاوى الكبرى)) (6/118). ، وابنُ القيِّم قال ابنُ القيِّم: (وقد استقرَّت سُنةُ اللهِ في خَلقِه شَرعًا وقَدَرًا على مُعاقَبةِ العَبدِ بنَقيضِ قَصْدِه، كما حَرَمَ القاتلَ الميراثَ، وورَّثَ المُطلَّقةَ في مَرَضِ الموتِ، وكذلك الفارُّ مِنَ الزَّكاةِ لا يُسقِطُها عنه فرارُه، ولا يُعانُ على قَصْدِه الباطِلِ، فيَتِمَّ مقصُودُه، ويسقطَ مقصودُ الرَّبِّ تعالى، وكذلك عامَّةُ الحِيَلِ إنما يُساعِدُ فيها المتَحيِّلُ على بُلوغِ غَرَضِه ويُبطِلُ غَرَضَ الشَّارِع) ((إعلام الموقعين)) (3/283). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمِين: (ظاهِرُ كلامِ الفُقَهاءِ: أنَّ الزَّكاةَ تَسقُط عنه، ولكِنْ لا بدَّ أن نقولَ: إنَّ كلامَهم في هذا البابِ يدلُّ على أنَّها لا تسقُطُ بهذا التَّبديلِ، فيقوِّمُ هذه العَقاراتِ كُلَّ سَنةٍ، ويؤدِّي زَكاتَها، وإنْ كان الأصلُ أنَّه ليس فيها زكاةٌ، لكِنَّ الفارَّ يُعاقَبُ بِنَقيضِ قَصدِه). ((الشرح الممتع)) (6/40). ، وحُكِيَ فيه الإجماعُ قال ابنُ بطَّال: (أجمَع العُلَماءُ على أنَّ للمَرءِ قبل الحَوْلِ التصرُّفَ في مالِه؛ بالبَيعِ والهِبَةِ والذَّبح، إذا لم ينوِ الفِرارَ مِنَ الصَّدقةِ، وأجمعوا على أنَّه إذا حال الحَوْلُ أنَّه لا يحِلُّ التحيُّلُ بأن يفرِّقَ بين مُجتَمِعٍ، أو يجمَعَ بينَ مُتَفرِّقٍ). ((فتح الباري)) لابن حجر (12/331). وقال ابن حجر الهيتمي: (إذا تقرَّرَ ذلك عُلِمَ منه أنَّه لا ينبغي لِمَن عنده أدْنى عَقلٍ ومروءةٍ ودِينٍ أن يرتكِبَ شيئًا مِن هذه الحِيَلِ، التي قد تكونُ سببًا للخِزيِ في الدُّنيا والآخرة، وربَّما قصَد الغافِلُ المغرورُ بها توفيرَ مالِه وتنميَتَه، ويكون ذلك سببًا لِمَحْقِه وزوالِه عن قُربٍ، أو عدمِ البَرَكة فيه؛ فلا يَنتفِعُ به هو ولا ذريَّتُه، وربما عُومِلَ فيه وفي ذُرِّيتِه بما يُسيئُه ويَغيظُه، فيُسلِّطُ عليهم الشيطانُ أعوانَه حتى يُنفِقوه في المحارِمِ واللَّذَّاتِ والشَّهواتِ القبيحة المحرَّمةِ، كما لا يخفى ذلك على مَن جرَّبَ أحوالَ النَّاسِ، سيَّما أبناءُ التجَّارِ ونحوهم مِن ذَوي الأموالِ، الذين لم يؤدُّوا منها حقَّ اللهِ سبحانه وتعالى، ولم يَجرُوا فيها على سَنَنِ الاستقامةِ، ويأتي جميعُ ما تقرَّر في الغنيِّ إذا احتال على أن يجعَلَ نفسَه فقيرًا أو مِسكينًا حتى يحِلَّ له أخْذُ الزَّكاة، فيَحرُمُ عليه ذلك أو يُكره له على ما مرَّ، وعلى الأوَّلِ، فلا يحِلُّ له ما أخَذَه مِنَ الزَّكاةِ، بل تبقى ذمَّته معلَّقةً به في الآخِرةِ). ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) (4/78).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُ الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم: 17 – 33]
وجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ عاقبَهم بذلك لِفِرارِهم مِنَ الصَّدقة، وقصدِهم منْعَ المسكينِ، وإذا كان الوعيدُ عليه مستحَقًّا كان فِعلُه مُحرَّمًا، وفِعلُ المحرَّماتِ لا يمنَعُ حقوقَ اللهِ تعالى الواجِباتِ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/196)، ((المغني)) لابن قدامة (2/504)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) للزركشي (2/459).
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ أبا بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كتب له التي فرَضَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ولا يُجمَع بين متفرِّقٍ، ولا يُفرَّق بين مجتَمِع؛ خشيةَ الصَّدقةِ )) رواه البخاري (1450).
وجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحديثَ نصٌّ في تحريمِ الحِيلةِ المُفضِيةِ إلى إسقاطِ الزَّكاةِ أو تنقيصِها بسببِ الجمْعِ والتَّفريقِ، فإذا باع بعضَ النِّصَابِ قبل تمامِ الحَوْل تحيُّلًا على إسقاطِ الزَّكاةِ؛ فقد فرَّقَ بين المجتمِعِ، فلا تسقُطُ الزَّكاةُ عنه بالفِرارِ منها ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/203).
2- عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تَرْتكِبوا ما ارتكبَتِ اليهودُ، فتستحلُّوا محارِمَ اللهِ بأدْنَى الحِيَلِ)) رواه ابن بطة في ((إبطال الحيل)) (ص: 46). وقد حسَّن إسناده ابن تيمية في ((بيان الدَّليل)) (86)، والسخاوي في ((الأجوبة المُرضِيَّة)) (1/214)، وجوَّده ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/513)، وابن كثير في ((تفسير القرآن)) (1/154)، وصحح الحديث ابن باز في ((مجموع فتاوى ابن باز)) (19/230)، وجوَّد إسناده الألباني في ((آداب الزفاف)) (120).
ثالثًا: إجْماعُ الصَّحابةِ العامُّ:
نقَل ابنُ القيِّم إجماعَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على منْعِ الحِيَلِ قال ابنُ القيِّم: (وممَّا يدلُّ على التحريمِ أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أجْمعوا على تحريمِ هذه الحِيلِ وإبطالِها، وإجماعُهم حُجَّةٌ قاطعةٌ، بل هي مِن أقوى الحُجَجِ وآكَدِها، ومَن جَعَلَهم بينه وبين الله فقدِ استوثَقَ لِدِينِه). ((إعلام الموقعين)) (3/204).
رابعًا: أنَّ فيه إبطالَ ما شرَعه اللهُ وأراده، وكلُّ حيلةٍ تُوصِّلُ بها إلى مُخالفةِ مَقصودِ الشَّارِعِ؛ فهي حرامٌ، ويبطُل أثرُها ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) للزركشي (2/459).
خامسًا: أنَّ قصْدَ الفِرارِ مِنَ الزَّكاة، فيه إسقاطُ حقِّ غيرِه، وقد انعقد سببُ استحقاقِه، فلم تَسقُطْ، كالمطلِّقِ في مرَضِ الموتِ ((المغني)) لابن قدامة (2/504)، ((حاشية الروض المربع)) لابن قاسم (3/179).
سادسًا: أنَّ إسقاطَ المالِ كاجتلابِ المالِ، فلمَّا كان اجتلابُ المال لا يُحمَلُ بوجهٍ محرَّمٍ، مثل أن يقتُلَ مورِّثًا فلا يَرِثُه، كذلك إسقاطُ المالِ لا يحصُل بوجهٍ مُحرَّمٍ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/196).
سابعًا: أنَّه لَمَّا قصَد قصدًا فاسدًا، اقتضتِ الحِكمةُ مُعاقَبَتَه بنقيضِ قصْدِه، كمَن قتَلَ مورِّثَه لاستعجالِ مِيراثِه، عاقبَه الشَّرعُ بالحِرمانِ ((المغني)) لابن قدامة (2/504)، وينظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/283)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/40).

انظر أيضا: