قراءة ونقد

المتشددون منهجهم ومناقشة أهم قضاياهم
book
علي جمعة
عنوان الكتاب: المتشددون.. (منهجهم..ومناقشة أهم قضاياهم)
الناشر: دار المقطم للنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1432 هـ - 2011م
عدد الصفحات: 158 صفحة
عرض ونقد: القِسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية

أولًا: عرض الكتاب:
كتاب هذا الشَّهر، هو واحد من الكتب التي تَكيل الاتهامات زورًا وبهتانًا لتيار عريض من المسلمين المستمسكين بدِينهم على منهج أهل السُّنة والجماعة أتباع السَّلف الصَّالح، وتزداد خطورة هذا الكتاب؛ نظرًا لكون مؤلِّفه شخصية شهيرة، تولَّت منصب الإفتاء مدَّة من الزَّمن في بلد الأزهر، وقد عُرف بخصومته وعداوته الشَّديدة لعلماء السَّلف الصَّالح المتقدِّمين منهم والمتأخِّرين.
وقد تألَّف الكتاب من مقدِّمة عرَّف فيها المؤلِّفُ السَّلفية من خلال فَهمه لها، وعرَّج على سِمات منهج المتشدِّدين الذين تسمَّوا بالسَّلفية - على حسب تعبيره. ثمَّ سرد المؤلِّف سبعة عشر مسألة، زاعمًا أنها أهم مسائل المتشدِّدين التي جعلوها أصولًا لها، وعنوانًا عليهم، وهي كالتالي:
1- وصف الله بالمكان
2- انتقاص الأشاعرة
3- إنكار اتباع المذاهب الفقهية وتقليدها
4- الإقدام على الإفتاء بغير تأهيل ونظام
5- اتساع مفهوم البدعة مما يترتب عليه تبديع أغلب المسلمين
6- تحريم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدُّه شركًا بالله
7- تحريم الصَّلاة في المساجد ذات الأضرحة، والتصريح بوجوب هدمها
8- اعتبار التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين شركًا بالله
9- تحريم الاحتفال بمولد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعده بدعة وضلالة
10- تحريم السَّفر لزيارة قبر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقبور الأنبياء والصالحين
11- اتهام مَن تَرجَّى بالنبي صلى الله عليه وسلم بالشِّرك الأصغر
12- الحُكم على والدي المصطفى صلى الله عليه وسلم بالنار يوم القيامة
13- نفي أيَّ إدراك للميت وشعوره بمن يزوره
14- إنكار كثرة الذكر والأوراد
15- عدُّ السُّبحة بدعة عند أكثر المتشدِّدين
16- التمسك بالظاهر، والتعبُّد بالثياب (ثوب الشُّهرة - النقاب)
17- السَّعي قبل الوعي، والخلط بين الوعظ والعلم.

ثانيًا: نقد الكتاب
فبينما تُشن على الدَّعوة السلفيَّة حملة شعواء، ويُطعن في السلفيين من قِبل العلمانيين والليبراليين وبعض التوجُّهات الأخرى، يُؤثِر د. علي جمعة مفتي مصر السَّابق أن يكون في صفِّ هؤلاء كما كان غالبًا، فيخرج علينا بكتاب عن السلفيِّين، واصفًا لهم بصفة التشدُّد.
ويمكن تصنيف المسائل التي ذكرها د. علي جمعة في كتابه عن السَّلفيين متهمًا إياهم فيها بالتشدُّد والخطأ إلى قسمين:
القسم الأول: مسائل لم يقولوا هم بها أصلًا، وليست من أصولهم ولا أهم قضاياهم، وهي مجرَّد ادعاءات وافتراءات كاذبة، وقد تكون بعض أفعال فردية لا يصحُّ أن تنسب إلى المجموع بحال.
والقسم الثاني: مسائل قالوا بها، والحق فيها معهم بناء على الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة الصحيحة، وآثار السَّلف الصَّالحين، وأقوال العلماء الراسخين في كل العصور، والمخطئ فيها هو مَن اتهمهم فيها بالتشدُّد والخطأ.
وإذا كان د. علي جمعة يصف السلفيِّين بالتشدُّد، فمِن حق السلفيين أيضًا أن يصفوه بالتساهل، وتتبع رُخص العلماء وزلاتهم، والتمييع لقضايا الدين، إلَّا أن وصفه لهم - بالجملة - كذب وبهتان، ووصفهم له حقٌّ ببرهان، ومن ذلك:
1- فتواه بأنَّ الاختلاط بين الشباب والفتيات في قاعة الجامعة ليس حرامًا.
2- فتواه بأن طلاق المصريِّين لا يقع؛ لأنهم ينطقون كلمة طالق بالهمز.
3- منعه من ختان الإناث، بينما كان يجيزه قبل تولِّي منصب الإفتاء.
4- مهاجمته النِّقاب، وادعاؤه أنه عادة، خلافًا لقوله قبل تولي المنصب.
5- تجويزه فوائد البنوك الرِّبوية.
6- إباحته بيع المسلم الخمورَ في الدُّول غير الإسلامية.
7- إباحته ترقيع غِشاء البكارة.
8- تجويزه تولي النصراني رئاسة بلد إسلامية.
9- إنكاره الشَّديد هدمَ بعض الأضرحة لا خشية الفتنة، بل لتجويزه بقاءها.
فحُقَّ لمن هذا حاله أن يصف المستمسكين بالكتاب والسُّنة والسائرين على مذهب السلف بالتشدُّد.

وقبل البَدء في عرض بعض ما جاء في الكتاب نقول؛ حتى يكون القارئ على بيِّنة، وحتى لا يستغرب ما جاء فيه من آراء - نقول: إنَّ مؤلِّفه أشعريُّ المعتقَد، صوفي المسلَك.
ونحن هنا نُشير فقط إلى بعض المآخِذ التي جاءت في كتابه، مع التعقيب عليها باختصار:
فتَحتَ عنوان (سمات المتشدِّدين في العصر الحديث) يقول: (نرى آراء أغلب من تسمَّوا بالسلفيِّين واتجاهاتهم وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة). وفي هذا من البهتان ما فيه.
ويقول أيضًا عن السلفيِّين: (إنَّهم يتبنَّون فكرًا صداميًّا، وهذا الفكر الصدامي يفترض أمورًا ثلاثة وهي:
أولًا: أنَّ العالم كله يكره المسلمين، وأنهم في حالة حرب دائمة للقضاء عليهم، وأن ذلك يتمثل في أجنحة الشر الثلاثة الصهيونية (يهود) والتبشير (نصارى) والعلمانية (إلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين في الخفاء مرة وفي العلن مرات، وأن هناك استنفارًا للقضاء علينا، مَلَلْنا من الوقوف أمامه دون فعل مناسب.
ثانيًا: وجوب الصدام مع ذلك العالَم حتى نرد العدوان والطغيان، وحتى ننتقم مما يحدث في العالم الإسلامي هنا وهناك، ووجود الصِّدام يأخذ صورتين؛ الأولى: قتل الكفار الملاعين، والثانية: قتل المرتدِّين الفاسقين، أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهِد الشهادتين. وأما المرتدُّون الفاسدون فهم من شهِد الشهادتين وحَكَم بغير ما أنزل الله، وخالف فكرهم.
ثالثًا: أن فكرهم يُراد له أن يكون من نمط الفكر الساري، وهذا معناه أنه لا يعمل من خلال منظَّمة أو مؤسَّسة يمكن تتبع خيوطها بقدْر ما يعمل باعتباره فكرًا طليقًا من كل قيد يقتنع به المتلقِّي له في أيِّ مكان، ثم يقوم بما يستطيعه من غير أوامر أو ارتباط بمركز أو قائد. وعليه فإنَّ الفوضى سوف تشيع بصورة أقوى وتنتشر بصورة أعمق). انتهى كلامه.
وقول المؤلِّف علي جمعة في الفقرة الأولى مردود؛ فهل تعامى عن الحقيقة الشرعية والواقعية، فالله عز وجل يخبرنا عن هذه العداوة قائلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة : 120]، ويقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة : 82]، ويقول: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة : 217]؟!
أمَّا الواقع فهو خير شاهد على هذه العداوة قديمًا وحديثًا، فالحروب الصليبية قديمًا، والاحتلال الأجنبي حديثًا، والمجازر التي ارتُكبت في البوسنة والهرسك وسراييفو وغيرها، وما يحدُث للمسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان والشيشان، وما يحصل في فلسطين، وموقف أمريكا والغرب من اليهود ومساندتهم لهم، هذا بالنسبة للعدو الخارجي، أمَّا التيار العلماني والليبرالي فموقفه من التيار الإسلامي واضح للعِيان لا ينكره إلَّا أعمى البصر والبصيرة.
ثم في الفقرة الثانية يقول: إنَّ السلفيين يرون وجوب الصدام مع ذلك العالَم بقتل الكفار وقتل المرتدِّين. وهذا الكلام إنما صاغه بهذه الصورة؛ ليشنِّع على السلفيِّين؛ فهل ينكر د. علي جمعة الجهاد؟! فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، ثم إن كان ينكر جهاد الطلب؛ فهل ينكر جهاد الدَّفع وحق المسلمين في الدفاع عن بلدانهم المحتلَّة؟! ثم إنه من المعلوم أنَّ الكفار أنواع؛ فمنهم محاربون، ومنهم أهل عهد، ومنهم أهل ذمَّة، ولكل واحد حُكمه، فتعميمه الكلام عن السلفيين في هذه المسألة بهذه الصورة غير مقبول، وفيه من التلبيس ما فيه.

أما المرتد فحُكمه القتل؛ قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن بدَّل دِينه، فاقتلوه))، ويقول الحافظ في ((الفتح)): (وقتَل أبو بكر في خلافته امرأةً ارتدت والصحابة متوافرون، فلم ينكر أحد عليه ...) اهـ. ومسألة الرِّدَّة والحُكم بغير ما أنزل الله فيها تفصيل معروف، والحكم فيها يتوقف على توفُّر الشروط وانتفاء الموانع، خلافًا لما يدَّعيه د. علي جمعة من أنهم يحكُمون بالردة على مخالفيهم.
ومن هرطقاته أيضًا في هذا الكتاب قوله: ((لقد أصبح توجه هؤلاء المتشدِّدين عائقًا حقيقيًّا لتقدم المسلمين، ولتجديد خطابهم الدِّيني، وللتنمية الشاملة التي يحتاجها العالم الإسلامي عامَّة، ومصر على صفة الخصوص، وهذا التوجه المتعصِّب أصبح تربة صالحة للفكر المتطرِّف، وأصلًا للمشرب المتشدد الذي يدعو إلى تشرذم المجتمع، وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة، وأن يعيش وحده في خياله الذي غالبًا ما يكون مريضًا غير قادر على التفاعل مع نفسه، أو مع من يحيط به من الناس. ويتميز هذا الفكر المتشدد بعدة خصائص تؤدِّي إلى ما ذكرنا، وترسم ذلك الموقف الذي يجب على الجميع الآن - خاصة - أن يقاوموه، وأن يعملوا بكل وسيلة على إخراج أولئك من عُزلتهم؛ لأنهم لم يعودوا ضارِّين لأنفسهم فقط، لكن ضررهم قد تعدَّى إلى من حولهم، وإلى شباب الأمة ومستقبلها، وإلى المجتمع بأَسْره. هذا الفكر يريد أن يسحب مسائل الماضي في حاضرنا، وذلك تراه قد حوَّل هذه المسائل إلى قضايا وإلى حدود فاصلة بينه وبين من حوله، وهذه القضايا يتعلق أغلبها بالعادات والتقاليد والأزياء والملابس والهيئات من طريقة الأكل والشرب، إلى قضاء الحاجة واستعمال العطور.
وتؤثر هذه الخصيصة التي يستجلب مسائل الماضي وتسحبها وتجرها إلى الحاضر من ناحية، وتحول مجرد المسألة التي كانت في نطاق الماضي لا تعدو مسألة إلى قضية ندافع عنها وننافح من أجلها، وتكون في عقليته معيارًا للتقويم وللقَبول والرد، فمَن فعلها فهو معه، ومَن لم يفعلها فهو ضده، يشمئز منه وينفر ويعاديه، ويعيش في هذا الوهم، فيشتد انعزاله عمن حوله. ... ويرى أنه لا بد عليه أن يَزيد من نسله، وأن يملأ الأرض صياحًا بأطفاله، محاولًا بذلك أن يسدَّ ثغرة اختلال الكمِّ، حيث إنه يشعر بأنه وحيد، وبأنه قلة، وبأن الكثرة الخبيثة من حوله سوف تقضي عليه وتكتم على أنفاسه، فيحاول أن يفرَّ من ذلك بزيادة النسل، بل ويشيع بين أتباعه وأصحابه هذا المفهوم الذي يحدث معه الانفجار السكاني والتخلُّف التنموي)). انتهى كلامه.
ود. علي جمعة أولى بهذا من السلفيين؛ فهو الذي يعيش في خياله بعيدًا عن الحقيقة، فالسلفيون ليسوا في عزلة عن الحياة، بل إنهم ينتمون إلى جميع التخصُّصات العلمية والمهنية، ولو ذكر لنا مثالًا على ما يذكر، ولكنه التعصُّب، نسأل الله السلامة والعافية .
وكأنَّ علي جمعة ما زال متأثرًا بهذه النَّعرة القديمة، والتي كان فيها بوقًا للحكومة المصريَّة السابقة بمحاربة زيادة النَّسل، بدلًا من الدعوة إلى التنمية، إنَّ الحد من زيادة نسل المسلمين هدفٌ للغرب يسعَون إليه بشتى الطرق، بينما يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((تزوَّجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة ))، بل إن كثرة الأمة نعمة يمتن الله عزَّ وجلَّ بها على عباده؛ قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف : 86].
ومن أقواله أيضًا: (ومن خصائص هذا الفكر الانعزالي التشدُّد؛ فهو يرى أن الحياة خطيئة، وأنه يجب علينا أن نتطهر منها، وأن التطهر منها يكون بالبُعد عن مفرداتها، سواء أكانت هذه المفردات هي الفنون أو الآداب، أو كانت هذه المفردات هي المشاركة الاجتماعية، أو حتى تعلم أساليب اللياقة)). انتهى.
ولا أدري عن أيِّ طائفة يتكلَّم د. علي جمعة؟! فالسلفيون في منأى عن هذا الوصف، وهو كلام عارٍ عن الصحة، بعيد عن الواقع، وما مراده بالفنون والآداب؟ هل الغناء والرقص والعُري؟ وهل يقصد بالمشاركة الاجتماعية مثل الاحتفال بعيد ميلاده في أحد أندية الليونز الماسونيَّة بين الممثِّلين والمغنين؟ إن كان يقصد ذلك فحُق للسلفيين أن ينعزلوا عن مثل هذه المشاركات.
ويقول أيضًا بعد أن يصفَهم بامتلاك عقلية المؤامرة لمن حوله ضده مع اتصافهم بالكِبر والعُجب: ((من هذه الصفات: أنهم يقفون ضد أي إصلاح في المجتمعات الإسلاميَّة بدعوى أنَّ كل جديد بدعة، وأنَّ كل بدعة ضلالة، وأنَّ كل ضلالة في النار، ويبتعدون دائمًا عن جوهر الموضوع إلى النظر في مجرد الشكليات، ويعملون الهوى في فهم النصوص، ويضيِّقون على المسلمين حياتهم بتوسيع دائرة الحرام، ويَخرجون عن النِّظام المعهود من إجلال المشايخ، إلى نظام غريب عجيب يجتهدون فيه من عند أنفسهم في الفقهيات، ويقلِّدون في العقائد، ويعظِّمون غير العلماء، ويحطُّون من شأن العلماء، ويتصدَّرون بما لا يزيد عن مئة مسألة لتفسيق الناس وتكفيرهم، والدعوة إلى منابذتهم ومحاربتهم. لقد آن الأوان وحان الوقت لأن يكون مقاومة هذا الفكر المتنطع مطلبًا قوميًّا)) اهـ.
ثم بعد أن يَفري هذا الكذب، يستعدي الناس على مقاومة فِكر السلفيِّين، فليته ذكر أمثلة لهذا الكلام الإنشائي الذي لا حقيقةَ له؛ فهل السلفيون يقفون ضد الإصلاح في المجتمعات الإسلامية بدعوى أنَّ كل جديد بدعة؟! إن منهج السلفيين واضح في مسألة البِدعة؛ فهي محصورة في مجال العبادات، وليس كما يدَّعي أنَّ كل جديد عندهم بدعة.
ثم يقول الدكتور علي جمعة تحت عنوان (أهم مسائل المتشدِّدين التي جعلوها أصولًا لهم وعنوانًا عليهم): ((لقد تمسَّك المتشدِّدون بمجموعة من المسائل التي لا تمثل هوية الأمة، وكلها مسائل فرعية، وجعلوها معيارًا لتصنيف المسلمين، وامتحانًا لتقسيمهم، ورُوِّج لدى طوائف كثيرة من الناس أنها قطعية لا خلاف فيها، وأنَّ الحقَّ معهم وحدهم، وأن القائل بغير ما يقولونه مارقٌ فاسق منحرِف، أو على أقل تقدير غير ملتزم ومتساهل، أو يتهم بأنه ليس متبعًا للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فشغلوا المسلمين بهذه المسائل، التي مذهبهم فيها غالبًا ما يكون ضعيفًا أو شاذًّا)) وذكر (17) مسألة فقط.
ولا يتَّسع المقام للردِّ على كلِّ مسألة من هذه المسائل، ونكتفي بتناول ثلاث مسائل فقط.
- المسألة الأولى: أنهم يصفون الله بالمكان، فيقول: (من الأشياء التي يصرُّ عليها من يسمُّون أنفسهم بالمتشدِّدين وصفُ الله بالجهة والمكان، ويزعمون إثبات الفوقية المكانية له سبحانه وتعالى. وهذا الإصرار منهم يتعارض مع ما ينبغي أن يكون عليه تنزيه الله سبحانه وتعالى). اهـ.
والجواب: أن د. علي جمعة يستدل في هذه المسألة العقدية المتعلقة بأسماء الله وصفاته بأثَر فيه زيادة، وهي: (وهو الآن على ما عليه كان)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه الزيادة وهو قوله: (وهو الآن على ما عليه كان) كذب مفترًى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتَّفق أهل العلم بالحديث على أنَّه موضوع مختلَق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة: بعض متأخري متكلمة الجهمية، فتلقَّاها منهم هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر التجهُّم - وهو التعطيل والإلحاد.اهـ، ووافقه على ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي.
إنَّ ادعاء علي جمعة أنَّ السلفيين أثبتوا لله المكان، قول باطل، لم يقله أحد منهم؛ لأنَّه لم يثبت في القرآن ولا في السنة، وإنما يثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفة العلو وغيرها. يقول الشيخ الألباني: إلا أنه مع ذلك لا ينبغي إطلاق لفظ الجهة والمكان ولا إثباتهما؛ لعدم ورودهما في الكتاب والسُّنة، فمن نسبهما إلى الله فهو مخطئ لفظًا، إن أراد بهما الإشارة إلى إثبات صفة العلو له تعالى، وإلا فهو مخطئ معنى أيضًا إن أراد حصره تعالى في مكان وجودي، أو تشبيهه تعالى بخلقه. (مختصر العلو ص72).
وقال الشيخ ابن العثيمين: الله ليس له مكان ما في المواقع...، الله منزه عن المكان باتفاق جميع العلماء الإسلام، لماذا؟ لأن الله كان ولا شيء معه، وهذا معروف في الحديث الذي رواه البخاري:((كان الله ولا شيء معه))، معناه: كان ولا مكان له؛ لأنه هو الغنيُّ عن العالمين، هذه حقيقة متفق عليها؛ (منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل، ص: 132-133).
- المسألة الثانية: أنهم أي السلفيين يحكُمون على والدي النبي بالنار. ونقول: سبحان الله! وهل هذا القول قاله السلفيون بأهوائهم أم قاله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟! ففي صحيح مسلم أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((استأذنت ربي أن أستغفرَ لأمِّي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزورَ قبرها، فأذن لي)، يقول النووي الشافعي: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة، وقبورهم بعدَ الوفاة... وفيه : النهي عن الاستغفار للكفَّار. انتهى. ويقول أيضًا في الحديث الآخر الذي فيه: ((أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلمَّا قفَى دعاه، قال : إنَّ أبي وأباك في النَّار)): فيه: أنَّ من مات على الكفر، فهو في النار، ولا تنفعه قرابةُ المقرَّبين. انتهى.
فالنووي يقول بكفر والدي النبي؛ فهل كان متشدِّدًا من وجهة نظر د. علي جمعة؟! وهل كان قوله شذوذًا؟! فهذا الحُكم لم ينفرد به السلفيون، بل لهم فيه سلف، كالبيهقي والخطابي، وابن تيمية وابن كثير، وابن حجر والسخاوي، وغيرهم، بالإضافة إلى أنَّ الأدلَّة الصحيحة تدعمهم.
- المسألة الثالثة: قوله: (أكثر المتشدِّدين يمنعون استعمال السبحة في الذكر ويرونها بدعة وضلالة)، ويلخِّص أحد أئمة السلفيين وهو شيخ الإسلام ابن تيمية حُكم السبحة قائلًا: والتسبيح بالمسابح؛ من الناس من كرهه، ومنهم مَن رخَّص فيه، لكن لم يقل أحد: إنَّ التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع وغيرها .ا.هـ. ويقول ابن عثيمين: التسبيح بالمسبحة ترْكه أولى، وليس ببدعة؛ لأنَّ له أصلًا، وهو تسبيح بعض الصحابة بالحصى، ولكن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أرشد إلى أن التسبيح بالأصابع أفضل، وقال للنِّساء: ((اعقدنَ بالأنامل؛ فإنهنَّ مستنطقاتٌ))، فالتسبيح بالمسبحة ليس حرامًا، ولا بدعة، لكن تركه أوْلى؛ لأنَّ الذي يسبِّح بالمسبحة ترَك الأولى. انتهى.
فهذان اثنان من كبار علماء السلفية في عصرين مختلفين، يذهبان إلى عدم بدعيتها، وهب أنَّ بعض العلماء انتهى إلى بدعيتها، فهذا اجتهادُه، وهو دائر بين الأجر والأجرين، طالما بذَل وُسعَه، واعتمد على أدلَّة شرعيَّة، فهو مأجور إن شاء الله، خلافًا لمن يفتي بهواه.
هذا ولا نطيل بذِكر باقي المسائل، والعجيب أنَّ علي جمعة لم ينسب هذه الأقوال إلى أحد بعينه، وإنَّما نسبها إلى السلفيِّين!

نسأل الله أن يَهدي ضالَّ المسلمين، وأن يوفِّقنا إلى ما يحبُّه ويرضاه.