مقالات وبحوث مميزة

 

 

الصَّحَفيُّ.. المُفتي!

الشيخ ياسر بن علي الشهري

 

النتيجةُ التي لا يفرَحُ بها عاقِلٌ هي أن يُجَرَّ أهلُ العِلمِ والفضلِ إلى سِجالاتٍ وتعَصُّباتٍ ومُناحَراتٍ فِقهيَّةٍ على صفحاتِ وشاشاتِ وسائِلِ الإعلامِ؛ لأنَّ إعلاميًّا محترفًا استطاع أن يصنعَ قضيَّةً حولَ موضوعٍ مفصليٍّ في الخلافِ بين التيَّاراتِ الفِكريَّةِ في المجتَمَعِ، واستطاع بحِرفيَّةٍ توظيفَ مجموعةٍ من القوالِبِ، ومناداةَ مجموعةٍ من الزُّمَلاءِ في وسائِلَ أُخرى؛ لجَعلِ هذه القضيَّةِ حاضرةً في دائرةِ اهتمامِ المجتَمَعِ.

هذه الوضعيَّةُ تصنَعُ ما يُسمَّى بـ"جمهور قَضِيَّة"؛ حيث يبدأ الإعلاميُّ بعدها بالتحَكُّمِ في طريقةِ عَرضِ الآراءِ حولَ القضيَّةِ، فيُضَخِّمُ ويحَجِّمُ، ويمتَدِحُ ويذُمُّ، ويركِّب ويفكِّك، وكُلُّ شيءٍ يخضَعُ لهواه، (ولا عزاءَ لِمن لم يستَفِدْ من تجاربِه مع الإعلامِ!)، حتى ينتهِيَ السِّجالُ إلى نَسفِ رأيٍ فِقهيٍّ في القضيَّةِ، واعتبارِ هذه القضيةِ ليست من الدِّينِ، أو اعتمادِ فتوى أو رأيٍ فِقهيٍّ ضعيفٍ، وإسقاطِ رأيٍ فِقهيٍّ مُعتَبَرٍ، وترسيخِ فِكرةِ تشَدُّدِ أصحابِ الرأيِ المخالِفِ -لرأيِ الصَّحَفيِّ- وجمودِهم الفِكريِّ، وإلصاقِ الصُّوَرِ السَّيِّئةِ بهم، واشتهارِ هذا الصَّحَفيِّ بإعادةِ اكتشافِ الإسلامِ، ومكانتِه اللامعةِ في تطويرِ الفِكرِ الإسلاميِّ!

ما يحدثُ الآن أسوأُ من هذا التوصيفِ البسيطِ؛ فالصَّحَفيُّ يستطيعُ أن يحَدِّدَ القَولَ الفِقهيَّ الذي يرغَبُ في إسقاطِه، أو ترجيحِه –لتوافُقِه مع أهوائِه أو أهواءِ رئيسِ التحريرِ- ثمَّ يبدأُ في مغازلةِ طُلَّابِ العِلمِ وأهلِ الفَضلِ؛ لجمعِ أكبَرِ عددٍ من الأسماءِ لترجيحِ رأيِه الفِقهيِّ بشَكلٍ مباشرٍ، أو من خلالِ التلاعُبِ بالسُّؤالِ والجوابِ؛ للوصولِ إلى نَصٍّ مقارِبٍ لمرادِه، وإن لم يجِدْ مُفتِين يحقِّقون مرادَه أو تنطلي عليهم حِيَلُه، فالحَلُّ يكمُنُ في صناعةِ مُفتِين جُدُدٍ وترويجِهم؛ استعدادًا للاعتمادِ على أقوالِهم!

أستطيعُ المراهَنةَ أنَّ غالِبَ العُلَماءِ وطُلَّابِ العِلمِ الذين نُشِرَ لهم حواراتٌ صَحفيَّةٌ أو آراءٌ في بعضِ القضايا المجتمَعيَّةِ؛ قد تعَرَّضت أحاديثُهم لتغييراتٍ، أقلُّها صياغةُ العناوينِ بالطريقةِ التي تحقِّقُ غَرَضَ الصَّحفيِّ، وتضَعُ المادَّةَ الصَّحفيَّةَ في السِّياقِ العامِّ للرأيِ المرغوبِ ترجيحُه! وإذا كان ذلك مؤشرًا على ضَعفِ الموضوعيةِ لدى بعضِ الإعلاميِّينَ أو الوسائِلِ، فإنَّه مؤشِّرٌ -أيضًا- على ضَعفِ فَهمِ بعضِ الفُضَلاءِ للإعلامِ، وارتجالِهم تحت ضَغطِ فِكرةِ توسيعِ دائرةِ الجُمهورِ (ولا عزاءَ لِمن لم يستَفِدْ من تجاربِه مع الإعلامِ!).

كان المتابِعُ للسَّاحةِ الإعلاميَّةِ في السَّابقِ يخاف خوفًا شديدًا من الآثارِ الفِكريَّةِ التي ربما خلَّفَها "إعلامُ الأهواءِ" على عمومِ النَّاسِ الذين يعتَمِدون على وسائِلِ الإعلامِ كأساسٍ ومَصدَرٍ لإدراكِ البيئةِ المحيطةِ بهم، مع ضَعفِ العِنايةِ بالتمحيصِ والانتقاءِ لدى الأكثَرِيَّةِ، ولكِنْ مع تقَدُّمِ الأيَّامِ وتفَنُّنِ واحترافِ بعضِ الإعلاميِّين، بَرَزت ظاهِرةُ استغلالِ بعضِ طُلَّابِ العِلمِ إعلاميًّا، ووَضْعِهم في مواقِفَ تختَزِلُ معانيَ كثيرةً، وتحمِلُ آراءً فقهيَّةً بطريقةٍ غيرِ مُباشِرةٍ، وساعد على حدوثِ ذلك ضعفُ التخطيطِ للمشاركةِ الإعلاميَّةِ لدى بعضِ طُلَّابِ العِلمِ، ويقينُ بعضِ أهلِ العِلمِ والفَضلِ بقوَّةِ تأثيرِ وسائِلِ الإعلامِ مقارنةً بالاتِّصالِ الجَمْعيِّ! ما أدَّى إلى حَصْرِهم مصادِرَ معلوماتِهم عن المجتَمَعِ -وإدراكهم للواقع- في وسائِلِ الإعلامِ النَّافذةِ، متجاهِلين حقيقةَ عَدَمِ حياديَّةِ هذه الوسائِلِ.

إنَّ حالةَ الاستسلامِ هذه التي يعيشُها بعضُ الفضلاءِ أمامَ قناةٍ مُعَيَّنةٍ أو صحيفةٍ مُعَيَّنةٍ حتى جعَلَها واقعًا حتميًّا في حياتِه- قادت إلى معرفةٍ غيرِ دقيقةٍ بالواقِعِ، وتصَوُّرٍ غيرِ صحيحٍ عنه، خاصَّةً مع تجاهُلِ أنَّ الوسيلةَ الإعلاميَّةَ ليس بمقدورِها أن تغطِّيَ الواقِعَ أو أن تلبِّيَ رغَباتِ وتوَجُّهاتِ كافَّةِ الجُمهورِ، فتضطرُّ اضطرارًا -يفضَحُ الطبيعةَ البشريَّةَ- إلى الاكتفاءِ بتحقيقِ رُؤيةِ ومَصالحِ من يُمَوِّلُها، مِن خِلالِ مُديرِها (حارس البوَّابةِ الإعلاميَّةِ) أو من يُنيبُ!

يجِبُ أن يتفَهَّمَ العالِمُ وطالِبُ العِلمِ أنَّ الوسيلةَ الإعلاميَّةَ عندما تطلُبُ مشاركتَه إنَّما هي تستهدِفُ وَضْعَه في سياقٍ مُعَيَّنٍ يحقِّقُ أهدافَها، وأبسَطُ هذه السِّياقاتِ-في الوسائِلِ ذات التوَجُّهاتِ الفِكريَّةِ المخالِفةِ- أن تكونَ المناسَبةُ دينيَّةً، وتحتاجُ الوسيلةُ إلى تلبيةِ الرَّغَباتِ الدِّينيَّةِ للجُمهورِ، كما في كثيرٍ من البرامِجِ التي تعقُبُ صلاةَ الجُمُعةِ، أو تسبِقُ صلاةَ المغرِبِ في رمضانَ أو في يومِ عَرَفةَ، وأعقَدُ هذه السِّياقاتِ ما يحدُثُ عندما يعمَلُ الإعلاميُّ على إظهارِ العالِم في حديثٍ أو فتوى عن (النمص) -أو ما شابه ذلك- في الوَقتِ الذي تُسحَقُ فيه بقعةٌ مِن بقاع ِالمسلمين؛ لتكونَ الرِّسالةُ غيرُ المباشِرةِ أبلَغَ وأقوى! وهكذا راجت مقولةُ (علماء الحيْض والنِّفاس)!

لقد خَسِرْنا إعلاميًّا على الصَّعيدِ الدِّينيِّ خسائِرَ كثيرةً تحت ضَغطِ تغليبِ حُسنِ الظَّنِّ بالإعلاميِّ على الفِطنةِ في حمايةِ الدَّعوةِ والفتوى وتمثيلِهما خيرَ تمثيلٍ، وتغليبِ الرَّغبةِ الشَّخصيَّةِ في المشاركةِ على تقديرِ المصلحةِ واستشرافِ الآثارِ، وتغليبِ الارتجالِ والسُّرعةِ على التخطيطِ والترَوِّي، وهذا الاندفاعُ في هذه الاتجاهاتِ الثَّلاثةِ قاد إلى تسليمِ "قوة الفتوى" إلى الصَّحَفيِّين، وتزايدت حالاتُ الاضطرابِ في الآراءِ الفِقهيَّةِ الرَّائجةِ بين عامَّةِ النَّاسِ.

الصَّحَفيُّ .. المُفْتي، ينطَلِقُ مِن امتلاكِه صُوَرًا متعدِّدةً للاضطرابِ والاختلافِ بين آراءِ الفَقيهِ الواحِدِ وآراءِ مجموعةٍ مِن الفُقَهاءِ؛ ليؤكِّدَ لجُمهورِه أنَّ الفتوى تتطَوَّرُ، وأنَّه يفتَحُ حواراتٍ لأهلِ العِلمِ لتجليةِ الحقيقةِ، والبَحثِ عن الحُكمِ الشَّرعيِّ الصَّائبِ (عنده طبعًا!)، وأنَّه ليس لعالِمٍ أن يزعُمَ أنَّه يملِكُ الحقيقةَ وَحْدَه، وأنَّ هناك آراءً فِقهيَّةً أُخرى حتى لو كانت لمُبتَدِعٍة.

وفتوى الصَّحفيِّ تتَّخِذُ مُقَدِّمةً (كليشة) معروفةً جديرةً بتمريرِ أيِّ فتوى يُصدرُها: (وتلك سُنَّةٌ سار عليها الفُقَهاءُ والأئمَّةُ قديمًا. فالإمامُ مالِكٌ رحمه اللهُ كان يقولُ: "كلُّ إنسانٍ يُؤخَذُ منه ويُرَدُّ إلَّا صاحِبَ هذا القَبرِ". وكان بذلك يشيرُ إلى قبرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسَلَّم.. والشَّافعيُّ يقولُ: «رأيي صوابٌ يَقبَلُ الخَطَأَ، ورأيُ غيري خطَأٌ يَقبَلُ الصَّوابَ»، بل إنَّ الشَّافِعيَّ «عدَّل» في آرائِه الفِقهيَّةِ بعد رحيلِه من العِرِاق إلى مِصرَ، حين رأى اختلافًا في الحياةِ الاجتماعيَّةِ بين كِلا البلدينِ، ولا يعني ذلك أنَّه أحلَّ حَرامًا أو حرَّم حَلالًا، لكِنَّه أعاد النَّظَرَ في بعض ِاجتهاداتِه الفِقهيَّةِ التي استنبَطَها من الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، وَفْقًا لتغَيُّرِ البيئةِ والظُّروفِ، وهي نظريَّةٌ فِقهيَّةُ يَدرُسُها طلابُ الكُلِّيَّاتِ الشَّرعيَّةِ، لكِنْ قليلٌ من يجتَهِدُ فيها)، ثمَّ يأتي نصُّ فتوى الصَّحَفيِّ، وأحسَنُ اللهُ عزاءَ المجتَمَعِ في العِلمِ والعُلَماءِ.