مقالات وبحوث مميزة

 

 

في الأحداثِ عِبرةٌ – رُؤية مَنهجيَّةٌ

الشيخ الدكتور فالح بن محمد الصغير

13 ربيع الأول 1432هـ

 

 

حديثُنا اليومَ يَفرِضُه الواقعُ ليُقرأَ قراءةً تأمُّليَّةً، لاستنباطِ ما يُمكِنُ استنباطُه من تلك الأحداثِ التي قدَّرَها اللهُ -سبحانه وتعالى- علينا في هذه الأزمنةِ، وخاصَّةً مع تطوُّرِ عالَمِ الاتِّصالِ ليعيشَ الحدَثَ كُلُّ مَن يَحيا على وجهِ الكرةِ الأرضيَّةِ بيُسرٍ وسُهولةٍ؛ ممَّا جعلَ كثيرًا من المُعطَياتِ يأخُذُ حقَّه بوضوحٍ، فيستطيعُ المتأمِّلُ الوقوفَ عند بعضِها، فلعلَّ بارقةً تظهَرُ تُمثِّلُ مَعْلَمًا من معالمِ المسيرةِ في هذه الحياةِ على المستوياتِ كافَّةً.

 

ونظرةٌ سريعةٌ في واقعِ العالَمِ العربيِّ والإسلاميِّ؛ نجِدُ أحداثًا مُتسارعةً ومُتلاحقةً، فعلى سبيلِ المثالِ:- الوضعُ في تونُسَ وما آلَ إليه وضعُ الحاكمِ والشعبِ، وكذا الوضعُ في السودانِ، وما جرى من استفتاءٍ في الجنوبِ نحوَ الانفصالِ، وقبلَه وبعدَه المنازَعاتُ في دارفورَ، وكذلك الوضعُ في مصرَ وما آلَ إليه الآنَ، ولا يَخفى وضعُ الصومالِ وما فيه من تَناحُرِ الطوائفِ والقبائلِ وغيرِها. أمَّا العراقُ وأفغانستانُ فما زالت الأرضُ مُحتقِنةً لا يَعلَمُ مدى احتقانِها إلَّا اللهُ سبحانه، وثَمَّةَ أحداثٌ تُمثِّلُ قَلاقلَ من هنا وهناك، كأحداثِ الإرهابِ المُتكرِّرةِ في مناطقَ مختلِفةٍ، ونالت بلادُنا نصيبًا منها، والنزاعاتُ في لُبنانَ، وتدخُّلِ قُوًى وأطرافٍ أُخرى في الشأنِ اللُّبنانيِّ، ناهيكَ عن المواقفِ الطائفيةِ بمَنازعِها المبدئيَّةِ والسياسيَّةِ، وحدِّثْ بمِلءِ فيكَ عن الأزَماتِ الاقتصاديَّةِ، وما آلتْ إليه، وخاصَّةً في البُلدانِ مُتوسطةِ الدَّخلِ، تلك التي أوجعَتْها هذه الأزَماتُ. أمَّا المُشكِلاتُ الاجتماعيَّةُ المتنوعةُ، والتي تُشكِّلُ أزَماتٍ مُجتمعيَّةً مُتتابِعةً، فأخذَتْ أشكالًا أكثرَ بُروزًا مع تعمُّقِ الأحداثِ السياسيةِ والاقتصاديةِ.

 

في ظِلِّ هذه الأحداثِ تَبرُزُ أسئلةٌ للمتأمِّلينَ، أسئلةٌ مَنهجيَّةٌ، وأسئلةٌ في قضايا جُزئيَّةٍ، أسئلةٌ في المواقفِ، وأسئلةٌ تَنحو مَنْحى البحثِ عن العلاجِ.

 

ما سببُ هذه الأحداثِ؟ ما أبعادُها؟ ومَن المُحرِّكُ لها؟ وهل هي عَفْويَّةٌ أو خُطِّطَ لها؟ ومَن المسؤولُ؟ وما موقفُ الأفرادِ والمُؤسَّساتِ المدنيَّةِ والدولِ؟... إلخ.

 

وترِدُ افتراضاتٌ وحَتميَّاتٌ، واستنتاجاتٌ، قد تكونُ في دائرةِ (اللامعقولِ) في النظرةِ الأوَّليَّةِ عند المُتلقِّي.

وفي كلِّ الأحداثِ يَذهَبُ ضحايا، ويَعلو أشخاصٌ، وتَبرُزُ مُشكِلاتٌ ويدخُلُ المُحلِّلونَ في دوَّامةٍ أُخرى، وهكذا دَوالَيْكَ.

لستُ أزعُمُ أنَّ لديَّ إجابةً على هذه الأُطروحاتِ، فهي تحتاجُ إلى مراكزَ عِلميَّةٍ، وبُيوتِ خِبرةٍ، تَحمِلُ أفُقًا واسعًا، ونظرةً شُموليَّةً وتَنويعًا في التخصُّصِ، وعُمقًا في ربطِ الأحداثِ، وقُدرةً على الاستيعابِ، وتَأنِّيًا في المعالجةِ، وهذا بلا شكٍّ يَنفي النظْرةَ الفرديَّةَ، ويطرُدُ الانفعالَ تِجاهَ حدَثٍ ما، ويَكبَحُ جِماحَ الاستعجالِ، ويُبعِدُ النَّزعةَ تِجاهَ العُموميَّةِ في الطرحِ لمُجرَّدِ الاستباقِ، وهذا لا يعني: الإهمالَ، وعدَمَ المشاركةِ، والمناقشةِ والتأمُّلِ، وطرحِ الأفكارِ الهادفةِ إلى الإثراءِ...

 

أظنُّ أنَّها مُعادَلاتٌ صعبةٌ بصعوبةِ تلك المواقفِ، ولكنَّها بتلك النظرةِ الشُّموليَّةِ الواسعةِ المُتأنِّيةِ المُتعمِّقةِ من تلك المراكزِ والبيوتِ تَتجلَّى، والمهِمُّ: أنْ تتجلَّى فيها المواقفُ السِّلميَّةُ والرُّؤى المقارِبةُ الصوابَ، وبهذا يُتحرَّى النجاةَ، وتُتجاوَزُ الصِّعابَ.

من هنا أطرَحُ هذه التأملاتِ؛ فلعلَّها تصُبُّ في دائرةِ المشاركةِ الإيجابيَّةِ. وذلك من خلالِ الاستنتاجاتِ الآتيةِ:

 

أوَّلُها: أظنُّ أنَّ من الخيرِ أنْ نُجدِّدَ ما نَتيقَّنُه ونَعتقِدُه من أنَّ مُدبِّرَ هذا الكونِ هو اللهُ -سُبحانه وتعالى- وبيَدِه مقاديرُ كلِّ شيءٍ، يقولُ تعالى نفسُه جَلَّ وعَلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: (يَعلَمُ دَبيبَ النَّملةِ السَّوداءِ على الصَّخرةِ الصَّمَّاءِ في الليلةِ الظَّلماءِ), فما من حدَثٍ يقَعُ إلَّا وقد قدَّرَه سُبحانه وتَعالى، ولا يَرفَعُه إلَّا هو سُبحانه وتَعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].

وهذا يفرِضُ علينا:

1- الإيمانَ بذلك لنَربِطَ الأحداثَ بالخالقِ جلَّ وعَلا.

2- أنَّ ما يُتلمَّسُ ما هو إلَّا أسبابٌ يُتحرَّى فيها الصوابُ للخروجِ من المآزِقِ.

3- أنَّ هذه الأحداثَ تقَعُ لأغراضٍ:

إمَّا ابتلاءً، وإمَّا عقوبةً، وإمَّا إبدالًا لقومٍ بدَلَ قومٍ، وإمَّا انتقالًا لمرحلةٍ تاريخيَّةٍ مُعيَّنةٍ، والأدلَّةُ على ذلك أكثَرُ من أنْ تُحصَرَ.

4- أنَّ الكونَ مُتحرِّكٌ، وتكونُ حركتُه إيجابيَّةً إذا اقْتَفى الناسُ السُّنَنَ الشرعيةَ والسُّنَنَ الكونيَّةَ والقدَريَّةَ التي وضعَها اللهُ سُبحانه.

5- أنْ نَتلمَّسَ الوقوفَ مع المواقفِ الإيجابيَّةِ، وهذا لا يكونُ إلَّا وَفقَ هذه السُّننِ.

6- أنَّ حركةَ الناسِ لا تكونُ إيجابيةً مُثمرةً إذا خالفَت مَنهجَ اللهِ سُبحانه في هذه الأرضِ، وإنْ أمهَلَهم فترةً من الزمنِ ليَبقى وقتٌ للمُراجعةِ فيَستدرِكونَ أمرَهم.

7- أنْ نعلَمَ أنَّ تلك الأقدارَ لا تَعني -في منهجِ اللهِ تعالى- السلبيَّةَ والابتعادَ والتنحيَ في زوايا ينوحُ فيها الأفرادُ، والمؤسساتُ على أنفُسِهم، بل تفرِضُ الإيجابيَّةَ في التفكيرِ، والتخطيطِ، والمشارَكةِ، والعمَلِ؛ ولذلك جعَلَ اللهُ سُبحانه وتعالى عِمارةَ الكَونِ غايةً من الغاياتِ التي خُلِقَ الإنسانُ من أجلِها: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].

8 – إدراكَ أنَّ هذه الابتلاءاتِ أو العُقوباتِ، أو التغييرَ أيًّا كانت حِكمةُ وقوعِها تتطلَّبُ الرجوعَ الصادقَ إلى اللهِ تعالى، أفرادًا أو مؤسَّساتٍ ودُولًا، هذا الرُّجوعُ الذي يتمثَّلُ بتجديدِ الاعتقادِ به سُبحانه، والعملِ بشَرعِه في جميع مَناحي الحياةِ، والتواصي بذلك، والتعاوُنِ عليه، وإدراكِ أنَّ السلامةَ والنجاةَ والرُّقِيَّ والتقدُّمَ، مرهونٌ بتنفيذِ أوامرِ اللهِ جلَّ وعَلا، والانتهاءِ عن نواهيهِ، والوقوفِ عند حُدودِه، فمن المعلومِ أنَّ حركةَ الكونِ إيجابًا وسلبًا مرهونةٌ بحركةِ الإنسانِ، وكلُّها بتقديرِ اللهِ جلَّ وعَلا، والدَّلالةُ على ذلك صريحةٌ وواضحةٌ في كتابِ اللهِ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96 - 99].

وإدراكُنا أنَّ هذه الأحداثَ هي مُنذِرٌ واضحٌ من الفَقهِ الحيِّ الذي يجِبُ أنْ يَسودَ ثَقافتَنا وتعامُلَنا؛ لئلَّا تزِلَّ الألسنُ، وتنزَلِقَ الأقدامُ.

لعلَّ تلك مُنطلَقاتٌ يُمكِنُ إبرازُها لاستدعاءِ المواقفِ الصائبةِ؛ لئلَّا نَغرَقَ في النظَراتِ البشريَّةِ البحتةِ القاصرةِ فننحرِفَ أو نَضِلَّ.

 

الثاني: هذه الأحداثُ ليسَتْ بِدْعًا في التاريخِ القديمِ والحديثِ، فقد مرَّ مثلُها وأشَدُّ وأخفُّ؛ ولذا كما نَستَدعي عندَ دراستِنا لتلك الأحداثِ الكُبرى الأدلَّةَ الشرعيةَ، والسُّننَ الإلهيةَ، نَستَدعي أيضًا المواقفَ التاريخيةَ، فلا يَبقى سردٌ للتغنِّي به وأمجادِه، أو النوحُ وضربُ الخدودِ والصُّدورِ لموتِ فلانٍ أو عِلَّانٍ، أو لمرورِ مرحلةٍ تاريخيةٍ صعبةٍ. أزعُمُ أنَّ هذا من أوجَبِ ما يُمكِنُ استدعاؤُه على تلك المراكزِ العِلميَّةِ، وبيوتِ الخِبرةِ، بل على المفكِّرينَ والعُقلاءِ الذين يَحترِمونَ كلِمتَهم، ويُقدِّرونَ آراءَهم قبلَ غيرِهم.

ولماذا يكونُ كذلك؟ لأنَّ سُنَنَ اللهِ تعالى في الكونِ واحدةٌ لا تتغيَّرُ، وإنَّما الذي يتغيَّرُ الحدَثُ نفسُه، وإنْ كانت الحقيقةُ مُتقارِبةً.

فما مرَّ من أحداثٍ في تونُسَ -مثلًا- فقد سبَقَ مِثلُه في التاريخِ القريبِ والبعيدِ.

هذا يَفرِضُ ألَّا يقَعَ الشعبُ التونسيُّ فيما وقَعَ فيه غيرُه من الشعوبِ، فيَستغلُّه المُتربِّصونَ، فعادت لتبدأَ من الصِّفرِ، وهذا يَستدعي من عُقَلاءِ البلَدِ وحُكَمائِه أنْ يَتأمَّلوا ذلك جيدًا.

وما يَجري في السودانِ فقد سبَقَ مِثلُه في التاريخِ القريبِ من تقسيمِ الشامِ، وهذا يُحتِّمُ على عقلاءِ السودانِ وأهلِ الحَلِّ والعَقدِ فيه أنْ يَتأمَّلوا الموقِفَ ومآلاتِه.

وما يَنشَطُ من طوائفَ من هنا وهناك فقد نشِطَت مَثيلاتُها، فدراسةُ عواملِ ذلك وَفقَ تلك السُّنَنِ تفرِضُ على العقلاءِ الوعيَ التامَّ، وعدَمَ التساهلِ والتغاضي، وما تَنتشِرُ من أفكارٍ مخالفةٍ للدِّينِ -وإنْ حاولَ أصحابُها أن يَلبَسوها لِباسَه- فهُم أولُ مَن يُدرِكُ أنَّ الآخَرينَ يَعلَمونَ مَنهجَهم وطريقةَ تفكيرِهم، وكثيرًا من سلوكيَّاتِهم، أقولُ في التاريخِ القريبِ مرَّ مِثلُ ذلك، وما فكرةُ القوميةِ العربيةِ عنا ببعيدٍ، ولم تُفلِحْ في إنقاذِ الأمَّةِ العربيَّةِ. وقُلْ مِثلَ ذلك في المُشكِلاتِ الاقتصاديةِ والتَّربويةِ والاجتماعيَّةِ.

وهَمسةٌ هنا لأهلِ الدعوةِ أنْ يَعوا جيدًا هذا المُنطلَقَ، فالمسألةُ ليسَتْ عواطفَ, ولا مواقفَ للتسابُقِ، ولا أمجادًا شخصيةً، أو تشبُّعًا بما لم يُعطَ. فالمرحلةُ ليست كسابقتِها، وفي التاريخِ عِبرةٌ. (فليُتأمَّلْ).

 

الثالثُ: يَجتمِعُ في تلك الأحداثِ الأقدارُ الكونيَّةُ، والأقدارُ الشرعيةُ، وللإسلامِ منهجٌ في التعاملِ معهما، يجمَعُها الإيمانُ بما وقَعَ، ومن ثَمَّ حُسنُ التعاملِ معها وَفقَ المنهجِ الشرعيِّ، وما تَقتَضيه قواعدُ المصالحِ والمفاسدِ، من منظورِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ والعقلاءِ والحكماءِ وأهلِ التخصُّصِ والخبرةِ.

 

ولعلَّ ممَّا يندرِجُ في ذلك:

عدَمَ تفسيرِ الظواهرِ بالمِنظارِ الأوَّليِّ، وإنْ كان يَتوافقُ مع العواطفِ أو الرَّغَباتِ الكامنةِ في النفوسِ، فلا شكَّ أنَّ مثلَ هذه الأحداثِ بقدَرِ اللهِ تعالى، لكنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- علَّمَنا الربطَ بين الأسبابِ ومُسبِّباتِها، وممَّا يؤكِّدُ ذلك قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وعليه فلن تتغيَّرَ المُجتمَعاتُ إلى الأحسنِ، أو تَرقى رُقيًّا يَطغى على المصالحِ الذاتيَّةِ والحزبيةِ, ما لم يتغيَّر الناسُ نحوَ التعامُلِ مع سُنَنِ اللهِ الشرعيةِ، فاللهُ -جلَّ وعَلا- أمرَ بعبادتِه، وبحُسنِ الاعتقادِ تِجاهَه، وبمكارمِ الأخلاقِ، وضرورةِ التعاملِ الاقتصاديِّ وَفقَ شَرعِه، ومعالجةِ المُشكِلاتِ الاجتماعيةِ من منظورِ الكتابِ والسُّنَّةِ، والمناهجِ التربويةِ من مُنطلَقِ مُفرَداتِ التأصيلِ الشرعيِّ.. أزعُمُ أنَّه إذا لم يتغيَّرِ الناسُ وَفقَ هذه السُّنَنِ لن تتبدَّلَ أحوالُهم نحوَ الأصلحِ والأمثَلِ لمُجرَّدِ ذَهابِ شخصٍ وإتيانِ آخَرَ، وإنْ تغنَّى مَن تغنَّى بذلك.

وفي الوقتِ نفسِه ما لم تتَّجِهِ الأنظمةُ نحوَ القِيَمِ العُليا والعدلِ وإعطاءِ الحقوقِ وتجنُّبِ الظلمِ والاعتداءِ على حقوقِ الناسِ وأموالِهم، والنظَرِ إلى المصالحِ العُليا على حسابِ المصالحِ الخاصَّةِ والذاتيَّةِ والفرديةِ والحِزبيةِ.

ما لم يكُنْ كذلك فالمعادَلةُ واحدةٌ، والنتيجةُ واحدةٌ، من استمرارِ السلبياتِ وتفاقُمِ المشكلاتِ.

 

الرابعُ: هذه الأحداثُ تُجلِّي عِظَمَ المسؤوليةِ على أهلِها، واستجلابَ النصوصِ المُعظِّمةِ لذلك، وكُلَّما كبُرَت الأعمالُ زادَت المسؤوليةُ، فلنتأمَّلْ قولَه تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. وقولَه عليه الصلاةُ والسلامُ: (كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مَسؤولٌ عن رَعيَّتِه)، وغيرَها من النصوصِ.

هذا يُحتِّمُ على أهلِ المسؤولياتِ استشعارَ عِظَمِ المسؤوليةِ، وما تَقتَضيه هذه المسؤوليةُ من أعمالٍ يجِبُ أنْ يَقوموا بها، ابتداءً بمسؤوليةِ الفردِ عن نفسِه، وانتهاءً بمسؤولياتِ الوُلاةِ والعلماءِ؛ لأنَّها أعظَمُ المسؤولياتِ.

في هذا الشُّعورِ -أعني الشعورَ بالمسؤوليةِ- تتولَّدُ القِيَمُ العُليا السابقةُ، ومن أعظَمِها: شِدَّةُ الحرصِ على هذه القيمِ، وإيجادُ السبُلِ للقيامِ بها، وإحياؤُها في النفوسِ، وتمثُّلُها في الواقعِ، فالحاكمُ، والوزيرُ، والمديرُ، والعالِمُ، والقاضي، والموظَّفُ، والمؤتمَنُ على الأموالِ، والداعيةُ، والمُعلمُ، وربُّ الأسرةِ؛ (كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعيَّتِه).

 

إنَّ واقعَ كثيرٍ من هؤلاء لا يتعدَّى نظَرَه لهذه الأحداثِ، سِوى علاماتِ التعجُّبِ والاستغرابِ لمَا يقَعُ خلافَ السِّياقِ عندَ غيرِه في الظاهرِ.. لكنْ أنْ ننتقِلَ إلى سلوكٍ واضحٍ بعد تقويمٍ عَمليٍّ، فهذا قد لا يدخُلُ دائرةَ تفكيرِه..

فإذا أرَدْنا العِبرةَ الحقَّةَ فلْينتقِلِ السياقُ إلى التصوُّرِ الصحيحِ، والعمَلِ السليمِ المبنيِّ على الشعورِ بالمسؤوليةِ، ولنا في رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسوةٌ حسَنةٌ في مسيرةِ دَعوتِه كلِّها. ابتداءً من وصفِه بالأمينِ قبلَ البَعثةِ إلى أنْ أشهَدَ الناسَ في حَجَّةِ الوداعِ على قيامِه بالتبليغِ.. ولكلٍّ من هؤلاء وأولئك مجالٌ عظيمٌ في سيرتِه لتلقِّي ما يَعنيه. وهذا يُحتِّمُ على كلِّ مسؤولٍ -أيًّا كان نوعُ المسؤوليةِ- القيامَ بها بمُقتَضى الأمانةِ وعِظَمِها، ومن هنا تُسَدُّ كلُّ ثَغرةٍ يُمكِنُ أنْ يلِجَ منها كلُّ مُفسِدٍ ومُخرِّبٍ، وعدوٍّ مُتربِّصٍ، وحاسدٍ وحاقدٍ، كما يُسَدُّ فيها بابُ الظلمِ والتعدِّي، والتجاوُزِ.

 

الخامسُ: أظُّنُه لم يعُدْ خافيًا أنَّ للأعداءِ أياديَ مُتنوِّعةً تهدف إلى العبَثِ في ديارِ المُسلِمينَ، مُستهدِفةً ما يَجعَلُها في المَرتباتِ المُتأخِّرةِ، والتابعةِ لغيرِها سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وتربويًّا، كما تكونُ بحاجةٍ مُستمرةٍ لهؤلاء الأعداءِ, وعالةً عليهم حتى في أدقِّ حاجِياتِهم من المآكلِ والمشاربِ، والألبسةِ, والمراكبِ.. إلخ.

 

وهذا يُحتِّمُ علينا -في جميعِ المستوياتِ- أُمورًا منها:

1- تجديدُ الوعيِ بما ذكَرَه اللهُ -سُبحانه وتَعالى- من عداوةِ الشَّيطانِ لبني آدَمَ, والعملِ الجادِّ لمحاربتِه.

2- تجديدُ الوعيِ بما ذكَرَه اللهُ -سبحانه وتعالى- من تربُّصِ أعداءِ الإسلامِ والمسلِمينَ بالمسلِمينَ، وإنْ بدَتْ نواجِذُهم بالضَّحِكِ، ويَتبَعُ ذلك دراسةُ أحوالِهم وخُططِهم وحِيَلِهم ضدَّ الإسلامِ وأهلِه وديارِه.

3- إعادةُ النظَرِ في مناهجِنا الحياتيَّةِ وسائرِ أحوالِنا المختلِفةِ وترتيبِ الأوْلَويَّاتِ للقَضايا والأعمالِ على مُستوى الأفْرادِ والمؤَسَّساتِ.

4- وهذا لا يَعني عدمَ التعامُلِ معَ الأعداءِ، بلْ يَجِبُ أنْ يُتعامَلَ معَهم وَفقَ المنهجِ الشرعيِّ القائمِ على الحُسْنى، لكنَّ هذه الحُسْنى تَفرِضُ ذلك الوعيَ المَنشودَ.

5- تَركُ المناقَشاتِ والمُماحَكاتِ التي لا تُؤدِّي إلى نتائجَ إيجابيَّةٍ مثْلِ (قضيةِ المؤامرةِ)  إقرارًا لها، أو نَفْيًا لها، فالإقرارُ المُطلَقُ لكُلِّ شيءٍ مَرفوضٌ عَقيدةً، والنفيُ المطلَقُ مِثْلُه، ويَبْقى حُسنُ الوْعيِ للأُمورِ العَمليَّةِ، هكذا أحسَبُ كما جاءَ في تَعاليمِ القُرْآنِ الكَريمِ.

6- تَربيةُ الأمَّةِ -من أهْلِ التربيةِ كلٌّ فيما يخُصُّه- على حقائقِ القرآنِ الكريمِ الخاصَّةِ بالتعامُلِ معَ الآخَرينَ، أيًّا كانوا، لنُدرِكَ تلك القِيَمَ العُلْيا التي تَحفَظُ الأُمَّةَ من الشرورِ والآثامِ، وتَسُدُّ الثَّغَراتِ التي يَنفُذُ منها الأعداءُ والحُسَّادُ، كما تَحفَظُها من الاستعجالِ، ورُدودِ الأفْعالِ، واقْترافِ المُحرَّماتِ والمُنْكَراتِ.

 

السادسُ: لا شَكَّ أنَّ مبْدأَ الإصلاحِ مبْدأٌ إسلاميٌّ مُنطلِقٌ من القُرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ النبويَّةِ، بل إنَّه مُهِمَّةُ الأنْبياءِ والمُرسَلينَ، ومن ذلك: إصلاحُ الأفْرادِ -أيًّا كانت مواقِعُهم وأحْوالُهم– والمؤسَّساتِ، والوِزاراتِ، لكنْ ممَّا يَنْبَغي تَذكُّرُه هُنا:

1- أنَّ للإصلاحِ مَنهجًا يقومُ عليه، ذَكَره اللهُ في القرآنِ الكريمِ وفصَّلَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في السُّنَّةِ النبويَّةِ، وطبَّقَه عَمليًّا عليه الصلاةُ والسلامُ في سِيرتِه, وكتَبَ فيه الأئمةُ والعُلَماءُ كتاباتٍ مُستفيضةً قديمًا وحديثًا، وعليه يَنْبَغي، بل يَتأكَّدُ على أهلِ العلمِ إبرازُ ذلك المنهجِ بوضوحٍ، وله تَفْصيلاتٌ ليس هذا مَقامُها فهو العاصِمُ بإذنِ اللهِ من الزَّلَلِ والانحرافِ والغُلُوِّ والشَّطَطِ.

2- من أهمِّ المُهمَّاتِ في الإصْلاحِ وُضوحُ الغايةِ والهدفِ، فلا تَكْفي الشِّعاراتُ البرَّاقةُ ولا العُموماتُ، ولا الدَّعاوى غيرُ الواقعيَّةِ، وهذا الوضوحُ يَنْفي الفَرديَّةَ والأَنانيَّةَ، والمصالحَ الذاتيَّةَ، والارْتِقاءَ على كتِفِ الإصلاحِ إلى مآربَ أُخْرى، والغايةُ حدَّدَها اللهُ سُبحانه بـ (البلاغِ) وبيَّنَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَجَّةِ الوداعِ (اللهمَّ هل بلغْتُ؟ فاشهَدْ).

3- حُسنُ الغايةِ لا يُبرِّرُ الوسيلةَ، وهذه قاعدةٌ راسخةٌ من أعظمِ القواعدِ في الإصْلاحِ، تَعْني أنَّه لا يجوزُ الوصولُ إلى الغايةِ الشريفةِ بوسائلَ مُحرَّمةٍ مَهْما كان حُسنُ الغايةِ وشَرفُها وعِظَمُها، وبذلك يجبُ تحكيمُ الشرعِ في هذه الوسائلِ.

ومن ذلك: الانتحارُ وحرقُ الأجسادِ والأنفُسِ، والتعدَّي على المُمتلَكاتِ، والتخريبُ والدمارُ، ولقد مرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه من الضِّيقِ والشِّدَّةِ والكَرْبِ في مكَّةَ وفي المدينةِ ما لم يمُرَّ مِثلُه على كَثيرينَ ممَّا لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ تَعالى، لكنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ لم يَتجاوَزِ المشروعَ إلى الممنوعِ، بلْ رسَمَ مَنهجًا، يجِبُ أنْ يَقتفِيَه أهلُ الإصْلاحِ عُنوانُه (العملُ والصبرُ) مَهْما كانت الأحوالُ، ومَهْما بلغَت من الضيقِ والشدةِ. وبلا شكٍّ أنَّ هذا المنهجَ يَنفي رُدودَ الأفْعالِ السَّلبيَّةَ، والعواطفَ غيرَ المُرشدةِ، كما يَنْفي الجُمودَ وعدمَ التحرُّكِ للإصْلاحِ، والقُعودَ، والكسَلَ.

4- ولكيْ يبلُغَ الإصلاحُ المَبلغَ المطلوبَ ويوصِّلُ إلى غايتِه يجبُ أنْ يُتمسَّكَ بآدابِه حتى لا يَنفرِطَ الزِّمامُ، وتتَّسِعَ الفجَواتُ لدخولِ الأعداءِ والمُتربِّصينَ.

وتلكَ -وايمُ اللهِ- مُهمةٌ عظيمةٌ -أعْني مُهمَّةَ المُصلِحينَ- لكنْ لا يَبلُغُ شَرفُها إلَّا منِ اتَّسَمَ بتلك الآدابِ، وأخلَصَ فيها القَصدَ، وتحرَّرَ من الذاتيَّةِ والحِزبيَّةِ.

 

السابعُ: الظلمُ عاقبتُه وخيمةٌ، والظلمُ ظُلُماتٌ، ونَتيجتُه حَتْميَّةٌ في الدُّنيا والآخرةِ، تأمَّلوا قولَه تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]، وقولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (واتَّقِ دَعوْةَ المظلومِ، فإنَّ دعوتَه مُسْتجابةٌ)، وقولَه أيضًا: (الظُّلمُ ظُلُماتٌ).

وعندَ التأمُّلِ في بعضِ ما جَرى من أحداثٍ نَجِدُه نَتيجةً للظُّلمِ، فالدوائرُ تَدورُ على الظالِمينَ ولو بعدَ حينٍ. ومن هنا يَتحتَّمُ العمَلُ بتحرِّي العدلِ في كلِّ شيءٍ حتى على مُستوى الأسرةِ الصغيرةِ، فكثيرٌ من الانحرافِ والبَغْيِ والعُدوانِ والقَتلِ والتدميرِ سببُه الظلمُ.

وبالظُّلمِ يحصُلُ كثيرٌ من الآفاتِ المُجتمعيَّةِ، والأمراضِ الفتَّاكةِ والجوعِ والبَطالةِ، والقَهْرِ، ومن ثَمَّ السرقةُ، والمُخدِّراتُ، والاعتداءُ على الأعراضِ، وسلبُ الأموالِ، كلُّها نتائجُ مُؤهِّلةٌ للظلمِ. وهذا يَستوجِبُ الوعيَ بذلك في مُختلِفِ الأحوالِ، لكيْ يَبتعدَ الجميعُ عن الظلمِ، ليس في الأموالِ فحَسْبُ، وإنَّما في سائرِ الحقوقِ.

ولا شكَّ أنَّ ضِدَّ الظلمِ: العدلُ، وهو المنشودُ في كلِّ مَسؤوليةٍ.

 

الثامنُ: في مِثْلِ هذه الأحوالِ التي تَدورُ بين اليأْسِ -كما في حالِ العراقِ، والصومالِ، والسودانِ (الآنَ) ولُبنانَ- وبين التطلُّعِ إلى الأفضَلِ كما يراهُ البعضُ في حالِ تونُسَ، يرِدُ سؤالٌ وهو: إنَّنا نُردِّدُ وجوبَ الاتحادِ بينَ الدولِ، وتوحيدَ الكلمةِ، فنُلقي باللائمةِ والواجبِ إمَّا على الدولِ، وإمَّا على المجتمَعاتِ، وإمَّا على الحُكَّامِ.. وهكذا دَوالَيْكَ، لكنْ ما الواجبُ على الفردِ المسلمِ في سائرِ المجتمَعاتِ؟ وهو سؤالٌ في غايةِ الأهميَّةِ يَنْحو فيه المُجيبونَ مَناحيَ عِدَّةً منها: العَوْدةُ إلى الإجابةِ العُموميَّةِ، وهنا يَبْقى الإشكالُ نَفسُه، ومنها: الانتقالُ إلى عموميَّةٍ أُخرى كالإتيانِ ببعضِ البِشاراتِ العامَّةِ، وطلَبِ الفأْلِ دونَ تَفقيطٍ عَمليٍّ.

ومنها: اليأسُ والقُنوطُ أنَّه لا مَخلَصَ أبدًا، ومن ثَمَّ القعودُ والكسلُ وعدمُ العمَلِ. ومنها: أنَّ هذه الأحداثَ لا تخُصُّ الأفرادَ مُطلقًا، بل هي واجبٌ على الحُكوماتِ، ومِن ثَمَّ يَقعُ الفردُ في توتُّرٍ مُستَمرٍّ، ويَتواصَلُ التوتُّرُ إلى الأسرةِ والشارعِ، ويقَعُ ما يقَعُ من المفاسدِ العُظمَى..

ومنها: الإجابةُ بدَوْرِ الفردِ إلى أنْ يَحمِلَ ما لا يُحتمَلُ فيُباشِرَ التغييرَ العامَّ، فيقَعَ فريسةً للأحزابِ والمُنظَّماتِ والمتربِّصينَ، ونَتيجةُ ذلك: القتلُ والتدميرُ والرجوعُ إلى الوراءِ، ولذلك أرى أنَّه يَتحتَّمُ على العلماءِ، والعقلاءِ، وأهلِ الرأيِ، والفكرِ، والدعوةِ أنْ يُفقِّطوا دوْرَ الفردِ بشفافيَّةٍ ووُضوحٍ، ويوصِّلوه إلى الأفْرادِ لئلَّا تزِلَّ قدَمٌ بعد ثُبوتِها، وأُشاركُ هنا في ذكرِ النقاطِ الآتيةِ:

 

1- أنَّ من دوْرِ الفردِ: الإعدادَ العلميَّ والتربويَّ له، ولمَنْ تحتَ يدِه، كُلٌّ بحسَبِه.

2- الشعورُ بكلِّ قضيةٍ بحسَبِها، فليست كلُّ القضايا في ميزانٍ واحدٍ، فقضيةُ السودانِ ليست كقضيةِ لُبنانَ، والصومالُ غيرُ مصرَ، وأحوالُ السياسةِ غيرُ الاقتصادِ، وهكذا، فيَنْبغي أخذُ كلِّ قضيةٍ بمُعطَياتِها، ومعرفةُ ما هو المشترَكُ بينها، وغيرِ المشترَكِ.

3- الدُّعاءُ لكلِّ المُسلِمينَ حُكَّامِهم، وعُلمائِهم، ومُفكِّريهم، وقادتِهم، وهو من أهمِّ الواجباتِ الفرديَّةِ والجماعيَّةِ، وهذا مُنطلِقٌ من معرفةِ أنَّ هذا الكونَ بقَدَرِ اللهِ، ولا يرُدُّ القضاءَ إلَّا الدعاءُ، كما ثبَتَ ذلك في الحديثِ الصحيحِ.

4- عدمُ قياسِ مُجتمعِكَ على أيِّ مجتمَعٍ آخَرَ، فلكُلٍّ ظُروفُه وأحوالُه التي تجعَلُ النظَرَ والأحكامَ مختلِفةً، فتَستوجِبُ الرجوعَ إلى علماءِ البلدِ وعُقلائِه وحُكمائِه ليرسُموا المِنهاجَ العَمليَّ لأهلِه.

5- عدمُ الوِصايةِ على الآخَرينَ، فممَّا يُسمَعُ ويُقرَأُ أنَّه على أهلِ البلَدِ الفُلانيِّ أنْ يَعمَلوا كذا وكذا، مثلَ دُخولِهم في حكومةِ فلانٍ، أو عدمِ دُخولِهم، أو مُناهضتِهم لهم أو عدمِ ذلك.. وهكذا مَّما يُربِّي في النفوسِ الاحتقانَ والتوتُّرَ والفُرقةَ والتناحُرَ.. وربما يكونُ لبعضِ الأفرادِ صلةٌ معيَّنةٌ مع مَن يوجَدُ في تلك البُلدانِ، فيصلُ إلى أنْ يُملِيَ عليه.. وهذا من الآفاتِ للفُرقةِ، ولعلَّ بديلَ ذلك إرجاعُ أيِّ أمرٍ إلى علماءِ البلدِ نَفسِه وحُكمائِه وأهلِ الحَلِّ والعقدِ فيه، لئلَّا تتسِعَ دائرةُ المُشكلاتِ فتصعُبَ الحلولُ، وأزعُمُ أنَّ هذا ممَّا أسهَمَ في تعقيدِ مُشكلةِ العراقِ وأفغانستانِ والصومالِ وغيرِها.

6- الإسهامُ بما يُطلَبُ من الفردِ، فعند طلَبِ المساعدةِ الماديَّةِ، أو الفِكريَّةِ، أو الرأيِ، أو غيرِها يُسهِم بما يستطيعُ من خلالِ القنَواتِ الواضحةِ.

7-التأكيدُ على أنَّ الواجباتِ مُتفاوتةٌ، فهناك واجبٌ وأوجَبُ، وواجبٌ ومُستحَبٌّ، وما يُسمَّى اليومَ (فِقهَ الأولويَّاتِ)، فيتنبَّهُ الفردُ إلى ألَّا يقفِزَ إلى المستحَبِّ، وهو لم يعمَلِ الواجبَ، ومن الواجباتِ القيامُ بمَهامِّكَ الواجبةِ عليكَ، ثم التي تَليها. وهذا من الفقهِ الأكبرِ الذي يعصِمُ من وقوعِ الفردِ في قواصمَ كثيرةٍ.

8- ضبطُ اللِّسانِ لئلَّا يَزِلَّ، فزَلَّتُه قد تَسري إلى آفاقٍ بعيدةٍ من حيثُ لا يشعرُ الفردُ، ولهذا جاءت الآثارُ الكثيرةُ بأهميةِ: ضبطِ المشاعرِ، وأهمِّيةِ العبادةِ في الفِتَنِ، وعدمِ الوقوعِ فيها، والصبرِ، والدعاءِ. وما يُرى من التناقُضِ بين مَقالاتِ بعضِ الأفرادِ مع أنفسِهم كان بهذا السبَبِ (فلْيُتأمَّلْ).

9- البُعدُ عن مواطنِ الفِتَنِ والشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ التي يكونُ الفردُ مُسهِمًا فيها بتأجيجِ الفِتَنِ فيقَعُ في المحْظورِ مثلِ الخوضِ في بعض القضايا الشرعيةِ الكُبرى وهو لا يُحسِنُها، وممَّا سمِعتُه في هذه الأحداثِ: تجويزُ الانتحارِ، والسِّمةُ بالبُطوليةِ لهؤلاء، ونحوُ ذلك، وهي زَلَّةٌ ليست بالسهلةِ.

ومن ذلك: إلقاءُ المعلوماتِ والجزمُ فيها، ولو لم تكُنْ من مصدرٍ موثوقٍ، ومن ثَمَّ تداوُلُ هذه المعلوماتِ حتى تُصبِحَ حقائقَ وهي ليست كذلك أصلًا.

10 – المبادَرةُ بالأعمالِ الخيريَّةِ والتطوُّعيَّةِ، وخاصَّةً عند الحاجةِ إليها، كما يكونُ ذلك في بعضِ الأزَماتِ.
 

*   *   *

أحسَبُ أنَّ هذه من مُهمَّاتِ الأفْرادِ، سواءٌ تلك التي توجِبُ عملًا ما أو تَنفيه, والنفيُ المُؤكَّدُ كالواجِبِ المُؤكَّدِ.

 

التاسعُ: تَعيشُ المُجتمَعاتُ والمؤسساتُ بل الأفرادُ بين خطَّيْنِ مُتوازيَيْنِ؛ هما خطُّ البناءِ والتنميةِ، وخطُّ مُعالجةِ المشكلاتِ، وللبناءِ والتنميةِ خُططُها الخمسيَّةُ والعَشريَّةُ، وكذا مُراجعةُ نُظُمِها وأحوالِها ومعالجةُ مُشكلاتِها.

ومن المُهمِّ: إدراكُ أنَّ الأصلَ هو العملُ بخطِّ البناءِ، وفي الأمر ذاتِه تُعالَجُ المُشكلاتُ الواقعةُ من خلالِ قنَواتِها الطبيعيةِ.

وعند التأمُّلِ هنا: نجدُ أنَّ كثيرًا من تفاقُمِ المشكلاتِ لعدَمِ وجودِ إستراتيجيةٍ (عمليَّةٍ) للعملِ بالخطَّيْنِ، أو لإهمالِ أحدِهما، أو لضَعفِ الإخلاصِ في التخطيطِ والأداءِ، وكلُّها آفاتٌ تَستوجبُ من أهلِ الحَلِّ والعَقدِ النظَّرَ فيها، وما تفاقُمُ مُشكلاتِ المُخدراتِ، والبطالةِ، والسرِقةِ، والفقرِ، والاعتداءِ.. وسائرِ الجرائمِ إلَّا بسببِ إهمالِ أحدِ تلك الخُطوطِ أو بعضِها.

أعتقدُ أنَّنا بحاجةٍ للنظَرِ الجادِّ في سائرِ المجتمعاتِ العربيةِ والإسلاميةِ بجِدٍّ وعزمٍ ونيَّةٍ صادقةٍ للعمَلِ بهذيْنِ الخطَّيْنِ.

إنَّ الواجبَ في هذا المَعلَمِ كبيرٌ على أهلِ الحَلِّ والعَقدِ والحكمةِ والرأيِ بمُختلِفِ التخصُّصاتِ والمسؤولياتِ، ممَّا يَستوجبُ المبادرةَ والجِدَّيَّةَ.

 

العاشرُ: وأختِمُ بالعودةِ إلى النفوسِ البشريةِ، وضرورةِ تعامُلِها بالقِيَمِ العُلْيا، فأزعُمُ أنَّنا كبارًا وصِغارًا، ذُكورًا وإناثًا، بحاجةٍ إلى تجديدِ غَرسِ تلك القِيَمِ: فالإخلاصُ، والصِّدقُ، والشَّفافيةُ، وحُسنُ الأداءِ، ومحاولةُ الإتقانِ، والعمَلُ، والعدلُ، وإعطاءُ الحقوقِ، والأمانةُ، ومعالجةُ المشكلاتِ، وصدُّ المناوِئينَ، وسَدُّ الأبوابِ التي يَنفُذُ منها الحِقدُ، والحسدُ، والتَّعدِّي، والظلمُ، والاعتداءُ، والإخلالُ بالأمنِ، والغِشُّ، والرِّشوةُ، وأكلُ أموالِ الناسِ بالباطلِ، كُلُّها مُقرَّراتٌ أساسيةٌ للبناءِ والتنميةِ، وهذه المُقرَّراتُ هي جزءٌ من العودةِ إلى شرعِ اللهِ تعالى، ودينِه وتعاليمِه التي يجِبُ أنْ تكونَ المصدرَ الأساسَ للانطلاقةِ إلى الإصلاحِ والبناءِ والتنميةِ والسيرِ بحريةٍ نحوَ التقدُّمِ والمنافسةِ، ومعالجةِ المشكلاتِ الكُبْرى والصُغْرى.

 

*    *    *

 

أعودُ لأقولَ: تلك خواطرُ مُتفرِّقةٌ لا يَجمَعُها سِوى ما جَرى ويَجري من أحداثٍ تهُزُّ المشاعرَ لأخذِ العِبرةِ والدرسِ، وهي إسهامٌ فرديٌّ أرْجو أنْ يصُبَّ في بابِ المَنهجيَّةِ السِّلميَّةِ للتعامُلِ مع هذه المشكلاتِ وأمثالِها، وهي لا تَعْدو إلَّا أنْ تحمِلَ تذكيرًا لمَن يُهِمُّهمُ الأمرُ، كما أحسَبُ أنَّها نُقطةٌ إيجابيَّةٌ في هذا البابِ، وتفاؤلٌ يحمِلُ نِقاطًا عمَليَّةً عند اجتماعِها قد يتكوَّنُ منها مِنهاجٌ عمليٌّ يُسهِمُ في الإصلاحِ المنشودِ، فإنْ لم تكُنْ هذا ولا ذاك، فلعلَّها تُفيدُ في براءةِ الذِّمَّةِ، ومشاركةِ الآخَرينَ خواطِرَهم.

 

وأختِمُ ذلك كُلَّه بالنداءِ لقادةِ الفِكرِ، والرأيِ، والعِلمِ، والحِكمةِ، والدعوةِ، والمسؤوليةِ: بألَّا تُحمِّلوا الرجلَ العامِّيَّ أكثَرَ ممَّا يتحمَّلُ في عمليَّةِ البناءِ والمعالجةِ، فالمسؤوليةُ تَكبُرُ بكِبَرِ هِمَّةِ أصحابِها في العلمِ والعملِ والمسؤوليةِ, وأنتم أهلٌ لها وعلى مُستواها. أعانَكمُ اللهُ.

 

سدَّدَ اللهُ الخُطا، وحقَّقَ الآمالَ.