مقالات وبحوث مميزة

 

 

الانقلابُ على المَنهَجِ..الأسبابُ والعِلاجُ

الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل

25 ذو الحجة 1431هـ

 

 {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ((يا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على طَاعَتِكَ)) ((يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على دِينِكَ)) ((اللهُمَّ إنِّي أعوُذ بك من الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ)) ((اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ في ديني ودُنياي وأهلي ومالي)).

لا يَعرِفُ العبدُ قيمةَ هذه الأدعيةِ المأثورةِ وأهميَّتَها إلَّا حين يرى كثرةَ الانتكاسِ في النَّاسِ، وتقَلُّبَ قُلوبِهم، وتغَيُّرَ مناهجِهم، وانتِقالَهم من فِكرٍ إلى فكرٍ، ومن منهجٍ إلى آخَرَ، بل من الاستسلامِ للهِ تعالى ولشريعتِه إلى التمَرُّدِ عليه وعلى شريعتِه.

 لقد رأَينا وسَمِعْنا لأناسٍ كانوا من أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ والعِلمِ والدَّعوةِ والاحتسابِ والجهادِ، أضحَوا من أهلِ الرِّدَّةِ والزَّندقةِ والإلحادِ!

 ورأينا دعاةً رَزَقهم اللهُ تعالى من تحصيلِ العِلمِ وقُوَّةِ الحُجَّةِ وحِدَّةِ العَقلِ ورَوعةِ البيانِ ما حَشَد جمهورَ الأمَّةِ خَلْفَهم، وشَرَّقت محاضراتُهم في الأرضِ وغَرَّبت، ثمَّ خَلعوا جلودَهم ولَبِسوا جلودًا غيرَها، واقتحموا ميادينَ مَن كانوا قبلُ ينتقدونَهم، وقَبِلوا منهم استضافتَهم في صُحُفِهم وفضائيَّاتِهم، ولم يكُنْ ذلك بالمجانِّ أو لتبليغِ الدَّعوةِ فحسْبُ...ولكُلِّ تنازُلٍ ثمَنُه!

 ورأينا من استسهلوا إباحةَ المحَرَّماتِ، وإسقاطَ الواجباتِ.. ومنهم من قَضَوا شطرَ حياتِهم في حراسةِ الفضيلةِ ثم انقلبوا يبيحون ما يُرَوِّجُ للرَّذيلة ويقضي على الفضيلة!

 وسَمِعنا عمَّن بكت الجموعُ لحُسنِ أصواتِهم بالقرآن، ولبُكائِهم في قراءتِهم وُدعائِهم فارقوا المحاريبَ إلى غيرها!

 ورأينا من خضَعوا لضَغطِ الواقعِ الاقتصاديِّ، فتساهلوا في أنواعٍ مِن المعامَلاتِ المحرَّمة، ووظَّفَتْهم قِلاعُ الرِّبا في لجانِها لتُسبِغَ الشرعيَّةَ على كثيرٍ من تجاوزاتِها!

 ورأينا من خضعوا لضَغطِ الواقِعِ السياسيِّ، ومُتطَلَّباتِ الجاهِ والإعلامِ، فحَوَّلوا قطعيَّاتِ الشريعةِ إلى ظنِّيَّاتٍ، ثمَّ أتوا عليها بالمسحِ والتحويرِ والتدويرِ لإضعافِ الولاءِ والبراءِ، وإعلاءِ شأنِ الرَّوابطِ الجاهليَّةِ، وتفتيتِ الرابطة الإيمانيَّةِ، وتسويقِ آثامِ الحضارةِ المعاصِرةِ. 

 كلُّ أولئك وقع ولا يزال يقعُ، وهو مُرَشَّحٌ للازدياد، وما كان أحدٌ يظُنُّ قبل عَقدينِ أنَّ شيئًا مِن هذا سيحدثُ، وهو ينبئُ عن ضَعفِ النَّفسِ البشَريَّةِ التي قد تتبدَّلُ قناعاتُها بين لحظةٍ وأخرى، فلا حولَ ولا قوَّةَ للعبد إلَّا باللهِ العزيزِ الحكيمِ.

 ولقد حاولتُ أن أتلمَّسَ أسبابَ انقِلابِ القلوبِ، وتبدُّلِ القناعاتِ، وانتكاسِ المفاهيمِ عند المبدِّلين، فوجدتُ أنَّ منها ما يعود إلى ذاتِ المنقَلِبِ، ومنها ما يعودُ إلى المجتَمَعِ..

القِسمُ الأوَّلُ: أسبابٌ تعودُ لذاتِ المنقَلِبِ:

  السَّبَبُ الأوَّلُ: مشارطةُ اللهِ تعالى في دينِه، وقلَّ من النَّاسِ من يَسلَمُ من ذلك، لكِنَّهم لا يشعرون به، ولا يَبِينُ لهم إلَّا عند الابتلاء، ولو تأمَّلْنا أشهرَ حديث في النيةِ، الذي لا يكادُ يوجَدُ بابٌ من أبوابِ الشريعةِ إلَّا دخله، بل كان أساسًا فيه، حتى عَدَّه بعضُهم نِصفَ الشريعةِ؛ لوجَدْنا معنى المشارطةِ فيه: ((فَمَنْ كانت هِجْرَتُه إلى اللهِ وَرَسُولِه فَهِجْرَتُه إلى اللهِ وَرَسُولِه، وَمَنْ كانت هِجْرَتُه لدُنْيَا يُصِيبُها أو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُها فَهِجْرَتُه إلى ما هَاجَرَ إليه))([1]).

 ومُشارطةُ العبدِ لله تعالى في التزامِ دينِه، والأخذِ بعزائمِ شريعتِه: قد تكونُ لغايةٍ واحدةٍ، وقد تكونُ لغاياتٍ عِدَّةٍ، وقد تكونُ لغايةٍ صحيحةٍ، كما قد تكونُ لغايةٍ غيرِ صحيحةٍ، لكِنْ أصلُ المشارطةِ غيرُ صحيحٍ.

 فمِن المشارطةِ على غايةٍ غيرِ صحيحةٍ التزامُ الشَّريعةِ لغايةٍ دُنيويَّةٍ، كطَلَبِ رئاسةٍ دينيةٍ، فإذا لم تحصُلْ بدَّل حالَه لنَيْلِها بطريقٍ أُخرى، أو إذا حصَلَت له رئاسةٌ دُنيويَّةٌ تخلَّى عن شيءٍ مِن الدِّينِ لأجْلِها.

 وقد يصبِرُ صبرًا طويلًا على الدِّينِ لِما يرجو من عاقبتِه الدُّنيويَّةِ، كما وَقَع لرُوَيم البغداديِّ الزاهد (ت:303) قال جعفرٌ الخلديُّ: من أراد أن يستكتِمَ سِرًّا فليفعَلْ كما فعل رويمٌ، كتم حُبَّ الدنيا أربعين سنة، فقيل: وكيف يتصوَّرُ ذلك؟ قال: وَلِيَ إسماعيلُ بنُ إسحاقَ القاضي قضاءَ بغدادَ، وكانت بينهما مودَّةٌ أكيدةٌ، فجذبه إليه وجعله وكيلًا على بابه، فترك لُبْسَ التصَوُّفِ، ولَبِس الخَزَّ والقصبَ والديبقى، وأكل الطيِّباتِ، وبنى الدُّورَ، وإذا هو كان يكتُمُ حُبَّ الدنيا ما لم يجِدْها، فلمَّا وجدها أظهَرَ ما كان يكتُمُ مِن حُبِّها!([2]) نقل حادثتَه هذه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ وعَلَّق عليها بقَولِه: هذا مع أنَّه -رحمه الله- كان له من العباداتِ ما هو معروفٌ، وكان فقيهًا على مذهَبِ داودَ!([3])

 وكم رأينا في زمَنِنا هذا من أشخاصٍ بَدَّلوا حالهم بعد الجاهِ والمالِ، أو في سبيل طلبِهما؟!

 ومِن المشارطةِ على غايةٍ صحيحةٍ طَلَبُ العِزِّ والنَّصرِ والتمكينِ للأمَّةِ؛ فبعضُ النَّاسِ يلتحِقُ بركْبِ الأخيارِ ويلتزمُ حُدودَ الشريعةِ، وينافِحُ عن الدِّينِ بيدِه وقَلَمِه ولسانِه، ولكنَّه لا يجعَلُ غايتَه من ذلك تحقيقَ العبوديَّةِ لله تعالى، وطَلَب مرضاتِه، أو لرُبَّما اشترك في قلبِه مع هذه الغايةِ غاياتٌ أُخَرُ، كمن يجعل التزامَه بالمنهجِ الصَّحيحِ سُلَّمًا لعِزِّ الأمَّةِ ورفعتِها وتمكينِها، كونه يوقِنُ بهذه الحقيقةِ المقرَّرةِ في الكتابِ والسُّنةِ.

 وقد يرى كثيرٌ من النَّاسِ أنَّ هذه غايةٌ نبيلةٌ ومطلوبةٌ ومرغوبٌ فيها، لكن يفوتُ عليهم أنَّ تحقيقَ العبوديَّةِ لله تعالى يجبُ أن يكونَ غايةً لا يزحمُها شيءٌ البتَّةَ، ويكفي في سوءِ هذا المنهجِ أنَّ أصحابَه حَوَّلوا دينَ اللهِ تعالى إلى وسيلةٍ لتحقيقِ غايةٍ أخرى، وهي عزُّ الأمَّةِ وتمكينُها ونَصرُها، فإذا فات هذا المطلوبُ غَيَّروا الوسيلَة لتحقيقِه.

 ومن راجع الخِطابَ الدَّعَويَّ قبل عَقدينِ فسيرى تكثيفًا في المبشِّراتِ بقُربِ نصرِ الأمَّةِ وعِزِّها والتمكين لها، وأنها تعيش مرحلةَ مخاضٍ، وأنَّ نصرَ اللهِ تعالى قريبٌ، وأنَّ اشتدادَ الظُّلمةِ يعقُبُه الفجرُ، وأنَّ بعد العُسرِ يُسرًا، فلما لم يقع ذلك كما قرَّروه في أذهانِهم في زمنٍ مُعَيَّن، انسلخوا من منهجِهم، وانقلبوا على من بَقِيَ عليه بالتنقيصِ والثَّلْبِ؛ ليُثبِتوا للنَّاسِ أنَّ تحوُّلَهم عنه كان صحيحًا.. ولَيْتَهم لَمَّا فعلوا ذلك كَفُّوا أقلامَهم وألسنِتَهم عن منهجِ الأمسِ ومن ثبت عليه، ولم يصطفُّوا مع المنافقين في حربِهم عليه!

 ومن جعل المنهجَ الحَقَّ وسيلةً لغايةٍ أخرى، فحَرِيٌّ أن يفارِقَ الحَقَّ إلى الباطِلِ إذا لم تتحقَّقِ الغايةُ أو استبطأها. والواجِبُ على المسلِمِ أن يربِّيَ نَفْسَه، وعلى الدُّعاةِ أن يربُّوا أتباعَهم على جَعْلِ الحَقِّ هو الغايةَ، ولا يكونَ وسيلةً لأيِّ شيءٍ آخرَ، ولنا عبرةٌ في أنبياءِ اللهِ تعالى الذين لم يُمَكَّن لبعضِهم في الأرضِ، بل قتَلَهم أعداؤُهم، وآخَرون لم يتبعْهم إلَّا قليلٌ من الناسِ؛ فهذا نبيُّ اللهِ تعالى نوحٌ عليه السَّلامُ يخبِرُ اللهُ عنه، فيقولُ: {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، ونبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبيَّ ومَعَه الرُّهَيْطُ، والنَّبِيَّ ومَعَه الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ ليس معه أحدٌ))([4]).

السَّبَبُ الثَّاني: الجَهلُ بسُنَّةِ اللهِ تعالى في معاملتِه لعِبادِه، فيرى المتمَسِّكُ بالدِّينِ أن نصوصَ النَّصرِ والعِزِّ والتمكينِ، وكونَ العاقبةِ للمتَّقين: تتناولُه وإخوانَه، وأنَّهم الموعودون بذلك، مع ما فيهم من نقصٍ وخللٍ في تحقيقِ شُروطِه، وأيضًا ما يعتريهم من استعجالٍ في وقوعِه، واستبطاءٍ لتحقيقِه؛ فيكيِّفون وَعْدَ الله تعالى لعبادِه بالنَّصرِ والتمكينِ على ما في أذهانِهم، ويُخضِعون سُنَنَ اللهِ تعالى في خَلْقِه لمطلوبِهم وعجَلَتِهم.

 والعَجَلةُ طَبعٌ في الإنسانِ لا يكادُ ينفَكُّ عنه {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لما أخبَرَ عن تمكينِ اللهِ تعالى لدينِه، قال: ((وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ))([5]) فهو استعجالٌ في طلَبِ النصرِ، وتحَقُّقِ سُنَن اللهِ تعالى في عبادِه، ومن هنا نُدرِكُ الحِكمةَ مِن كَثرةِ التأكيدِ على أنَّ وَعدَ اللهِ تعالى حقٌّ، وقَرْنِه بالأمرِ بالصَّبرِ، والإخبارِ أنَّ العاقبةَ للمتَّقين؛ لأنَّ النَّفسَ البشَريَّةَ جَزوعةٌ ملولةٌ كثيرةُ السَّخَطِ والتذَمُّرِ، نزَّاعةٌ للكَسَلِ والدَّعَةِ والهوى، فلا بُدَّ من اليقينِ مع الصَّبرِ؛ لتحَقُّقِ الوَعدِ {فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [الرُّوم:60]، وتكَرَّر هذا الأمرُ في آيتينِ أُخرَيَين، وأمَّةُ بني إسرائيلَ عُذِّبت عذابًا أليمًا طويلًا على يدِ فِرعَونَ وجُندِه، ومع ذلك كانت وصيةُ موسى لهم هي الصَّبرَ. {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وليس من الصَّبرِ في شيءٍ تغييرُ المنهجِ الصَّحيحِ والانقلابُ عليه؛ استِبطاءً للنَّصرِ والتمكينِ.

 فالواجِبُ على المؤمنين عُمومًا وأهلِ الدَّعوةِ خُصوصًا أن يجعَلوا مشاعِرَهم وسُلوكَهم وتصوُّراتِهم تجاهَ الأُمَّةِ وقضاياها، وما يحصُلُ لها من الألمِ والذُّلِّ والهوانِ على أيدي أعدائِها، وما يُرغَبُ فيه من نَصْرِها وعِزِّها والتمكينِ لها: خاضِعةً للنُّصوصِ، لا أن نخضِعَ النصوصَ لرَغَباتِنا وأهوائِنا؛ فإنَّ سُنَنَ اللهِ تعالى لا تتبَدَّلُ.

 ولو نظَرْنا إلى أشهَرِ قضيَّةٍ للمسلمين مع أعدائِهم في عصرنِا، وأكثَرِها تناولًا في كتاباتِهم وخُطَبِهم ومحاضراتِهم ومجالِسِهم، هي قضيَّةُ احتلالِ اليهودِ بمعونةِ النصارى لبيتِ المقدِسِ قبل سِتَّةِ عُقودٍ، وهي القضيَّةُ التي عجز المسلمون عن نجدةِ إخوانِهم فيها، فأدَّى ذلك إلى يأسِ كثيرٍ من النَّاسِ حتى ممن ينتسبون للعِلمِ والدَّعوةِ، من حَلِّها، فركبوا مراكِبَ التطبيعِ مع اليهودِ، أو على الأقَلِّ سَكَتوا عن هذه القضيَّةِ لِمَلَلِهم من تناوُلِها.

 ولو أنعَمْنا النَّظَرَ في التاريخِ لوجَدْنا أنَّ الصَّليبيين احتلُّوا بيتَ المقدِسِ زُهاءَ تسعين سنة، وعُطِّلت الصلاةُ في المسجد الأقصى، ورفع الصليبيون عليه صُلْبانَهم، واتَّخذوه اصطبلاتٍ لخُيولِهم، وحظائِرَ لخنازيرِهم، وربما داخَلَ كثيرًا من القلوبِ آنذاك يأسٌ من عودته للمسلمين، لكنَّه عاد بعد تسعين سنةً من البناءِ والدَّعوةِ والجِهادِ، وكثيرٌ من الذين شاركوا في إعادةِ بناءِ صُفوفِ الأمَّةِ آنذاك، ودعوةِ الناسِ إلى أن يعودوا إلى دينِهم، ويتوبوا من ذُنوبِهم، وكانوا فاعلين في تحقُّقِ النصرِ العظيمِ الذي تُوِّج على يد صلاحِ الدِّينِ رحمه الله تعالى بطَردِ الصليبيينَ منه..كثيرٌ منهم لم يذوقوا حلاوةَ هذا النصرِ، واخترمَتْهم المنايا قبل إدراكِه، ومنهم الملِكُ العادِلُ نور الدين، وليس صلاحُ الدِّينِ إلَّا ثمرةً مِن ثمراتِه!

 إنَّ كثيرًا من المتحَمِّسين لدينِ اللهِ تعالى يزعِجُهم حالُ الأمَّةِ وضَعفُها، وانتهاكُ الملأِ منها للحُرُماتِ، وتعطيلُ الشرائعِ، والصَّدُّ عن دينِ الله تعالى، فلا يتحَلَّون بالصبرِ والحكمةِ في مواجهةِ هذا الواقِعِ الأليمِ، ولا يَصدُرون عن العلماءِ الرَّبَّانيين، بل منهم من يَطعَنون فيهم متَّهمين إيَّاهم بالمداهَنةِ والجُبنِ والضَّعفِ، ويظنُّون أنَّهم أقدَرُ من العلماءِ على مواجهةِ الملأِ من أقوامِهم، وأنَّ النَّاسَ ينصرونَهم، فيُعرِّضون أنفُسَهم لِما لا يطيقون من البلاءِ، فيؤدِّي ذلك بهم إلى الانتكاسِ، والانقِلابِ على المنهجِ الصَّحيحِ.

 واللهُ تعالى رحيمٌ بعبادِه، عليمٌ بقُدرتِهم وطاقتِهم، فلم يكَلِّفْهم ما لا يطيقونَ {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وتغييرُ المنكَرِ كان فيه تدرُّجٌ من اليدِ إلى اللِّسانِ إلى القَلْبِ حَسَبَ القُدرةِ، وأباح الله تعالى النُّطقَ بكَلِمةِ الكُفرِ لدَفعِ البلاءِ، ولحمايةِ المؤمِنِ نَفْسَه من الافتتانِ، مع أنَّ كَلِمةَ الكُفرِ أسوَأُ شيءٍ يقالُ، وهي سبَبٌ للعذابِ.

 وقد روى حُذَيفةُ -وهو أعلَمُ الصَّحابةِ بالفِتَنِ وأسبابِ النجاةِ منها- عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((لَا ينبغي لِمُسْلِمٍ أن يُذِلَّ نَفْسَه. قِيلَ: وكيف يُذِلُّ نَفْسَه؟ قال: يَتَعَرَّضُ من البَلَاءِ لِمَا لا يُطِيقُ))([6])

 والمؤمِنُ مُطالَبٌ بإصلاحِ نَفْسِه، ثمَّ تعديةِ هذا الصَّلاحِ إلى غيرِه، فإذا كان سَعْيُه في إصلاحِ غَيرِه يعودُ على نَفْسِه بالفسادِ، كَفَّ عن ذلك.. وهذا يُتصَوَّرُ وقوعُه حالَ الفِتَنِ، وغَلَبةِ الأهواءِ، وقُوَّةِ أهلِ الفسادِ، وتمكُّنِهم من البلادِ والعبادِ؛ ولذا جاء الأمرُ بالعُزلةِ حالَ غُربةِ الدِّينِ، وكثرةِ الفِتَن؛ للحفاظِ على النَّفسِ من الترَدِّي والتبديلِ والانقلابِ، وعلى هذه الأحوالِ تُحمَلُ الأحاديثُ والآثارُ، ومنها:

1- حديثُ أبي ثَعْلبةَ الخُشَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عن الْمُنْكَرِ، حتى إذا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعِ الْعَوَامَّ))([7]).

 2- حديثُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو قال: قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:  ((كَيْفَ أنت إذ بَقِيتَ في حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ؟ قال: قُلتُ: يا رَسُولَ الله، كَيْفَ ذلك؟ قال: إذا مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ الرَّاوي بين أَصَابِعِهِ يَصِفُ ذَاكَ- قال: قلتُ: ما أَصْنَعُ عِنْدَ ذَاكَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قال: اتَّقِ اللهَ عَزَّ وجََّل، وَخُذْ ما تَعْرِفُ، وَدَعْ ما تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهم))([8])

3- قَولُ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (إنَّ أوَّلَ ما تُغْلَبُونَ عليه من الْجِهَادِ الْجِهَادُ بأيدِيكم، ثُمَّ الجِهَادُ بِأَلْسِنَتِكم، ثُمَّ الْجِهَادُ بِقُلُوبِكم، فَأَيُّ قَلْبٍ لم يَعْرِفِ المَعْرُوفَ وَلَا يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ، نُكِّسَ فَجُعِلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَه)([9]).

4- حديثُ سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ قال: قال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: (آمُرُ أَمِيرِي بِالْمَعْرُوفِ؟ قال: إنْ خِفْتَ أَنْ يَقْتُلَك فَلَا تُؤَنِّبِ الإِمَامَ، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَهُ) ([10]).

5- قَولُ حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (إنِّي لأشتري ديني بَعْضَه ببَعضٍ؛ مخافةَ أن يذهَبَ كُلُّه»)([11])

6- قَولُ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (إنَّكم في زمَنٍ النَّاطِقُ فيه خيرٌ من الصَّامِتِ، والقائِمُ فيه خيرٌ من القاعِدِ، وسيأتي عليكم زمانٌ الصَّامِتُ فيه خيرٌ من النَّاطِقِ، والقاعِدُ فيه خيرٌ من القائِمِ، فقال له رجلٌ: كيف يكونُ أمْرٌ من عَمِلَ به اليومَ كان هُدًى، ومن عَمِلَ به بعدَ اليومِ كان ضلالةً؟ فقال: اعتَبِرْ ذلك برجُلَينِ مِن القَومِ يعملون بالمعاصِي، فصَمَت أحَدُهما فسَلِمَ، وقال الآخَرُ: إنَّكم تفعلون وتفعلون، فأخَذوه فذهبوا به إلى سُلطانِهم، فلم يزالوا به حتى عَمِلَ مِثلَ عَمَلِهم)([12]).

7- كان الأحنَفُ رحمه الله تعالى جالسًا عند معاويةَ رضي الله عنه، فقال: (يا أبا بَحْرٍ، ألَّا تتكَلَّمُ؟ قال: إنِّي أخافُ اللهَ إن كَذَبْتُ، وأخافُكم إن صَدَقْتُ!)([13]).

8- قال مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ رحمه الله تعالى: (لَئِنْ لم يكُنْ لي دينٌ حتى أقومَ إلى رجُلٍ معه مئةُ ألفِ سَيفٍ، أَرمي إليه كَلِمةً فيقتُلُني، إنَّ ديني إذًا لضَيِّقٌ!)([14]).

 قال ابنُ عبدِ البَرِّ رحمه الله تعالى بعد أن ساق جملةً من الآثارِ: (أجمع المسلمون على أنَّ المنكَرَ واجِبٌ تغييرُه على كُلِّ من قَدَر عليه، وأنَّه إذا لم يَلحَقْه في تغييرِه إلَّا اللَّومُ الذي لا يتعَدَّى إلى الأذى، فإنَّ ذلك لا يجِبُ أن يمنعَه من تغييرِه بيَدِه، فإنْ لم يَقدِرْ فبلِسانِه، فإن لم يقدِرْ فبقَلْبِه، ليس عليه أكثَرُ من ذلك، وإذا أنكَرَه بقَلْبِه فقد أدَّى ما عليه إذا لم يستطِعْ سِوى ذلك، والأحاديثُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تأكيدِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ كثيرةٌ جِدًّا، لكِنَّها كُلَّها مقيَّدةٌ بالاستطاعةِ)([15]).

 والنَّاسُ في هذا البابِ طَرَفانِ ووَسَطٌ؛ فطائفةٌ اتَّكَؤوا على نصوصِ الرُّخصةِ لتَعطيلِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، وسَوَّغوا المنكَراتِ بأنواعِ الحِيَلِ، وعَدُّوا النَّهيَ عن المنكَرِ نوعًا من الخروجِ المذمومِ، وهؤلاء هم مُرجِئةُ العصرِ، ولا فَرْقَ بينهم وبين العلمانيين إلَّا أنَّ هؤلاء يتمسَّحون بالشريعةِ، وينطِقون بالكتابِ والسُّنةِ، وإلَّا فهم في النهايةِ يلتَقون مع المشروعِ العَلْمانيِّ التغريبيِّ.

 وطائفةٌ أخرى أخذوا بنُصوصِ العزيمةِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، ولم يفطِنوا لقُدراتِهم، وظَنُّوا أنَّهم يَقْوَون على البلاءِ، لكِنَّهم لَمَّا ابتُلُوا افتَتَنوا فغَيَّروا مناهِجَهم، وانقَلَبوا على إخوانِهم، وكانوا طرائِقَ قِدَدًا!

 وأهلُ الوَسَطِ هم الذين عَمِلوا بنُصوصِ العزيمةِ في مواطِنِها، وأخذوا بنصوصِ الرُّخصةِ في مواضِعِها، وفَرُّوا من الفِتَنِ، ولم يُعَرِّضوا أنفُسَهم لما لا طاقةَ لها به من البلاءِ، فسَلِمَ لهم دينُهم، ودَرَؤوا من الشَّرِّ ما استطاعوا، ولا زالوا ثابتين، ثبَّتَنا اللهُ تعالى وإيَّاهم على الحَقِّ المُبِينِ.

 والمؤمِنُ إذا عجز عن النَّهيِ عن المنكَرِ مباشرةً، لجأ إلى الأمرِ بالمعروفِ؛ فإنَّ أمْرَه بالمعروفِ نهيٌ عن المنكَرِ بطريقٍ غيرِ مُباشِرٍ، والانفِتاحُ الذي أُصيبَت به بلادُنا وإن أدَّى إلى تسَرُّبِ مُنكَراتٍ كثيرةٍ، وتسَبَّب في تطاوُلِ المنافقين على الشريعةِ وحَمَلتِها ومؤسَّساتِ تبليغِها؛ فإنَّ فيه خيرًا من جهةِ تنشيطِ الإنكارِ باللِّسانِ وبالقَلَمِ؛ فإنَّ دعاوى حُرِّيةِ الرَّأيِ التي يتكِئُ المنافِقُ عليها في تسويقِ المنكَرِ يستطيعُ المحتَسِبُ أن يتكِئَ عليها في النَّهيِ عن المنكَرِ، وذَمِّ أهلِه، وفضيحةِ المسَوِّقين له.

  السَّبَبُ الثَّالِثُ: عدَمُ العنايةِ بعِلمِ الباطِنِ والسُّلوكِ، وإهمالُ تزكيةِ النَّفسِ بالأعمالِ الصَّالحةِ، ورُبَّما كان للمنقَلِبِ معاصٍ في السِّرِّ أهمَلَها، فكان ضعيفًا في مواجهةِ المنكَرِ وأهلِه، خائرًا في مقابلةِ الابتلاءِ بالصَّبرِ والثَّباتِ، فانهار في الابتلاءِ وانقَلَب على منهَجِه، وقَلَّ أن نجِدَ عالِمًا من عُلماءِ السَّلَفِ إلَّا وله كتابةٌ في الزُّهدِ أو الرِّقاقِ أو تزكيةِ النَّفسِ، سواءٌ كانت مُفرَدةً أم ضِمنَ مُصَنَّفٍ، وهم وإن كانوا يكتُبونَ لغيرِهم فإنَّهم أوَّلُ من ينتَفِعُ بما يَكتُبون.

 والمؤمِنُ إذا اعتنى بصلاِح باطِنِه، وسعى في زيادةِ إيمانِه، وعَمِلَ على رُسوخِ يقينِه، وأرى اللهَ تعالى من نفسِه اجتِهادًا وجِدًّا في ذلك، أعانه الله تعالى وسَدَّده ووفَّقه لِما أراد، والآياتُ الدَّالَّةُ على ذلك كثيرةٌ جِدًّا؛ قال اللهُ تعالى: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17]، أي: والذين قَصَدوا الهدايةَ وفَّقَهم اللهُ تعالى لها، فهداهم إليها وثَبَّتَهم عليها، وزادهم منها([16]).

السَّبَبُ الرَّابعُ: تأصُّلُ فَسادِ القَلبِ بالشُّبُهاتِ أو بالشَّهَواتِ؛ فقد يُبتلى العبدُ بشُبهةٍ لا يَصرِفُها عن نفسِه بالمحكَمِ من الشريعةِ، ولا يستعيذُ باللهِ تعالى من شَرِّها، ولا يلجَأُ إلى العُلَماءِ الرَّاسخين في دَحْضِها، فتتمكَّنُ مِن قَلْبِه، وتعمَلُ عَمَلَها فيه، فينقَلِبُ بسَبَبِها عن منهجِه، وبسَبَبِ الشُّبهةِ في الدِّينِ انتكس عددٌ من الأذكياءِ المشاهيرِ قديمًا وحديثًا.

 وقد يَرِدُ على القَلبِ شَهوةٌ تُفسِدُه، سواءٌ كانت شهوةَ مَعصيةٍ يلتَمِسُ لها الإباحةَ بعَسْفِ النُّصوصِ وتحريفِ معانيها، فيستسيغُ ذلك في كُلِّ ما يَعرِضُ له من شَهوةٍ، حتى يكونَ ديدَنُه تحريفَ الشريعةِ، واتِّباعَ المتشابِهِ منها، واستخراجَ شَواذِّ الفِقْهِ، فيَرْدَى بسَبَبِ شَهوتِه.

 وأحيانًا يكونُ تحريفُه للشَّريعةِ لأجْلِ غيرِه من ذوي الجاهِ أو المالِ أو الإعلامِ؛ لينالَ حُظوةً عندهم، فشَهوتُه تكونُ في حُظوتِه عندهم، ولا ينالُ ذلك إلَّا باتِّباعِ شَهَواتِهم في إباحةِ ما حَرَّم اللهُ تعالى عليهم، أو إسقاطِ بَعضِ الواجباتِ عنهم.

 أو يكونُ فيه شهوةُ بَغيٍ وانتصارٍ للنَّفسِ، تظهَرُ حالَ مُساجلتِه لأقرانِه، فينتَصِرُ لنَفْسِه بمخالفةِ مَنْهَجِهم ولو كان حقًّا؛ لمجَرَّدِ أنَّه يريدُ مناكفَتَهم فيه، والانتِقامَ منهم، وهو في واقِعِ الأمرِ لا ينتَقِمُ إلَّا مِن نَفْسِه، والانتصارُ للنَّفسِ سَبَبٌ للذُّلِّ وضَعفِ الانتصارِ للحَقِّ.

 يقولُ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله تعالى: والقَلبُ يتواردُه جَيشانِ مِن الباطِلِ: جيشُ شَهَواتِ الغَيِّ، وجَيشُ شُبُهاتِ الباطِلِ، فأيُّما قلبٍ صغا إليها وركَنَ إليها تشَرَّبَها وامتلأَ بها، فنَضَح لسانُه وجوارحُه بموجِبِها، فإنْ أُشرِبَ شُبُهاتِ الباطِلِ تفَجَّرت على لسانِه الشُّكوكُ والشُّبُهاتُ والإيراداتُ، فيظُنُّ الجاهِلُ أنَّ ذلك لسَعَةِ عِلمِه، وإنَّما ذلك من عدَمِ عِلْمِه ويقينِه، وقال لي شيخُ الإسلامِ رضي الله عنه، وقد جعَلْتُ أورِدُ عليه إيرادًا بعد إيرادٍ: لا تجعَلْ قَلْبَك للإيراداتِ والشُّبُهاتِ مِثلَ السفنجةِ، فيتشَرَّبُها فلا ينضَحُ إلَّا بها، ولكِنِ اجعَلْه كالزُّجاجةِ المُصمَتةِ، تمرُّ الشُّبُهاتُ بظاهِرِها ولا تستَقِرُّ فيها، فيراها بصفائِه، ويدفَعُها بصلابتِه، وإلَّا فإذا أشرَبْتَ قَلْبَك كُلَّ شُبهةٍ تمُرُّ عليها، صار مَقَرًّا للشُّبُهاتِ، أو كما قال، فما أعلَمُ أني انتفعتُ بوصيَّةٍ في دَفعِ الشُّبُهاتِ كانتفاعي بذلك([17]).

 ففَسادُ القَلبِ وزَيغُه إنَّما يكونُ بسَبَبِ شُبهةٍ أو شَهوةٍ يستسلِمُ لها العبدُ فيُسلَبُ التوفيقَ، ويحيقُ به الخِذلانُ، ويعاقَبُ على تقصيرِه في تحصينِ قَلْبِه، واستسلامِه لواردِ الشُّبهةِ أو الشَّهوةِ، وقد قال اللهُ تعالى في المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، وقال سُبحانَه في اليهودِ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [الصَّف:5]، وقال عزَّ وجَلَّ في المؤمنين الذين دافعوا وارِدَ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ: {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، وكما لا يمكِنُ للإنسانِ أن يصعَدَ سُلَّمًا ثمَّ يجِدَ نفسَه في القَبْوِ، فلا يمكِنُ أن يترقَّى في الإيمانِ واليقينِ، ويجاهِدَ في صلاحِ قَلبِه، ثمَّ يجِدَ نَفْسَه زائغًا منحَرِفًا عن الحَقِّ، مفارقًا أهلَه؛ فإنَّ عَدْلَ اللهِ تعالى وحِكمَتَه ورحمتَه تأبى ذلك. قيل للإمامِ أحمدَ رحمه الله تعالى: مَن نسألُ بعدك؟ قال: عبدَ الوهَّابِ الوَرَّاقَ. قيل له: إنَّه ليس له اتِّساعٌ في العِلمِ. قال: إنَّه رجُلٌ صالِحٌ مِثْلُه يُوَفَّقُ لإصابةِ الحَقِّ([18]).

السببُ الخامس: الانفِصامُ بين الظَّاهِرِ والباطنِ، ثمَّ اليأسُ مِن رحمةِ الله تعالى، وذلك بأن يكونَ العَبدُ مُقيمًا على معصيةٍ لم يستطِعِ الانتهاءَ عنها مع محاولاتِه المكرورةِ، ولا سِيَّما إذا كان ذلك مما يتعَلَّقُ بالشَّهَواتِ، فيَقذِفُ الشيطانُ في قَلْبِه أنَّه منافِقٌ؛ إذ كيف يقيمُ على هذه المعصيةِ، ويُخفِيها عن مشايخِه وأقرانِه، ويَظهَرُ أمامَهم بمظهَرِ أهلِ الاستقامةِ والتقوى؟! ولا يزال هذا الصراعُ في قلبِه إلى أن ييأسَ من الإقلاعِ عن معصيتِه، ويرى أنَّه لا يمكِنُ أن يصاحِبَ الأخيارَ وهو على هذا الحالِ، فيتنصَّلُ منهم شيئًا بعد شيءٍ، ويتَّخِذُ رُفقةً أُخرى لا ضَيْرَ أن يبوحَ لهم بسِرِّه، ويُظهِرُ معصيتَه أمامَهم، ويظُنُّ أنَّه ارتاح من تأنيبِ ضميرِه!

 ولو عَلِمَ المسكينُ أنَّ تأنيبَ قَلْبِه له الذي يجِدُه وهو مع الأخيارِ خيرٌ له من مفارقتِهم؛ فهو دليلٌ على حياة قَلْبِه، وعلى بقاءِ النَّفسِ اللَّوَّامةِ، أمَّا مفارقتُه لهم، وإظهارُه لمعصيتِه، وانقلابُ حالِه: فهو إماتةٌ للنَّفسِ اللَّوَّامةِ، وتسليمُ قيادِه للنَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ.

السببُ السادس: منافَسةُ الأقرانِ؛ فقد يكونُ له قرينٌ في مِثلِ استقامتِه أو عِلْمِه، لكنَّه تقَدَّم عليه بالحُظوةِ عند النَّاسِ، أو بمنصبٍ دينيٍّ، أو بالشُّهرةِ، أو يفتَحُ اللهُ تعالى له بابًا من العِلمِ أو الرِّزقِ لا يفتحُه لقرينِه، فيَحسُدُه على ذلك، ويركَبُ الصَّعبَ والذَّلولَ للَّحاقِ به، ولو تنازل عن بعضِ مبادئِه أو أكثَرِها.. وينحصِرُ هَمُّه في أن يَصِلَه أو يتعَدَّاه، ويَعظُمُ ذلك إذا كان قرينُه أقَلَّ منه علمًا أو دعوةً، أو كان أحَدَ تلاميذِه، أو اهتدى عليه فيغارُ منه، وأعِرُف شخصًا كذلك؛ إذ ما زال يتقَرَّبُ لذوي الجاهِ بالوِشايةِ في قَرينٍ أصغَرَ منه لحَسَدِه إيَّاه على ما آتاه الله تعالى من العِلمِ حتى فاقه! ومنافسةُ الأقرانِ في حُظوظِ الدُّنيا تؤدِّي إلى ذُلِّ النَّفسِ وانحطاطِها، وبَيْعِها الدِّينَ، وتسخيرِها الفِقْهَ لخِدمةِ الخَلْقِ؛ لطَلَبِ نُصرتِهم وعِزِّهم. يقولُ ابنُ عاشور رحمه الله تعالى: الحاجةُ إلى النَّاصِرِ لا تكونُ إلَّا من العَجزِ عن الانتصارِ للنَّفسِ ([19]).

السببُ السَّابع: أن يكونَ للشَّخصِ أتباعٌ يَظُنُّ أنَّهم ينصُرونَه ولا يتخَلَّون عنه، فلا يقَعُ ما ظَنَّه منهم، فينتَقِمُ منهم -من حيثُ يَشعُرُ أو لا يشعُرُ- بمخالفةِ مَنهَجِهم ولو كان صوابًا، وكلُّ نبيٍّ حَمَل أعباءَ الدَّعوةِ وَحْدَه، وتحمَّل ما ينالُه منها وَحْدَه، ولم ينتَظِروا نُصرةً مِن غيرِ اللهِ تعالى، وهم قُدوةُ الدُّعاةِ إلى اللهِ تعالى.

أسبابٌ تتعَلَّقُ بالمجتمَعِ (مجتَمَعِ العُلَماءِ والدُّعاةِ):

السببُ الأوَّلُ: صَدُّ الطَّاقاتِ الواعدةِ، والمواهِبِ الصَّاعِدةِ، وإهمالُها وعدَمُ العنايةِ بها، مع أنَّها ترى أنَّها أميَزُ من غيرِها من الأقرانِ، والواجِبُ على التابعِ ألَّا يؤثِّرَ ذلك فيه، لكِنْ بعضُ الأتباعِ ضعيفٌ؛ فعند إهمالِ المتبوعِ له -عالم أو داعية أو مُرَبٍّ- يفارقُ التابعُ مجلِسَ متبوعِه ودَرْسَه، وربما انقلب عليهم بالحَطِّ والثَّلْبِ، وحينها يجدُ من يتلقَّفُه من أهلِ الشَّرِّ، فيرفَعُه ويعتني به ويستخدِمُه مِعْوَلَ هَدْمٍ للحَقِّ، وأذكُرُ أنَّ فتًى يافعًا نبيهًا صار بينه وبين مشايخِ بَلْدَتِه جَفوةٌ واختلافٌ، فيمَّمَ شَطْرَه لبعضِ مشاهيرِ الشُّعَراءِ مِن النصارى، فاعتنى به عنايةً فائقةً؛ لِما رأى من نبوغِه وعبقريَّتِه، وظَلَّ يتعاهَدُه ويواصِلُه بالمراسلةِ، مع أنَّ هذا الفتى في العشرينيَّاتِ، والنَّصرانيُّ في الثمانينيَّاتِ!

 وحدَّثني بعضُ أهلِ العِلمِ والأدَبِ عمَّن عاصَرَ عبدَ الله القصيمي -العالمَ السَّلفيَّ الذي انقلب إلى مُلحِدٍ- أنَّ من أسبابِ صدودِه عن أهلِ العِلمِ، وثورتِه على الدِّينِ وأهلِه: أنَّه لَمَّا قَدِمَ مِن مِصرَ كان يعتَمِرُ العِقالَ، ويعتني بمظهَرِه اعتناءً زاد على المألوفِ، فكأنَّ بعضَ أهلِ العِلمِ استوحشوا ذلك منه فجَفَوه، وكان دُعِيَ إلى وليمةٍ لبعضِ أهلِ العِلمِ، فلم يأبَهوا به ولم يُقَدِّموه؛ فحَمَل ذلك في نَفْسِه وفارقَهم.

 وفي مقابِلِ ذلك نرى جَلَدًا من أتباعِ الباطِلِ في تكثيرِ أتباعهم، والدِّفاعِ عنهم، واستماتَتِهم في نَشْرِ باطِلِهم، وكان لي قريبٌ في المرحلةِ المتوسِّطةِ، وكان كتب قصيدةً فيها شَيءٌ مِن تمَرُّدٍ، ونشَرَها في بعض الصُّحُفِ، فاطلع عليها سفيرٌ سبعينيٌّ، فأرسل له رسالةً خاصَّةً يُثني عليه بها!

 ورأيتُ شابًّا انتحل مَذهَبَ الحَداثيِّينَ في التمَرُّدِ، فجاوز المعهودَ في قَولِه، فأُخِذَ به، فوقف معه الحَداثيُّون وسائِرُ المنحَرِفينَ وُقوفًا عجيبًا، ودافعوا عنه باستماتةٍ حتى ألغَوا ما يستَحِقُّ من العِقابِ!

 وفي مقابِلِ ذلك فإنَّ كثيرًا ممَّن ابتُلُوا وهم على الحَقِّ، لم يلتَفِتْ لهم أحدٌ، فرُبَّما ضَعُفَ بَعضُهم بسَبَبِ ذلك، وانقَلَب على مَنهَجِه السَّابِقِ.

 وتفسيرُ خِذلانِ أهلِ الحَقِّ لأتباعِهم، ونُصرةِ أهلِ الباطلِ لأفراخِهم: أنَّ أهلَ الباطِلِ في مجتَمَعاتِ المسلمين هم الأقليَّةُ، وأهلُ الحَقِّ هم الأكثريَّةُ، ومن السُّنَنِ البشريَّةِ أنَّ الأقليَّةَ دائِمةُ التكَتُّلِ، وتسعى في تكثيرِ الأتباعِ، وتكون معتادةً على أجواءِ التوتُّرِ، وتُتقِنُ التعامُلَ مع الأزَماتِ، بينما الأكثريَّةُ تكونُ في حالةِ أمنٍ واسترخاءٍ، ولم تعتَدْ على أجواءِ التوتُّرِ، ولا تُحِسُّ بفَقدِ بَعضِ أفرادِها؛ لكثرتِهم، كما أنَّ الحُكوماتِ قد تعوَّدت من الأقليَّاتِ على أنواعٍ من التمَرُّدِ، فلا تستنكِرُه منهم مهما كان عظيمًا، بخلافِ الأكثريَّةِ التي يُستكثَرُ منها ما هو صغيرٌ.

السببُ الثاني: الانفصامُ بين العِلمِ والعَمَلِ: فأحيانًا يقع الطَّالبُ على مخالفةٍ وقَعَ فيها شيخُه -وهو يراه مَثَلَه الأعلى- فيسقُطُ من عينه، ويجني على نَفْسِه بإسقاطِ المنهجِ الذي ينتهِجُه شيخُه، ويبحثُ له عن منهجٍ آخَرَ، وقد حُدِّثْتُ عن بعضِ أهلِ العِلمِ ممَّن هام في بعض المبتَدِعةِ، فتعَصَّب له أنَّ بدايةَ ذلك: رِحْلَتُه لشيخٍ يأخذُ عنه، فرأى في بيتِه ما يكرَهُ أن يراه من شَيخِه، فنَفِرَ منه وتحَوَّل إلى شيخٍ مبتَدِعٍ كان قد سَمِعَ به، فرآه على حالٍ من الزُّهدِ لم يَرَه في شيخِه الأوَّلِ، فكان ذلك فتنةً له؛ فلَزِمَه وهام به، وركب شيئًا من بدعتِه. ولو أنَّه أحسن لسأل شيخَه عمَّا كَرِهَ، فلعَلَّه معذورٌ فيه، أو متأوِّلٌ، أو غيرُ ذلك. ولو وُفِّق للهدى لفَرَّق بين عِلمِ الرَّجُلِ وسَمْتِه؛ فليس كلُّ زاهدٍ في الدنيا يصيبُ السُّنَّةَ، وليس كلُّ مخطئٍ في سلوكِه يُهجَرُ لخطَئِه، ولو كان من عُلَماءِ السُّنةِ، والحَقُّ يُعرَفُ بالأدِلَّةِ مِن الشَّريعةِ، ولا يُعرَفُ الحَقُّ بالرِّجالِ، كما أنَّ الباطِلَ يُعرَفُ بُطلانُه بالأدِلَّةِ، ولا يحيلُه زُهدُ صاحبِه إلى حَقٍّ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: ضَعفُ الفِقهِ في علاجِ خَطَأِ مَن أخطأ من أهلِ العِلمِ والصَّلاحِ، أو فَعَل خِلافَ ما هو أَولى، أو ما لا يليقُ بأمثالِه، أو أتى بقولٍ شاذٍّ، فيكونُ حَقُّه التعنيفَ والتقريعَ والسُّخريةَ في كثيرٍ مِن الأحيانِ؛ ممَّا يجعَلُه يُصِرُّ ويكابِرُ ويدافِعُ عن موقِفِه ولو كان خطَأً، وهنا يتسَلَّلُ الشيطانُ إلى قَلْبِه، ويركَبُه أهلُ السُّوءِ والنِّفاقِ؛ لتنفيرِه من أهلِ الاستقامةِ والصَّلاحِ، أو يُحرَجُ فيجتَنِبُهم فيَجِدُ في الطَّرَفِ الآخَرِ من يحسِنُ استقبالَه وتَسْليتَه.

 وأعرِفُ واحدًا من النابهين في العِلمِ خالف في مسائِلَ ولم يكُنْ من أهلِ البَلَدِ الذي عاش طيلةَ عُمُرهِ فيه، فكأنَّ بعضَ الحاسدين له اقتَنَصوا مخالفَتَه، فشَنَّعوا عليه وضايقوه، حتى فارقَهم ورَحَل عن بلادِهم، فتلَقَّفَه آخرون، وأحسَنوا احتواءَه، ووضعوه في مقامِه اللَّائِقِ به علميًّا، وسَخَّروا قُوَّتَه العِلميَّةَ في تشريعِ كثيرٍ مِن الرُّخَصِ على وَفْقِ مَنهَجِهم، ونَقْد المنهجِ السَّابق بحُجَّةِ التشَدُّدِ. ولا شَكَّ في أنَّه يلامُ في ذلك، لكِنَّ النَّفسَ البَشَريَّةَ تَضعُفُ أمامَ المضايقات، وتُستعبَدُ لإحسانِ الآخرين ولو كانوا مخالِفين في المنهَجِ الصَّحيحِ.

 ولو تأمَّلْنا السُّنةَ النَّبَويَّةَ لوجدَنْاها مَليئةً بحِفظِ مكانةِ الشخَّص ِولو أخطَأَ، وعَدَمِ الإسرافِ في الإنكارِ عليه بتنقيصِه والإزراءِ به، وفَرْقٌ بين التعَرُّضِ لشَخْصِه بالهَمْزِ واللَّمزِ والتَّعرُّضِ لقَولِه بالتخطئةِ والنَّقدِ، وكثيرٌ من الناقدين لا يفَرِّقون بينهما، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا أقام الحَدَّ على الشَّارِبِ، فسَبَّه بعضُ القَومِ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ردًا عليهم: ((لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عليه الشَّيْطَانَ، وفي رواية: لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ على أَخِيكُمْ)) ([20])

وكان مِن هَدْيِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنزالُ النَّاسِ مَنازِلَهم([21])، ووَضْعُهم في المقامِ اللائِقِ بهم، وقال في سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضِيَ الله عنه: قوموا إلى سَيِّدِكم([22])، وأنزل سَيِّدَ قُرَيشٍ أبا سفيان منزلَتَه، فقال في الفَتحِ: من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ([23]). فالنابهون والمميَّزون وذوو الشَّأنِ ليسوا كغيرِهم، وينبغي إعطاؤُهم حَقَّهم من التوقيرِ والاحترامِ والاهتمامِ؛ لأنَّ في تأليفِهم خِدمةً للدَّعوةِ وإعزازًا للدِّينِ بهم.

 ومنهجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا البابِ أنَّه كان يعامِلُ كُلَّ أحدٍ بحَسَبِ إيمانِه وقُوَّتِه في الحَقِّ:

 فهَجَر الثَّلاثةَ المخَلَّفين؛ لِمَا ظهر من صدقِهم في عَدَمِ اختلاقِ الأعذارِ؛ وذلك لتربيتِهم، وظهر صِدْقُ توبةِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه في رَفْضِه لعَرْضِ مَلِكِ غَسَّانَ..فلا تكونُ هذه المعاملةُ قاعدةً ثابتةً، ولا تصلُحُ مع كُلِّ أحدٍ.

ولم يُوَلِّ خالِدَ بنَ الوليدِ رَضِيَ الله عنه في أوَّلِ إسلامِه مع شُهرتِه في القيادةِ، وجعَلَه جُندِيًّا تحت قادةٍ هو أَولى بالقيادةِ منهم من الجِهةِ العَسكريَّةِ، وما أرى ذلك -واللهُ أعلَمُ- إلَّا تربيةً له؛ ليكونَ إسلامُه لله تعالى ولا حَظَّ فيه لشيءٍ من الدُّنيا والهوى... فلمَّا صَحَّ ذلك من خالدٍ رَضِيَ اللهُ عنه ولم يتضعضَعْ، أنزله النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ منزلتَه اللَّائقةَ به، ووَلَّاه وقال: سيفٌ مِن سُيوفِ اللهِ([24])، ولَمَّا أخطأ تبَرَّأَ من خَطَئِه وقال: اللَّهُمَّ أبرَأُ إليك ممَّا فعل خالِدٌ) ([25])، لكِنَّه لم يُهدِرْه ولم يعزِلْه. وهكذا فَعَل الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه، فلمَّا تولَّى عُمَرُ خَشِيَ أن يُفتنَ النَّاسُ به، فعزَلَه ولم يُهدِرْ منزلتَه، بل أمر أبا عُبَيدةَ أن يستشيرَه في الحَرْبِ.

وأعطى المؤلَّفةَ قُلوبُهم وترك الأنصارَ، والأنصارُ أسلموا ولم يريدوا من الدنيا شيئًا، لأنَّ النبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا أسلموا ما كان عنده شيءٌ، بل خاطروا بدنياهم لأجْلِه، وهذا من أبينِ الأدِلَّةِ على تمكُّنِ الإيمانِ من قلوبِهم، فعاملهم بحسَبِ إيمانِهم.

 والمخطِئون في معاملةِ مَن أخطأ من النابهين على طرفَينِ: فطَرَفٌ يداهِنُهم في دينِ اللهِ تعالى لإرضائِهم، ويوافِقُهم في بعضِ باطِلِهم بزَعمِ أن يقبلوا الحَقَّ الذي عنده، وهي طريقةُ من يظنُّون أنَّهم من أهلِ التيسيرِ، وهم في الحقيقةِ أهلُ التمييعِ والمُداهَنةِ في دينِ اللهِ تعالى مع الكُفَّارِ والمنافقين والمنحرِفين، ولَمَّا ساومت قريشٌ رَسولَ اللهِ على دينِه، أنزل اللهُ تعالى سورةَ الكافرون؛ ليعلَمَ النَّاسُ أنَّه لا مساومةَ على دينِ اللهِ تعالى، وحَسَم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الأمرَ، فقال: ((فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، واللهِ إنِّي لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ على الذي بعَثَني اللهُ له حتى يُظْهِرَهُ اللهُ له، أو تَنْفَرِدَ هذه السَّالِفَةُ!))([26]) يعني: رقَبَتَه الشَّريفةَ.

وطَرَفٌ آخَرُ يجفوهم ولا يأبَهُ بهم، وإذا أخطَؤوا عَنَّف عليهم وتجاوز في انتقادِه لهم، فتخسَرُهم الأمَّةُ بسَبَبِ هذه المواقفِ التي يمكِنُ اجتنابُها. وينتُجُ عن خروجِهم من صَفِّ الدَّعوةِ مفاسِدُ، أهمُّها:

1- رُبَّما خَسارتُهم لدينِهم، كمن ألحَدوا أو انتَهَجوا مناهِجَ الشَّكِّ، أو صَحَّحوا أديانَ الكُفَّارِ، نسألُ اللهَ تعالى العافيةَ.

2- خَسارةُ الأمَّةِ لطاقاتٍ نابهةٍ.

3- استخدامُ أعداءِ الإسلامِ لهم، وتجييشُهم ضِدَّ الدَّعوةِ والدُّعاةِ مِن أوجُهٍ:

أ‌- الاستفادةُ ممَّا لديهم من معلوماتٍ شرعيَّةٍ للطَّعنِ في الشريعةِ أو للاستدلالِ على ما يريدون من انحرافِ النَّاسِ، وقد رأينا بعد موجاتِ الارتدادِ والانقلابِ أنَّ كثيرًا من وسائِلِ الإعلامِ التي تدعو النَّاسَ إلى الفسادِ والثورةِ على الدِّينِ صارت تَعرِضُ من النُّصوصِ والأقوالِ ما يؤيِّدُ شُبُهاتِها، وُكُّل هذا إنما يؤخَذُ من هؤلاء المنقلِبين على أعقابِهم، سواءٌ كان مباشرةً وبأقلامِهم، أم بواسطةٍ.

ب‌- محاولةُ إقناعِ المترَدِّدين بهؤلاء الذين سبقوهم إلى الانحرافِ، وخاصَّةً أنَّهم يَصِفونَهم بالجَراءةِ والشَّجاعةِ والتحَرُّرِ من التقليدِ، ويُلقُونَ في أنفُسِهم بأنَّهم روَّادٌ وطلائِعُ للتغييرِ وللنَّهضةِ المنتَظَرةِ.

ت‌- الصَّدُّ عن دينِ اللهِ تعالى، كأنَّهم يقولون لِمن يريدُ الاستقامةَ على دينِ اللهِ تعالى والانتظامَ في سِلْكِ الصَّالحينَ: هؤلاء جَرَّبوا الطَّريقَ قَبْلَك.

ث‌- كَشفُ عَوراتِ المسلمين، بذِكْرِ ما رأوا على الصَّالحينَ والدُّعاةِ والعُلَماءِ من هفَواتٍ وزَلَّاتٍ لا يَسلَمُ منها بَشَرٌ، وتضخيمِها والكَذِبِ عليها. ومن ذلك اتهامُ الجمعيَّاتِ الخيريَّةِ أو حَلَقاتِ التحفيظِ أو المراكِزِ الصيفيَّةِ ونحوِها.

ج‌- بَثُّ الشُّبُهاتِ في دينِ اللهِ تعالى، فكثيرٌ منهم حَضَروا مجالِسَ العُلَماءِ والدُّعاةِ، ويُعرَضُ فيها بعضُ المسائِلِ الخلافيَّةِ والمُشكِلةِ، أو التي يثيرُها الخصومُ فيتلقَّفُها، فإذا انقلب صار يُشَغِّبُ بها على العِلمِ والعُلَماءِ والدَّعوةِ والدُّعاةِ، وقد أخذها منهم. 

  السَّببُ الرَّابعُ: اختيارُ أضعَفِ ما عند الخصومِ من أصحابِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ أو التياراتِ الفِكريَّةِ المنحَرِفةِ، والرَّدُّ عليه، والإلقاءُ في رُوعِ الأتباعِ أنَّ الشُّبهةَ انتهت وأنَّ حُجَّةَ الخَصمِ سخيفةٌ أو ضعيفةٌ، وهي في واقِع الأمرِ ليست كذلك، فمع الانفتاحِ الإعلاميِّ والثقافيِّ صار الشابُّ يَطَّلِعُ على ما عند الآخرين، وإذا هو ليس ضعيفًا كما صوَّره شيخُه، بل فيه قوَّةٌ، ويحتاجُ في ردِّه إلى حُجَّةٍ، فينحَرِفُ بسَبَبِ ضَعفِ جوابِ شَيخِه، أو يجِدُ شُبُهاتٍ أُخرى لم يتعرَّضْ لها شيخُه.

أسبابُ التثبيتِ على الحَقِّ:

 من رحمةِ اللهِ تعالى بعبادِه أنَّه لَمَّا ابتلى أهلَ الحَقِّ بفتنةِ أعدائِهم لهم، وتسَلُّطِهم عليهم، وانقلابِ بعضِ إخوانِهم على مناهِجِهم، فإنَّه سبحانه بَيَّن أسبابَ الثَّباتِ على الحَقِّ؛ ليحافِظَ عليها من أراد الثباتَ، ومِن تِلْكم الأسبابِ:

1- قراءةُ القُرآنِ بتدَبُّرٍ، ففيه قَصَصُ الثابتين على الحَقِّ؛ للاقتداء بهم، وقَصَصُ الناكصين؛ للحَذَرِ مِن سلوكِ مَسْلَكِهم. قال الله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].

 2- نُصرةُ الدِّينِ بشَتَّى أنواعِ النُّصرةِ؛ بلِسانِه، أو قَلَمِه، أو يَدِه، والدَّفعُ عن الإسلامِ؛ فإنْ فاته شَرَفُ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى بيَدِه، فلا يفوته شَرَفُ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ؛ فإنَّه من الجهادِ، وخيرُ وسيلةٍ للدِّفاعِ هي الهُجومُ، ومن كان ناصرًا لدينِ اللهِ تعالى فإنَّه يستحيي أن ينقَلِبَ عليه، واللهُ تعالى وعَدَ مَن نَصَر دينَه بالنَّصرِ، والمنصورُ يثبُتُ على الحَقِّ ولا ينقَلِبُ عليه. قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].

 3- الدُّعاءُ بالثَّباتِ؛ فله أثَرٌ عجيبٌ في ذلك، ذلك أنَّ القُلوبَ بيَدِ اللهِ تعالى، قال الله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة:250]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [آل عمران:147]، وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)).

4- الاستِعاذةُ باللهِ تعالى من الكُفرِ والنِّفاقِ؛ فقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعوَّذُ بالله تعالى من الكُفرِ، وهو معصومٌ منه([27])، وإذا خرج من مَنزِلِه تعوَّذ من الزَّلَلِ والضَّلالِ والظُّلمِ والجَهْلِ([28])، وكان يتعوَّذُ باللهِ تعالى من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ([29])، قال الترمذيُّ في معناه: (إِنَّما هو الرُّجُوعُ مِن الْإِيمَانِ إلى الكُفْرِ، أَوْ مِن الطَّاعَةِ إلى المَعْصِيةِ، إِنَّما يَعْنِي الرُّجُوعَ مِنْ شَيْءٍ إلى شَيْءٍ مِن الشَّرِّ) ([30]).

5- فِعلُ المأموراتِ، واجتنابُ المحظوراتِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يُزَيِّنُ للعاصي تسويغَ معصيتِه بالدِّينِ؛ قال اللهُ تعالى في العاصين من بني إسرائيلَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66].

 مع السَّعيِ الجادِّ في طاعةِ اللهِ تعالى، وكثرةِ عبادتِه؛ فأهلُ الكَهْفِ لَمَّا سَعَوا إلى طاعةِ رَبِّهم، وهَرَبوا من شِرْكِ قَومِهم، أعانهم اللهُ تعالى على ما أرادوا، وثَبَّتَهم عليه، وقَصَّ اللهُ تعالى علينا خَبَرَهم لنتأسَّى بهم في الثباتِ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، والصَّحابةُ لَمَّا خرجوا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للحُدَيبيَةِ طائعين لله تعالى، ثَبَّتهم اللهُ تعالى على إيمانِهم. قال اللهُ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. مع مجاهدةِ النَّفسِ على الإيمانِ والطَّاعةِ، والبُعدِ عن المحرَّماتِ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فوعَدَ اللهُ تعالى بهدايتِهم متى ما جاهدوا أنفُسَهم، وخَصَّهم بمعِيَّتِه؛ لأنَّهم مُحسِنون.

 6- قِراءةُ سِيَرِ السَّلَفِ من الثابتينَ على الحَقِّ {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]؛ ولذلك قَصَّ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على خبَّابٍ رَضِيَ اللهُ عنه سِيَرَ الثابتين قَبْلَهم، لَمَّا شكَوا إليه ما يَلقَونَ مِن الأذى. ومنه قِصَّةُ السَّاحِرِ والغُلامِ والكاهِنِ، وقَولُ الغلامِ لَمَّا خُدَّت الأخاديدُ: (يا أُمَّهْ، اصبِري؛ فإنَّكِ على الحَقِّ)([31]).

 7- تعاهُدُ القَلبِ ومَلْئُه بمحبَّةِ اللهِ تعالى ومحبَّةِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ ذلك يدفَعُ للثَّباتِ والتَّضحيةِ، فالوالِدُ مِن فَرْطِ محبَّتِه لوَلَدِه يَفْديه بحياتِه، والعَشيقُ يفدي معشوقتَه. ومحبَّةُ اللهِ تعالى أكبَرُ وأسمى من محبَّةِ الوَلَدِ والمعشوقةِ؛ لِما لله تعالى من أفضالٍ كثيرةٍ على العبدِ، ولحاجةِ العبدِ الدَّائِمةِ إلى العبوديَّةِ لله تعالى.

 8- كراهيةُ الكُفرِ وأهلِه، واستحضارُ عاقبتِهم دائِمًا، كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: (( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كانَ اللَّهُ وَرَسُولُه أَحَبَّ إليه مِمَّا سِوَاهما، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّه إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَه اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)) ([32]).

 9- التواصي بالحَقِّ وبالصَّبرِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى استثني من الخُسرانِ من تواصَوا بهما؛ قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، وكذلك الصَّلاةُ والمحافَظةُ عليها كما في الآياتِ الأخرى، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا حَزَبَه أمرٌ صَلَّى..

 10- كثرةُ ذِكرِ اللهِ تعالى {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد:28] وطمأنينتُها سَبَبٌ لثباتِها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].

11- لُزومُ التقوى؛ فبها ينالُ العَبدُ بُرهانًا ونورًا وفُرقانًا يَعرِفُ به الحَقَّ مِن الباطلِ، فلا يلتَبِسُ عليه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة:282]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28]، فمَن عَلَّمه اللهُ تعالى، ورزَقَه فُرقانًا، وجعل له نورًا؛ فلن يَزيغَ أو يَضِلَّ أو يَضعُفَ.

--------------------------------------------------------------------------------

 

([1]) رواه من حديثِ عُمَرَ رضي الله عنه: البخاري (54) ومسلم (1907).

([2]) المنتظم: 13/163.

([3]) الاستقامة: 2/91.

([4]) رواه من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: البخاري (5378) ومسلم (220).

([5]) رواه من حديثِ خَبَّابٍ رضي الله عنه: البخاري (3416).

([6]) رواه أحمد: 5/405، والترمذي، وقال: حسنٌ غريبٌ (2254)، وابن ماجه (4016).

([7]) رواه أبو داود (4341) والترمذي، وقال: حسنٌ غريبٌ (3058)، وابن ماجه (4014)، وصَحَّحه ابنُ حِبَّان (385).

([8]) رواه أحمد: (2/162)، وأبو داود (4342)، وابن ماجه (3957)، وصححه ابن حبان (5951).

([9]) رواه ابن أبي شيبة: 7/504.

([10]) رواه ابن أبي شيبة: 7/504.

([11]) رواه ابن أبي شيبة: 7/470.

([12]) رواه ابن عبد البر في التمهيد: 24/314.

([13]) رواه ابن سعد في الطبقات: 7/95.

([14]) رواه ابن عبد البر في التمهيد: 23/283.

([15]) التمهيد: 23/281- 282.

([16]) تفسير ابن كثير: 4/178.

([17]) مفتاح دار السعادة: 1/140.

([18]) رواه المروزي في الورع (5)، وينظر: جامع العلوم والحكم: 95.

([19]) تفسير التحرير والتنوير: 15/239.

([20]) رواه من حديثِ أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: البخاري (6395-6399).

([21]) كما في حديثِ أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، عند أبي داود (4842).

([22]) رواه من حديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه: البخاري (2878) ومسلم (1768).

([23]) رواه من حديث أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: مسلم (1780).

([24]) رواه من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه: البخاري (4014).

([25]) رواه من حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: البخاري (4084).

([26]) رواه من حديثِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ ومروانَ بنِ الحَكَمِ: أحمد: 4/323.

([27]) كما في حديث أبي بَكْرةَ رضي الله عنه، عند أحمد: 34/17 ط: الرسالة، وصَحَّحه ابن خزيمة (747)، وابن حِبَّان (1028).

([28]) كما في حديثِ أمِّ سَلَمةَ رضي الله عنها، عند أبي داود (5094)، وصحَّحه ابنُ خزيمة (747)، وابنُ حِبَّان (1028).

([29]) كما في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ سَرجسَ رضي الله عنه، عند الترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ (3439).

([30]) جامع الترمذي، ط: شاكر5 / 498.

([31]) رواه من حديثِ صُهَيبٍ رضي الله عنه: مسلم (3005).

([32]) رواه البخاري (21) ومسلم (43).