الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّل: تعدُّدُ الجماعاتِ في وقتٍ واحدٍ أو معَ التعاقُبِ


لا يُشرَعُ تعدُّدُ الجماعاتِ في المسجدِ الواحدِ في وقتٍ واحدٍ، وكذلك لا يُشرَعُ تعاقُبُ الجماعاتِ الرَّاتبةِ في المسجدِ الواحدِ.
الأَدِلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
1- عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أثقَلُ صلاةٍ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاة الفَجرِ، ولو يَعلمون ما فيهما لأتوهُما ولو حبوًا، ولقد هممتُ بالصَّلاةِ فتُقامُ، ثم آمُرُ رجلًا يُصلِّي بالناس، ثم أنطلقُ معي برِجالٍ معهم حُزمٌ من حطَب إلى قومٍ لا يَشهدونَ الصَّلاة فأُحرِّقُ عليهم بيوتَهم بالنارِ )) رواه البخاري (657)، ومسلم (651).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الذين يُعدِّدونَ الجماعاتِ الراتبةَ في المسجدِ الواحدِ أشدُّ تفريقًا للمسلمين، وإعراضًا عن جماعتِهم من المتخلِّفينَ عن المسجدِ، الذين يُصلُّونَ جماعةً من غير حدودٍ، وأعظم مواحشةً بين المؤمنين، وإيغالًا لصدورهم، ومخالفةً بين قلوبِهم ((الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (6/2842، 2843).
2- عن جابرِ بنِ يَزيدَ بن الأسودِ العامريِّ، عن أبيه، قال: ((شهدتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاةَ الفجرِ في مسجدِ الخَيْف، فلمَّا قضَى صلاتَه إذا هو برجُلينِ في آخِرِ القومِ لم يُصلِّيَا معه قال: عليَّ بهما، فأُتِيَ بهما ترعَدُ فرائصُهما، فقال: ما مَنعكما أنْ تُصلِّيَا معنا؟ قالَا: يا رسولَ اللهِ، إنَّا قد صلَّينا في رِحالنا، قال: فلا تفْعلَا، إذا صليتُما في رحالِكما، ثم أتيتُما مسجدَ جماعةٍ، فصَلِّيَا معهم، فإنَّها لكما نافلةٌ )) رواه أبو داود (575)، والترمذي (219)، والنسائي (2/112) واللفظ له. قال الترمذي: حسنٌ صحيح. وصححه النووي في ((الخلاصة)) (1/271)، وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (4/412)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2/112)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1216).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنكرَ على مَن لم يدخُلِ الجماعةَ معتذرًا بأنَّه قد صلَّى في رَحله، وأمره بالدخولِ مع جماعةِ من المسلمين؛ لئلَّا يتظَّهر بمخالفةِ المسلمين في عدم الدُّخولِ في جماعتِهم ((الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (6/2843).
3- عن أبي الشعثاءِ، قال: ((كنَّا قعودًا في المسجدِ مع أبي هُرَيرَةَ، فأذَّن المؤذِّنُ، فقام رجلٌ من المسجدِ يَمشي فأتبعه أبو هُرَيرَةَ بصرَه حتى خرجَ من المسجدِ، فقال أبو هُرَيرَةَ: أمَّا هذا، فقدْ عصَى أبا القاسمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [4305] رواه مسلم (655).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الشارعَ نهى عن الخروجِ من المسجدِ بعدَ النداءِ؛ لِمَا في ذلِك من مخالفةٍ للمسلمينَ وتفريقٍ لجماعتِهم، وإعراضٍ عن الطاعة، والذي يُسابق الجماعةَ، واعتزلَ جميعَ المسلمين أشدُّ مخالفةً، وأعظم تظهرًا بما يخالف ما هو من أعظمِ مقاصدِ الشارعِ ((الفتح الربَّاني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (6/2844).
ثانيًا: مِنَ الإِجْماعِ
نقَلَ الإجماعَ على المنعِ من تعدُّدِ الجماعاتِ في المسجدِ الواحدِ في وقتٍ واحدٍ: ابنُ عرفةَ قال القاضي جمالُ الدِّين ابن ظَهِيرة، عن ابنِ عَرفة أنَّه: (لَمَّا رأى اجتماع الأئمَّة الأربعة في صلاة المغرب أنكر ذلك, وقال: إنَّ ذلك لا يجوز بإجماع المسلمين، لا أعلم بينهم في ذلك اختلافًا). ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/440). ، وأبو القاسمِ ابنُ الحباب قال الحطاب نقلًا عن والده: (أمَّا اجتماع إمامين بجماعتين في صلاةٍ واحدة في وقتٍ واحد في مسجدٍ واحد، فهذا لا يجوزُ, وقد نقَل الإجماعَ على عدم جواز ذلك الشيخُ أبو القاسم بن الحباب، والشيخ أبو إبراهيم الغساني، والقاضي جمال الدِّين بن ظَهيرة الشافعي). ((مواهب الجليل)) (2/441). ، وجمالُ الدِّين ابنُ ظهيرة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/439-440). ، وعِليش قال ابن عليش: (وإنْ رُتِّب أئمَّةٌ للصلاة في جهات المسجد الأربعة، كما في المسجد الحرام، أو في جِهة واحدةٍ بمحلَّين، كما في مسجد المدينة المنوَّرة بأنوار ساكنها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنْ كانوا يصلون دفعةً واحدة، فهذا حرامٌ بإجماع المسلمين لم يقُل بجوازه أحدٌ منهم؛ مَن صحَّت عقيدته، ولا مَن فسدت؛ لتأديته للتخليط، ولمخالفته للأحاديثِ الصحيحةِ وإجماعِ الأمَّة من زمَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى زمنِ حدوث هذه البِدعة في القرن السادس). ((منح الجليل)) (1/367).
ونقَل الإجماعَ على عدَمِ مشروعيَّةِ تعاقُبِ الجماعاتِ الراتبةِ في المسجدِ الواحدِ: السعديُّ المالكيُّ قال السعديُّ المالكيُّ: (فأمَّا إقامة صلاة واحدة بإمامين راتبين يحضُر كلُّ واحد من الإمامين فيتقدَّم أحدهما, وهو الذي رتب ليصلي أوَّل، وتجلس الجماعة الأخرى وإمامهم عكوفًا حتى يفرغَ الأول، ثم يُقيمون صلاتهم، فهذا ممَّا لم يقل به أحد.... هذا ممَّا لا نعلم له نظيرًا في قديم ولا حديث). انظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/438). ، والغسانيُّ قال أبو إبراهيمَ الغسانيُّ: (إنَّ افتراق الجماعة عند الإقامة على أئمَّة متعدِّدة: إمام ساجد، وإمام راكع، وإمام يقول: سمِع الله لِمَن حمده، لم يُوجد مَن ذكَره من الأئمَّة، ولا أذِن به أحد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، لا مَن صحَّت عقيدته، ولا مَن فَسدت لا في سَفر ولا في حضَر، ولا عند تلاحُم السيوف، وتضامِّ الصفوف في سبيلِ الله، ولا يوجد في ذلك أثرٌ لِمَن تقدَّم، فيكون له به أسوة). انظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/438). والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (لم يُسمعْ في أيام النبوة أنَّ رجلًا ترك الجماعة الكبرى في المسجد الذي تُقام فيه، وبادر بجماعةٍ قبلَ قيام الجماعة الكبرى، ولا يُمكن أحدًا أن يُنكر ذلك البتةَ) ((الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (6/2841).
ثالثًا: أنَّ تعدُّدَ الجماعاتِ مناقضٌ لمقصودِ الشارعِ من مشروعيَّةِ صلاةِ الجماعةِ, وهو اجتماعُ المسلمين، وأنْ تعودَ بركةُ بعضِهم على بعضٍ، وأنْ لا يُؤدِّي ذلك إلى تفرُّقِ الكلمةِ ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/440). ؛ فجمْعُ القلوب، والتأليفُ بين المسلمين، وقطْعُ ذرائعِ التفريق والتخالُف، مقصدٌ من مقاصدِ الشرعِ عظيمٌ، وأصلٌ من أصولِ هذا الدِّين، ولا ريبَ أنَّ تفرُّقَ المصلِّين في الجماعاتِ له مدخلٌ في التأثيرِ في اختلافِ القلوبِ، وإيغارِ الصُّدورِ، والمواحشةِ بينَ المسلمين ((الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (6/2847).
رابعًا: أنَّ الشارعَ لم يسمحْ بتفريق الجماعةِ بإمامينِ عند الضرورةِ الشديدةِ، وهي حضورُ القتالِ مع عدوِّ الدِّينِ، بل أمَرَ بقَسمِ الجماعةِ وصلاتِهم بإمامٍ واحد ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/440). ، ففي السِّلم من باب أَوْلى.
خامسًا: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أمرَ رسولَه بهدمِ مسجدِ الضِّرارِ لَمَّا اتُّخِذَ لتفريقِ الجماعةِ ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/440).

انظر أيضا: