مقالات وبحوث مميزة

 

 

تتَبُّـعُ الرُّخَصِ

الشيخ هشام السعيد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصَحبِه أجمعينَ، وبعدُ:

هذا بحثٌ مُوجَزٌ في حقيقةِ المرادِ بتتَبُّعِ الرُّخَصِ وكلامِ أهلِ العِلمِ في حُكمِه، وقد تكلَّم غالِبُ الأصوليِّين في (تتبُّع الرُّخَص) عقيبَ كلامِهم في مسألةِ (التزام العامِّي مذهبًا مُعَيَّنًا) من حيثُ إنَّها مبنيَّةٌ على مسألةِ التزامِ المذهَبِ ومخرَّجة عليها(1).

وقد جعلتُ الكلامَ فيه وَفقَ الخِطَّةِ الآتيَة:

• المبحثُ الأوَّلُ: حقيقةُ تتَبُّعِ الرُّخَصِ.

• وفيه مطلبان:

المطلبُ الأوَّلُ: المرادُ بتتَبُّعِ الرُّخَصِ.

المطلب الثاني: الفَرقُ بين تتبُّعِ الرُّخَصِ والتلفيقِ.

• المبحثُ الثاني: حكمُ تتَبُّعِ الرُّخَصِ.

أسأل اللهَ تعالى أن ينفع به، وأن يجعلَه خالصًا صوابًا، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه وسَلَّم.

• المبحثُ الأوَّلُ: حقيقةُ تتَبُّعِ الرُّخَصِ.

• وفيه مطلبان:

المطلب الأوَّلُ: المرادُ بتَتَبُّع الرُّخَصِ.

1 - الإطلاقُ اللُّغويُّ:

تطلق الرُّخْصَة (بإسكان الخاء وضمها) في اللغة، ويراد بها: التخفيفُ والتسهيلُ والتيسيرُ، وأصلُ الكلمة كما يقول ابنُ فارس "يدلُّ على لِينٍ وخِلافِ شِدَّةٍ" (2).

2- الإطلاقُ الاصطلاحيُّ:

يظهَرُ من خِلالِ تتبُّعِ استعمالاتِ أهلِ العِلمِ لكلمةِ (الرُّخصة) أنَّ لها في عُرْفِهم معنيَينِ:

الأول: الرُّخصةُ الشَّرعيَّةُ، وهي (ما ثبت على خلافِ دليلٍ شَرعيٍّ لمعارض راجحٍ)(3)، وهي التي تُطلَقُ في مقابِلِ (العزيمة).

وهذا الاستعمالُ غيرُ مرادٍ في هذا البَحثِ؛ لأنَّه لا إشكالَ في الأخذِ بها، بل دلَّت النصوصُ الشَّرعيَّة على مشروعيَّة الأخذ بها، كما في قوله: "عليكم برُخصةِ الله الذي رَخَّص لكم"(4).

الثاني: الرُّخصةُ الفقهيَّة، وهو المرادُ هنا، وقد جاء هذا المعنى وفق الاستعمال اللُّغويِّ؛ فهو بمعنى التسهيل والتخفيف، وتَتَبُّعُ الرُّخَصِ هو طلب التخفيف في الأحكامِ الشَّرعيَّة.

وقد ذكر جمعٌ من أهل العلمِ تعريفاتٍ لتَتَبُّع الرُّخَصِ، أذكر منها ما وقفتُ عليه:

1- عَرَّفه الزركشيُّ بأنَّه: "اختيارُ المرءِ من كل ِّمَذهَبٍ ما هو الأهوَنُ عليه"(5).

2- وعرَّفه الجلال المحلِّي بقوله: "أن يأخُذَ من كُلِّ مذهَبٍ ما هو الأهوَنُ فيما يقع من المسائِلِ"(6).

3- وحكى الدسوقي وغيره من المالكيَّة تعريفين:

الأول: "رفعُ مشَقَّةِ التكليف باتباعِ كُلِّ سَهلٍ".

الثاني: "ما يُنقَضُ به حكمُ الحاكِمِ من مخالفِ النَّصِّ وجَلِيِّ القياسِ"(7).

4- وعرَّفه المجمَعُ الفِقهيُّ بأنَّه: "ما جاء من الاجتهاداتِ المذهبيَّةِ مُبيحًا لأمرٍ في مقابلةِ اجتهاداتٍ أخرى تحظُرُه"(8).

5- وعرَّفه بعضُ الباحثين بأنَّه: "تطلُّبُ السُّهولة واليُسر في الأحكامِ، فمتى ما رأى المتتَبِّعُ للرُّخَصِ الحُكمَ سَهلًا في مذهَبٍ سَلَكه وقلَّده فيه، وإن كان مخالفًا لمذهَبِه هو الذي يلتَزِمُ تقليدَه"(9).

المطلبُ الثاني: الفَرقُ بين تَتَبُّع الرُّخَصِ والتلفيق.

يمكن إيضاحُ الفروقِ بين الأمرينِ في الآتي(10):

1- أنَّ تَتَبُّع الرُّخَصِ يكون بأخذ القولِ الأخَفِّ والأسهَلِ، وأمَّا التلفيقُ فحقيقتُه الجمعُ بين قولين، وبناءً على ذلك؛ فإنَّه قد يكونُ بأخذِ القولِ الأخَفِّ والأسهَلِ، وقد يكونُ بأخذِ القَولِ الأثقَلِ.

2- أنَّ تَتَبُّعَ الرُّخَصِ يكونُ في الحُكمِ، ويكونُ في أجزائِه، وأمَّا التلفيقُ فإنَّه لا يكونُ إلَّا في أجزاءِ الحُكمِ الواحِدِ لا في جزئياتِ المسائِلِ.

3- تَتَبُّع الرُّخَصِ ليس فيه إحداثُ قَولٍ جديدٍ في المسألة، وإنما يتَّبِع الإنسانُ رخصةً قال بها بعضُ العُلَماءِ، وأمَّا التلفيق فإن القَولَ الناتج عنه لم يقُلْ به أحدٌ من العلماء، وإنما هو جمعٌ أو تصرُّفٌ في أقوال العُلَماء.

• المبحثُ الثَّاني: حُكمُ تَتَبُّع الرُّخَصِ.

• تحريرُ محَلِّ النِّـزاعِ:

1- اتَّفَق الفُقَهاءُ على أنَّ الانتقالَ إذا كان للتلَهِّي فهو حرام قطعًا؛ لأنَّ التلهِّيَ حرامٌ بالنُّصوصِ القاطعة، وذلك كأن يعمَلَ الحنفيُّ بالشِّطرنجِ على رأيِ الشَّافعيِّ قصدًا للهوى(11).

2- نصَّ الإمامُ أحمدُ وغيرُه أنَّه ليس لأحَدٍ أن يعتَقِدَ الشَّيءَ واجبًا أو حرامًا ثمَّ يعتَقِده غيرَ واجبٍ أو غيرَ حرامٍ بمُجَرَّدٍ هواه، مثلُ أن يكونَ طالبًا لشُفعةِ الجِوارِ فيعتَقِدُها أنَّها حَقٌّ له، ثمَّ إذا طُلِبَ منه شفعةُ الجوارِ اعتقد أنَّها ليست ثابتةً؛ اتباعًا لقولِ عالمٍ آخرَ، فهذا ممنوعٌ من غير خِلافٍ(12).

3- كما ينبغي أن يخرُجَ من محَلِّ النِّـزاعِ أن المجتَهِدَ إذا أوصله اجتهادُه إلى رأيٍ في مسألةٍ أنَّه لا يَترُك ما توصَّل إليه، بل عليه المصيرُ إلى ما أدَّاه إليه اجتهادُه(13).

4- ما عدا ما سبق، فقد اختلفوا فيه على أقوالٍ، أشهرها ثلاثة:

القول الأوَّلُ:

منعُ تَتَبُّع الرُّخَصِ مطلقًا.

وإليه ذهب ابن حزمٍ، والغزاليُّ، والنوويُّ، والسُّبكي، وابنُ القَيِّم، والشاطبي(14).

ونقل ابن حزمٍ وابن عبد البرِّ الإجماعَ على ذلك(15).

واختلف أصحابُ هذا القَولِ في تفسيق متَتَبِّعِ الرُّخَصِ على رأيين:

الأول: أنَّه يَفسُقُ، وهو روايَة عن أحمد اختارها ابن القَيِّم وغيرُه(16)، وهو رأيُ أبي إسحاقَ المَرْوزيِّ من الشافعيَّة(17).

وخصَّ القاضي أبو يعلى التفسيقَ بالمجتهد الذي أخذ بها خلافًا لما توصَّل إليه اجتهادُه، وبالعامِّي الذي أخذ بها دون تقليدٍ(18).

الثاني: أنَّه لا يَفسُقُ، وهو روايَة أخرى عن أحمد(19).

وقال بها ابنُ أبي هُرَيرة من الشافعيَّة(20).

واستدل أصحابُ القَولِ الأوَّلِ بالآتي:

1- أنَّ الله تعالى أمر بالردِّ إليه وإلى رسوله، واختيارُ المقلِّد بالهوى والتشهِّي مُضادٌّ للرُّجوعِ إلى اللهِ ورَسولِه(21).

2- أن تَتَبُّع الرُّخَصِ مؤدٍّ إلى إسقاطِ التكليف في كُلِّ مسألة مختَلَف فيها؛ لأنَّ له أن يفعَلَ ما يشاء ويختارَ ما يشاء، وهو عينُ إسقاطِ التكليفِ، فيُمنَعُ سَدًّا للذَّريعةِ(22).

3- أن القول بتَتَبُّع الرُّخَصِ يترتَّب عليه مفاسِدُ عظيمةٌ؛ منها:

أ - الاستهانةُ بالدِّين، فلا يكونُ مانعًا للنُّفوسِ من هواها، ومن مقاصِدِ الشَّرع إخراجُ الإنسانِ عن داعيَةِ هواه، والقولُ بإباحة تَتَبُّع الرُّخَصِ فيه حثٌّ لإبقاء الإنسان فيما يحَقِّقُ هواه.

ب- الانسلاخُ من الدِّينِ بتَرْكِ اتِّباعِ الدَّليل إلى اتِّباع الخلاف، ثمَّ إنَّه لا يوجَدُ مُحَرَّم إلَّا وهناك من قال بإباحتِه، إلا ما ندر من المسائِلِ المجمَعِ عليها، وهي نادرة جدًّا.

ج- انخرامُ قانون السياسة الشَّرعيَّة بترك الانضباطِ إلى أمرٍ معروفٍ، فتضيع الحقوقُ، وتُعطَّل الحدودُ، ويَجترئُ أهلُ الفساد.

د- إفضاؤُه إلى القَولِ بتلفيق المذاهِبِ على وَجهٍ يخرِقُ إجماعَهم(23).

ويعضِّدُ أصحابَ هذا القَولِ مذهبُهم بالآثارِ المرويَّة عن السَّلَفِ في ذَمِّ تَتَبُّع الرُّخَصِ، ومن ذلك:

- قول الأوزاعي: "من أخذ بنوادِرِ العُلَماء خرج من الإسلامِ"(24).

- وقوله أيضًا: "يُترك من قولِ أهلِ مكَّة المتعةُ والصَّرف، ومن قول أهل المدينة السَّماعُ وإتيانُ النِّساءِ في أدبارِهن، ومن قول أهل الشَّامِ الجبرُ والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النَّبيذُ والسَّحور"(25).

- وعن إسماعيلَ بن إسحاق القاضي قال:" دخلتُ على المعتَضِدِ فدفع إليَّ كتابًا نظرتُ فيه، وكان قد جُمِع له الرُّخَصُ من زَلَل العُلَماء وما احتجَّ به كلٌّ منهم لنفسه، فقلت له: يا أميرَ المؤمنين مصَنِّفُ هذا الكتابِ زِنديقٌ، فقال: لم تَصِحَّ هذه الأحاديثُ؟ قلت: الأحاديثُ على ما رُوِيَت، ولكِنْ من أباح المسكِرَ لم يُبِحِ المتعةَ، ومن أباح المُتعةَ لم يُبِحِ الغِناءَ والمُسكِرَ، وما من عالمٍ إلا وله زَلَّةٌ، ومن جمعَ زَلَل العُلَماء ثم أخذ بها، ذهب دينُه، فأمر المعتَضِدُ فأُحرِقَ ذلك الكتابُ"(26).

- وعن سليمان التيمي قال: "لو أخذتَ برخصة كُلِّ عالِم اجتمع فيك الشرُّ كلُّه"(27).

القولُ الثَّاني:

جواز تَتَبُّع الرُّخَصِ.

وقال به من الحنفيَّة السرخسي، وابن الهمام، وابن عبد الشكور، وأمير باد شاه(28).

واستدلُّوا بالآتي:

1- الأدِلَّةُ الدَّالَّةُ على يُسرِ الشريعة وسماحتها، كقوله تعالى:

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(29).

وقولِه: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(30).

قولُ عائشةَ رضي الله عنها: (ما خُيِّرَ النبيُّ بين أمرينِ إلا اختار أيسَرَهما ما لم يكن إثمًا)(31)، وغير ذلك من النُّصوصِ الواردة في التوسِعة، والشَّريعةُ لم تَرِد لمقصَدِ إلزام العبادِ المشاقَّ، بل بتحصيل المصالح الخاصَّة، أو الرَّاجِحة وإن شقَّت عليهم(32).

ونوقش/ بأنَّ السَّماحَ واليُسرَ في الشَّريعة مقيَّدٌ بما هو جارٍ على أصولها، وليس تَتَبُّع الرُّخَصِ ولا اختيارُ الأقوالِ بالتشهِّي بثابتٍ من أصولها، بل هو مما نُهِيَ عنه في الشريعةِ؛ لأنَّه ميلٌ مع أهواءِ النفوس، والشَّرعُ قد نهى عن اتِّباعِ الهوى(33).

2- أنَّه لا يمنَعُ منه مانعٌ شرعي؛ فللإنسانِ أن يسلُكَ الأخَفَّ عليه إذا كان إليه سبيلٌ(34).

ونوقِشَ بعدم التسليمِ؛ لأن تَتَبُّعَ الرُّخَصِ عَمَلٌ بالهوى والتشهِّي، وقد نُهِيَ عنه.

3- أنَّه يلزمُ من عدم الجواز استفتاءُ مُفتٍ بعينِه، وهذا باطِلٌ(35).

ونوقِشَ بأنَّ اللازمَ باطِلٌ، بل هو مأمورٌ بتقليد من يَثِقُ بدينه ووَرَعِه دون الاختيار المبنيِّ على الهوى.

4- أنَّ الخِلافَ رحمةٌ، فمن أخذ بأحدِ الأقوالِ، فهو في رحمةٍ وسَعةٍ(36).

ونوقِشَ بأنَّ الخِلافَ ليس في ذاتِه رحمةً، بل هو شَرٌّ وفُرقةٌ، ولكن مرادُ من أطلق: الخلافُ رحمةٌ: أنَّ فَتحَ باب الخلاف والنَّظَر والاجتهاد رحمةٌ بالأمَّةِ، بحيث يكون التكليفُ مربوطًا بما يراه المجتَهِدُ بعد النَّظَرِ في الأدِلَّةِ.

القولُ الثَّالِثُ:

جوازُ الأخذِ بالرُّخَصِ بشروطٍ، واختلف المشتَرِطون:

1- فقيَّد العِزُّ بن عبد السلام الجوازَ بألَّا يترتَّبَ عليه ما يُنقَض به حُكمُ الحاكم، وهو ما خالف النَّصَّ الذي لا يحتَمِلُ التأويلَ، أو الإجماعَ، أو القواعِدَ الكليَّة، أو القياسَ الجَلِيَّ(37).

2- وتبعه القرافي وزاد: شرط ألَّا يجمَعَ بين المذاهِبِ على وجهٍ يخرقُ به الإجماع(38).

3- وزاد العَطَّار على شرط القرافي شرطينِ، هما(39):

أ- أن يكون التتَبُّعُ في المسائِلِ المدَوَّنة للمجتهدين الذين استقرَّ الإجماعُ عليهم، دون من انقَرَضَت مذاهبُهم.

ب- ألا يَترُك العزائِمَ رأسًا بحيث يخرجُ عن رِبقةِ التكليف الذي هو إلزامُ ما فيه كُلفةٌ.

4- وقَيَّد ابن تيميَّة الجوازَ بأن يكون على سبيلِ اتِّباعِ الأرجَحِ بدليله، وفي ذلك يقولُ:

"من التزم مذهبًا معَيَّنًا ثم فعل خلافَه من غير تقليدٍ لعالم آخَرَ أفتاه، ولا استدلالٍ بدليلٍ يقتضي خلافَ ذلك، ومن غير عذرٍ شَرعيٍّ يبيحُ له ما فعله؛ فإنه يكونُ متَّبِعًا لهواه، وعاملًا بغير اجتهادٍ ولا تقليدٍ، فاعلًا للمُحَرَّمِ بغيرِ عُذرٍ شَرعيٍّ، فهذا منكَرٌ.

وأمَّا إذا تبَيَّن له ما يوجِبُ رُجحانَ قَولٍ على قولٍ، إمَّا بالأدِلَّةِ المفَصَّلة إن كان يعرِفُها ويفهَمُها، وإمَّا بأن يرى أحَدَ رجُلَين أعلَمَ بتلك المسألة من الآخَرِ، وهو أتقى لله فيما يقولُه، فيرجع عن قَولٍ إلى قولٍ لِمثل هذا؛ فهذا يجوز بل يجِبُ، وقد نصَّ الإمامُ أحمد على ذلك"(40).

5- أمَّا مجمَعُ الفِقهِ الإسلاميُّ فقد نصَّ على أنَّ الرُّخَصَ في القضايا العامَّة تُعامَل معاملةَ المسائِلِ الفقهيَّة الأصليَّة إذا كانت محقِّقةً لمصلحةٍ معتَبَرةٍ شرعًا، وصادرةً عن اجتهادٍ جماعيٍّ ممن تتوافر فيهم أهليَّةُ الاختيارِ، ويتَّصِفون بالتقوى والأمانة العلميَّة.

ونصُّوا على أنَّه لا يجوزُ الأخذُ برُخَصِ الفقهاء لمجرَّدِ الهوى؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى التحلُّلِ من التكليفِ، وإنما يجوز الأخذُ بالرُّخَصِ وَفقَ الضوابطِ الآتيَة(41):

• أن تكونَ أقوالُ الفقهاء التي يُترخَّصُ بها معتَبَرةً شَرعًا، ولم توصَفْ بأنَّها من شواذِّ الأقوالِ.

• أن تقومَ الحاجةُ إلى الأخذِ بالرُّخصةِ دفعًا للمشَقَّةِ، سواءٌ أكانت حاجةً عامَّةً للمجتَمَعِ أم خاصَّةً أم فرديَّة.

• أن يكونَ الآخِذُ بالرُّخَصِ ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتَمِدَ على من هو أهلٌ لذلك.

• ألا يترتَّبَ على الأخذِ بالرُّخَصِ الوقوعُ في التلفيقِ الممنوعِ.

• ألَّا يكونَ الأخذُ بذلك القولِ ذريعةً للوصول إلى غرضٍ غيرِ مشروع.

• أن تطمَئِنَّ نفسُ المترخِّصِ للأخذِ بالرُّخصة.

وهذا الأخيرُ هو ما يظهر رجحانُه -والله أعلم- فلا ينبغي إطلاقُ القَولِ بالمنع ولا بالجوازِ، بل الظَّاهِرُ أنَّ القائلين بالمنعِ يبيحون الترَخُّصَ بالضَّوابطِ المذكورة ولو لم يصرِّحوا بذلك، وكذا المجيزون لا يجيزون إلا بمراعاةِ الضوابط المذكورة، فتكونُ المسألةُ -مع مراعاة تحريرِ محَلِّ النـزاعِ- قريبةً لأن تكونَ مَحَلَّ اتفاقٍ، وأن حقيقةَ الخلاف إنما هي فيما بُنِيَت عليه مسألةُ تَتَبُّع الرُّخَصِ، وهي مسألةُ التزامِ العامِّي مذهبًا مُعَيَّنًا.

• ثمرةُ الخلاف:

ذكر الزَّركشي أنَّ من فروع المسألة: هل يجوزُ للشَّافعي مثلًا أن يشهَدَ على الخَطِّ عند المالكيِّ الذي يرى العَمَلَ به أم لا ؟ صرَّح ابنُ الصبَّاغِ بأنَّه لا يجوز، وهو ظاهِرُ كلامِ الشافعيَّة؛ فإنهم قالوا: ليس له أن يشهَدَ على خَطِّ نَفْسِه، والظَّاهِرُ الجوازُ إذا وَثِقَ به وقَلَّد المخالف، ويدل عليه: تصحيحُ النووي قبولَ شهادةِ الشَّاهدِ على ما لا يعتَقِدُه؛ كالشَّافعيِّ يَشهَدُ بشُفعةِ الجوار.

وذكر من الفروعِ: أنَّ الحنفيَّ إذا حكَمَ للشافعيِّ بشُفعةِ الجوارِ، هل يجوزُ له أم لا؟ فيه وجهان أصحُّهما: الحِلُّ، وهذه المسألة تشَكِّلُ على قاعدتهم في كتابِ الصَّلاةِ أنَّ الاعتبارَ بعقيدة الإمامِ لا المأمومِ(42).

• سبب الخلاف:

لعلَّ الخلافَ في المسألةِ عائدٌ إلى أمرين:

الأول: التلفيقُ؛ فعلى القَولِ بمنع التلفيق يُمنَعُ من تَتَبُّع الرُّخَصِ، وعلى القَولِ بجواز التلفيقِ يتخرَّجُ الخلافُ في تَتَبُّع الرُّخَصِ.

الثاني: -وهو الأقرَبُ- هل يجِبُ على العامِّي التزامُ مذهَبٍ معَيَّنٍ؟

فمن قال بوجوبِ ذلك: منع تتبُّعَ الرُّخَصِ، ومن قال بعَدَمِ وجوبِ التزامِ مَذهَبٍ معَيَّنٍ، وأنَّه يجوزُ مخالفةُ إمامه في بعض المسائل؛ أجرى الخلافَ في تتبُّعِ الرُّخَصِ(43).

وكذا تتبُّعُ المجتَهِدِ للرُّخَصِ يمكن أن تُبنى على مسألةِ تقليد العالِم للعالِم؛ فمن منع، منع تَتَبُّعَ الرُّخَصِ، ومن أجاز أجرى الخلافَ فيه. والله أعلم.

هذا ما تيسَّر جمعُه وتحريرُه، وأسألُ الله أن يجعلَه خالصًا صوابًا، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه وسَلَّم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

 

---------------------------------

(1) انظر: جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني (2/400)، البحر المحيط (8/375-381)، الموافقات (5/79)، شرح تنقيح الفصول (ص432)، إرشاد الفحول (2/367)، التحبير (8/4090)، تيسير التحرير (4/254)، فواتح الرحموت (2/406).

(2) معجم مقاييس اللغة (ص447)، وانظر مادة (رخص) في: المصباح المنير (ص85)، القاموس المحيط (ص800).

(3) انظر: الإحكام للآمدي (1/132)، شرح العضد (2/7)، شرح الكوكب المنير (1/478)، أصول السرخسي (1/117).

(4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام (2/786).

(5) انظر: البحر المحيط (8/381).

(6) شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني (2/400).

(7) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/20)، بلغة السالك (1/19).

(8) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (ص159-160).

(9) التقليد في الشريعة الإسلاميَّة، د. عبد الله الشنقيطي (ص147).

(10) أومأ إلى شيء من ذلك العطار في حاشيته على شرح المحلي (2/442).

(1) انظر: فواتح الرحموت (2/406).

(12) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيميَّة (20/220).

(13) انظر: إعلام الموقعين (4/162).

(14) انظر: قواطع الأدلة (5/134)، المستصفى (2/391)، جمع الجوامع (2/400)، الموافقات (5/82)، البحر المحيط (8/382)، التحبير (8/4090)،

إعلام الموقعين (4/162)، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص208).

(15) انظر: مراتب الإجماع (ص58)، جامع بيان العلم (2/927).

(16) انظر: المسودة (ص518)، إعلام الموقعين (4/162)، التحبير (8/4093).

(17) انظر: شرح المحلي على الجمع (2/400)، البحر المحيط (8/381).

(18) انظر: المسودة (ص519)، وعن رأي القاضي قال ابن مفلح: (وفيه نظر). انظر: أصول ابن مفلح (4/1564).

(19) انظر: المسودة (ص518)، أصول ابن مفلح (4/1564).

(20) انظر: البحر المحيط (8/381)، شرح المحلي على الجمع (2/400).

(21) انظر: الموافقات (5/82).

(22) انظر: الموافقات (5/83)، حاشية العطار (2/442).

(23) انظر: الموافقات (5/102-103).

(24) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/356)، وإسناده حسن.

(25) أخرجه البيهقي في الكبرى (10/356)، وإسناده ضعيف، وله شواهد ومتابعات، انظر: تلخيص الحبير (3/187).

(26) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/356) وإسناده صحيح، وانظر: سير أعلام النبلاء (13/465).

(27) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/927) وإسناده صحيح، وانظر: المسودة (ص518-519).

(28) انظر: المبسوط (7/258)، تيسير التحرير (4/254)، فواتح الرحموت (2/406)، التقرير والتحبير (3/351).

(29) من الآيَة (185) من سورة البقرة.

(30) من الآيَة (78) من سورة الحج.

(31) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (برقم3560)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل (برقم 6045).

(32) انظر: نفائس الأصول (9/4149)، التقرير والتحبير (3/29).

(33) انظر: الموافقات (5/99).

(34) انظر: التقرير والتحبير (3/469)، فواتح الرحموت (2/406).

(35) انظر: فواتح الرحموت (2/406).

(36) انظر: الموافقات (5/67-68-93).

(37) انظر: قواعد الأحكام (2/135-136)، نفائس الأصول (9/4148)، حاشيَة العطار (2/442) ونقله عن العز بن عبد السلام في فتاويه.

(38) انظر: نفائس الأصول (9/4149)، ونقله عنه الإسنوي في التمهيد (ص528).

(39) انظر: حاشيَة العطار (2/442).

(40) مجموع الفتاوى (20/220-221).

(41) انظر: قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (ص160).

(42) انظر: البحر المحيط (8/383).

(43) انظر البحر المحيط (8/375)، تيسير التحرير (4/254)، فواتح الرحموت (2/406).